ما قيل في دفع شبهة إجمال العام بعد التخصيص بالمنفصل - جواب المحقق النائيني عن الشبهة 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4163


ــ[314]ــ

واحد منه تحتاج إلى قرينتين: إحداهما قرينة صارفة. وثانيتهما قرينة معيّنة، وفي المقام وإن كانت القرينة الصارفة موجودة ـ وهي المخصص ـ إلاّ أنّ القرينة المعيّنة غير موجودة، وبدونها لا محالة يكون اللفظ مجملاً.
وقد اُجيب عنه بوجوه: منها ما عن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) وإليك نصه:
والتحقيق في المقام أن يقال: إنّه قد ظهر مما ذكرناه أنّ الميزان في كون اللفظ حقيقةً هو كونه مستعملاً في معناه الموضوع له بحيث إنّ الملقى في الخارج كأ نّه هو نفس ذلك المعنى البسيط العقلاني، وهذا الميزان متحقق فيما إذا خصص العام كتحققه فيما إذا لم يخصص، وذلك من جهة أنّ أداة العموم لا تستعمل إلاّ فيما وضعت له، كما أنّ مدخولها لم يستعمل إلاّ فيما وضع له.
أمّا عدم استعمال المدخول إلاّ في نفس ما وضع له، فلأ نّه لم يوضع إلاّ لنفس الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيدة، ومن الواضح أ نّه لم يستعمل إلاّ فيها، وإفادة التقييد بدال آخر كافادة الاطلاق بمقدمات الحكمة لا تنافي استعمال اللفظ في نفس الطبيعة المهملة كما هو ظاهر، ففي موارد التخصيص بالمتصل قد استعمل اللفظ في معناه، واستفيد قيده الدخيل في غرض المتكلم من دال آخر، وأمّا في موارد التخصيص بالمنفصل فالمذكور في الكلام وإن كان منحصراً بنفس اللفظ الموضوع للطبيعة المهملة، ولأجله كانت مقدمات الحكمة موجبةً لظهوره في إرادة المطلق، إلاّ أنّ الاتيان بالمقيد بعد ذلك يكون قرينةً على أنّ المتكلم اقتصر حينما تكلم على بيان بعض مراده، إمّا لأجل الغفلة عن ذكر القيد أو لمصلحة في ذلك، وعلى كل تقدير فاللفظ لم يستعمل إلاّ في معناه الموضوع له.

ــ[315]ــ

وأمّا عدم استعمال الأداة إلاّ فيما وضعت له فلأ نّها لا تستعمل أبداً إلاّ في معناها الموضوع له، أعني به تعميم الحكم لجميع أفراد ما اُريد من مدخولها، غاية الأمر أنّ المراد من مدخولها ربّما يكون أمراً وسيعاً واُخرى يكون أمراً ضيّقاً، وهذا لا يوجب فرقاً في ناحية الأداة أصلاً.
فإن قلت: إنّ ما ذكرته من عدم استلزام تخصيص العام كونه مجازاً لا في ناحية المدخول ولا في ناحية الأداة، إنّما يتم في المخصصات الأنواعية، فانّها لا توجب إلاّ تقييد مدخولها فلا يلزم مجاز في مواردها أصلاً، وأمّا التخصيصات الأفرادية فهي لا محالة تنافي استعمال الأداة في العموم فتوجب المجازية في ناحيتها.
قلت: ليس الأمر كذلك، فانّ التخصيص الأفرادي أيضاً لا يوجب إلاّ تقييد مدخول الأداة، غاية الأمر أنّ قيد الطبيعة المهملة ربّما يكون عنواناً كلياً كتقييد العالم بكونه عادلاً أو بكونه غير فاسق، وقد يكون عنواناً جزئياً كتقييده بكونه غير زيد مثلاً، وعلى كل حال فقد استعملت الأداة في معناها الموضوع له، ولا فرق فيما ذكرناه من عدم استلزام التخصيص للتجوز بين القضايا الخارجية والقضايا الحقيقية، لأنّ الأداة في كل منهما لا تستعمل إلاّ في تعميم الحكم لجميع أفراد ما اُريد من مدخولها، وأمّا المدخول فهو أيضاً لا يستعمل إلاّ في نفس الطبيعة اللا بشرط القابلة لكل تقييد، وكون القضية خارجية أو حقيقية إنّما يستفاد من سياق الكلام، ولا ربط له بمداليل الألفاظ، نظير استفادة الاخبار والانشاء من هيئة الفعل الماضي على ما تقدم.
وبالجملة: أنّ أداة العموم لا تستعمل إلاّ فيما وضعت له سواء ورد تخصيص على العام أم لم يرد، وسواء أكانت القضية حقيقية أم كانت خارجية، فلا فرق

ــ[316]ــ

بين موارد التخصيص وغيرها، إلاّ أنّ التخصيص بالمتصل أو المنفصل يوجب تقييد مدخول الأداة، ومن الظاهر أنّ التقييد لا يوجب كون ما يرد عليه القيد مستعملاً في غير ما وضع له أصلاً على ما سيجيء تحقيقه في محله إن شاء الله تعالى.
وأمّا توهم أنّ التخصيص إذا كان راجعاً إلى تقييد مدخول أداة العموم ورافعاً لاطلاقه كان حال العام حال المطلق الشمولي في أنّ استفادة العموم منه تحتاج إلى جريان مقدمات الحكمة في مورده، وعليه فلا وجه لما تقدّم سابقاً من تقدم العام على المطلق عند التعارض، وبالجملة أنّ شمول الحكم لكل فرد من أفراد العام إن كان مستنداً إلى الدلالة الوضعية كان التخصيص الكاشف عن عدم الشمول مستلزماً لكون العام مجازاً، وإن لم يكن الشمول المزبور مستنداً إلى الوضع، بل كان مستفاداً من مقدمات الحكمة لم يكن موجب لتقدم العام على المطلق عند المعارضة.
فهو مدفوع بما مرّ في بحث مقدمة الواجب من أنّ إحراز لحاظ الماهية مطلقة وإن كان يتوقف على جريان مقدمات الحكمة في كل من المطلق والعام، إلاّ أنّ وجه تقدم العام على المطلق إنّما هو من جهة أنّ أداة العموم تتكفل بمدلولها اللفظي سراية الحكم بالاضافة إلى كل ما يمكن أن ينقسم إليه مدخولها، وهذا بخلاف المطلق، فانّ سراية الحكم فيه إلى الأقسام المتصورة له إنّما هي من جهة حكم العقل بتساوي أفراد المطلق، وحيث ما فرض هناك عام دلّ بمدلوله اللفظي على عدم تسوية أفراد المطلق فهو يكون بياناً له ومانعاً من سراية الحكم الثابت له إلى تمام أفراده (1).
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 303 ـ 306.

ــ[317]ــ

نلخّص ما أفاده (قدس سره) في عدة نقاط:
الاُولى: أنّ تخصيص العام لا يوجب التجوز لا في أداة العموم ولا في مدخولها، أمّا في الاُولى فلأ نّها دائماً تستعمل في معناها الموضوع له، وهو تعميم الحكم لجميع ما يراد من مدخولها، أي سواء أكان ما يراد منه معنىً وسيعاً أو ضيّقاً، وسواء أكان الدال على الضيق القرينة المتصلة أم كانت القرينة المنفصلة، فانّها في جميع هذه الحالات والفروض مستعملة في معناها الموضوع له بلا تفاوت أصلاً. وأمّا في الثاني فالأمر واضح، حيث إنّ المدخول كالرجل ونحوه وضع للدلالة على الماهية المهملة التي لم تلحظ معها خصوصية من الخصوصيات منها الاطلاق والتقييد، فهما كبقية الخصوصيات خارجان عن حريم المعنى، فاللفظ لا يدل إلاّ على معناه، ولم يستعمل إلاّ فيه، وإفادة التقييد إنّما هي بدال آخر، كما أنّ إفادة الاطلاق بمقدمات الحكمة.
الثانية: أ نّه لا فرق فيما ذكرناه من أنّ تخصيص العام لا يوجب تجوّزاً لا في ناحية الأداة ولا في ناحية المدخول، بين كون المخصصات ذات عناوين نوعية وكونها ذات عناوين فردية، ولا بين القضايا الحقيقية والقضايا الخارجية.
الثالثة: أنّ العام والمطلق يشتركان في نقطة ويفترقان في نقطة اُخرى، أمّا نقطة الاشتراك فهي أنّ إحراز إطلاق الماهية بجريان مقدمات الحكمة مشترك فيه بين العام والمطلق. وأمّا نقطة الافتراق فهي أنّ أداة العموم تتكفل بمدلولها اللفظي سراية الحكم إلى جميع ما يراد من مدخولها من الأقسام والأصناف، وأمّا المطلق فانّ سراية الحكم فيه إلى جميع الأقسام المتصورة له تتوقف على مقدمة اُخرى وهي حكم العقل بتساوي أفراده في انطباقه عليها.
ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط:

ــ[318]ــ

أمّا النقطة الاُولى: فهي في غاية الصحة والمتانة حتى بناءً على نظريتنا من أنّ أداة العموم بنفسها متكفلة لافادة العموم وعدم دخل خصوصية مّا في حكم المولى وغرضه.
بيان ذلك: أنّ الدلالات على ثلاثة أقسام:
الأوّل: الدلالة التصورية ـ الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ ـ وهي لا تتوقف على شيء ما عدا العلم بالوضع فهي تابعة له، وليس لعدم القرينة دخل فيها، فالعالم بوضع لفظ خاص لمعنىً مخصوص ينتقل إليه من سماعه ولو افترضنا أنّ المتكلم نصب قرينةً على عدم إرادته، بل ولو افترضنا صدوره عن لافظ بلا شعور واختيار أو عن شيء آخر كاصطكاك حجر بحجر مثلاً، وقد ذكرنا في محلّه(1) أنّ هذه الدلالة غير مستندة إلى الوضع بل هي من جهة الاُنس الحاصل من كثرة استعمال اللفظ في معناه أو غيره مما يوجب هذه الدلالة.
الثاني: الدلالة التفهيمية ويعبّر عنها بالدلالة التصديقية أيضاً من جهة تصديق المخاطب المتكلم بأ نّه أراد تفهيم المعنى للغير، وهي عبارة عن ظهور اللفظ في كون المتكلم به قاصداً لتفهيم معناه، وهذه الدلالة تتوقف زائداً على العلم بالوضع على إحراز أنّ المتكلم في مقام التفهيم وأ نّه لم ينصب قرينةً متصلةً في الكلام على الخلاف ولا ما يصلح للقرينية، وإلاّ فلا دلالة له على الارادة التفهيمية، وقد ذكرنا في أوّل الاُصول بشكل موسّع أنّ هذه الدلالة مستندة إلى الوضع. أمّا على ضوء نظريتنا في حقيقة الوضع حيث إنّه عبارة عن التعهد والالتزام النفساني فالاستناد إليه واضح، ضرورة أ نّه لا معنى للتعهد والالتزام
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص 115.

ــ[319]ــ

بكون اللفظ دالاً على معناه ولو صدر عن لافظ بلا شعور واختيار، فانّ هذا أمر غير اختياري فلا معنى لكونه طرفاً للالتزام والتعهد، حيث إنّهما لا يتعلقان إلاّ بما هو تحت اختيار الانسان وقدرته، وعليه فلا مناص من الالتزام بتخصيص العلقة الوضعية بصورة قصد تفهيم المعنى من اللفظ وإرادته، سواء أكانت الارادة تفهيمية محضة أم كانت جدية أيضاً، وتمام الكلام من هذه الناحية هناك. وأمّا على ضوء نظرية القوم في هذا الباب فالأمر أيضاً كذلك على ما ذكرناه هناك. فالنتيجة أنّ هذه الدلالة هي الدلالة الوضعية.
الثالث: الدلالة التصديقية، وهي دلالة اللفظ على أنّ الارادة الجدية على طبق الارادة الاستعمالية، يعني أ نّهما متحدتان في الخارج. وهذه الدلالة ثابتة ببناء العقلاء وتتوقف زائداً على ما مرّ على إحراز عدم وجود قرينة منفصلة على الخلاف أيضاً. ومع وجودها لا يكون ظهور الكلام كاشفاً عن المراد الجدي، فهذه القرينة إنّما هي تمنع عن كشف هذا الظهور عن الواقع وحجيته لا عن أصله، فانّ الشيء إذا تحقق لم ينقلب عمّا هو عليه. والحاصل أنّ بناء العقلاء قد استقر على أنّ الارادة التفهيمية مطابقة للارادة الجدية ما لم تقم قرينة على الخلاف.
وبعد ذلك نقول: إنّ العام إذا ورد في كلام المتكلم من دون نصبه قرينة على عدم إرادة معناه الحقيقي، فهو لا محالة يدل بالدلالة الوضعية على أنّ المتكلم به أراد تفهيم المخاطب لتمام معناه الموضوع له، كما أ نّه يدل ببناء العقلاء على أنّ إرادته تفهيم المعنى إرادة جدية ناشئة عن كون الحكم المجعول على العام ثابتاً له واقعاً. ولكن هذه الدلالة أي الدلالة الثانية كما تتوقف على إحراز كون المتكلم في مقام الافادة وعدم نصبه قرينة على اختصاص الحكم ببعض أفراد العام في نفس الكلام، كذلك تتوقف على عدم إتيانه بقرينة تدل على

ــ[320]ــ

الاختصاص بعد تمامية الكلام ومنفصلة عنه، فانّ القرينة المنفصلة تكون مانعةً عن كشف ظهور العام في كون الحكم المجعول له إنّما هو بنحو العموم في الواقع ونفس الأمر، حيث إنّها تزاحم حجية ظهور العام في العموم التي هي ثابتة ببناء العقلاء وتعهّدهم، ولا تزاحم أصل ظهوره في ذلك الذي هو ثابت بمقتضى ما ذكرناه من التعهد والالتزام، يعني ظهوره في الارادة التفهيمية وكشفه عنها.
وعليه فلا ملازمة بين رفع اليد عن حجية الظهور لدليل ورفع اليد عن أصله، بداهة أ نّه لا ملازمة بين كون المعنى مراداً للمتكلم في مقام التفهيم وكونه مراداً له في مقام الواقع والجد، فاذا افترضنا أنّ المولى في الواقع لا يريد في مثل قوله: أكرم كل عالم إلاّ إكرام العالم العادل دون غيره، ولكن لم يتمكن من تقييده بذلك في نفس الكلام، إمّا لوجود مفسدة فيه أو مصلحة في تأخيره من ناحية، ولم يتمكن من تأخير بيان الحكم في الواقعة إلى زمان يتمكن من تقييده من ناحية اُخرى، فبطبيعة الحال يلقى الكلام على نحو العموم، ومن المعلوم أ نّه بمقتضى الوضع يدل على إرادة تفهيم المعنى العام، فاذا جاء بعد ذلك بالمخصص المنفصل الدال على اختصاص الحكم بغير أفراد الخاص في الواقع، فانّه لا محالة يكشف عن أنّ الداعي إلى إرادة تفهيم المعنى العام ليس هو الارادة الجدية الناشئة من ثبوت المصلحة في جميع أفراد العام في نفس الأمر بل الداعي لها شيء آخر.
وعلى الجملة: فاللفظ بمقتضى تعهّد الواضع والتزامه بأ نّه متى ما أراد معنىً خاصاً أن يجعل مبرزه لفظاً مخصوصاً، يدل على إرادة تفهيم معناه إذا كان المتكلم في مقام بيان ذلك ولم يأت بقرينة متصلة في الكلام، وأمّا إذا لم يكن في مقام بيان ذلك بل كان في مقام عدّ الجملات مثلاً، أو كان في مقام البيان ولكنّه أتى بقرينة متصلة فيه، ففي مثل ذلك على الأوّل لا تعهّد له أصلاً، لا بالاضافة

 
 

ــ[321]ــ

إلى إرادة تفهيم المعنى الحقيقي، ولا بالاضافة إلى إرادة تفهيم المعنى المجازي. وعلى الثاني فله تعهد بالاضافة إلى إرادة تفهيم المعنى المجازي دون الحقيقي. وأمّا دلالة اللفظ على إرادة المعنى عن جدٍّ فهي دلالة اُخرى غير الدلالة الاُولى، حيث إنّ الاُولى مستندة إلى الوضع دون تلك، فانّها مستندة إلى تباني العقلاء وتعهّدهم، ومن هنا قد يشك في هذه الدلالة مع القطع بالدلالة الاُولى، وهذا يكشف عن أ نّه لا ملازمة بين الدلالتين، يعني أنّ هدم الدلالة الثانية بالقرينة لايلازم هدم الدلالة الاُولى، والسر فيه ما عرفت من أنّ الدلالة الاُولى مستندة إلى تعهد الواضع، والدلالة الثانية مستندة إلى تعهد العقلاء، ولذا لو ادعى المتكلم خلاف التعهد الأوّل أو الثاني لم يسمع منه ما لم ينصب قرينة على ذلك، فان نصب قرينةً متصلةً فهي تدل على أ نّه أراد خلاف تعهّد الواضع، وإن نصب قرينةً منفصلةً فهي تدل على أ نّه أراد خـلاف تعهد العقـلاء، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أنّ ملاك الحقيقة هو كون استعمال اللفظ في المعنى على طبق مقتضى الوضع، وملاك المجاز هو كون استعمال اللفظ في المعنى على خلاف مقتضاه من جهة قرينة تدل عليه، وقد عرفت أنّ اللفظ بمقتضى الوضع إنّما يدل على إرادة تفهيم المعنى فحسب دون أزيد من ذلك، وهذه الدلالة دلالة حقيقية حيث إنّها استعمال اللفظ في معناه الموضوع له، وأمّا كون هذا المعنى مراداً بارادة جدية أيضاً فهو متوقف على عدم قرينة منفصلة وإلاّ فلا دلالة له على ذلك أصلاً، فالقرينة المنفصلة إنّما هي تمنع عن حجية الظهور وكشفه عن المراد الجدي والواقعي، ولا تمنع عن ظهوره في إرادة تفهيمه الذي هو مستند إلى الوضع، وعليه فاذا ورد عام من المولى ثمّ ورد مخصص منفصل فهذا المخصص المنفصل إنّما يزاحم حجية ظهور العام في العموم ومانع عن كشفه عن الواقع،

ــ[322]ــ

دون أصل ظهوره، ضرورة أنّ ظهوره في أنّ المولى أراد تفهيم المعنى العام باق على حاله، والمفروض أنّ هذا الظهور كاشف عن أنّ المتكلم استعمل اللفظ في معناه الموضوع له.
فالنتيجة: أنّ إرادة المتكلم تفهيم المخاطب لمعنى اللفظ الموضوع له أمر، وكون هذه الارادة جدية وناشئة عن ثبوت الحكم لجميع أفراد المستعمل فيه أمر آخر، والمفروض أنّ المخصص المنفصل إنّما يكون كاشفاً عن عدم ثبوت الحكم لجميع أفراد العام في الواقع ونفس الأمر، لا عن كون استعمال العام استعمالاً مجازياً، ضرورة أ نّك قد عرفت ملاك الاستعمال المجازي والاستعمال الحقيقي وأ نّه لا صلة للمخصص المنفصل بهما أصلاً، لا وجوداً ولا عدماً.
قد يقال كما قيل: إنّ المخصص المنفصل إذا كان كاشفاً عن المراد الجدي وأ نّه غير مطابق للمراد الاستعمالي ـ وهو العموم ـ فما هو فائدة التكلم بالعام واستعماله في العموم، وما هو الأثر المترتب على عموم المراد الاستعمالي بعد ما لم يكن مراداً جداً وواقعاً.
وفيه: مضافاً إلى أنّ استعمال العام في العموم كما عرفت قد يكون مما لا بدّ منه، نظراً إلى أنّ المتكلم قد لا يتمكن من التكلم بالخاص لأجل مفسدة فيه أو مصلحة في تأخيره أو تقية أو ما شاكل ذلك، أنّ استعماله فيه إنّما هو ضرب للقاعدة والقانون، حيث إنّه لا يجوز التعدي عنه والخروج عن مقتضاه إلاّ بقيام دليل على خلافه، فهو حجة بهذا العنوان العام بالاضافة إلى جميع موارده وصغرياته إلاّ ما قام الدليل على خروجه عنه فنأخذ به، وفي الزائد نرجع إلى عمومه قاعدةً وقانوناً.
وأمّا النقطة الثانية: فالأمر فيها أيضاً كذلك، يعني أ نّه لا فرق بين كون

ــ[323]ــ

المخصص ذا عنوان نوعي أو فردي، فعلى كلا التقديرين لا يوجب التجوّز في ناحية العام.
وأمّا النقطة الثالثة: فيردّها ما تقدم منّا بشكل موسّع من أنّ أداة العموم بنفسها تدل على أنّ مدخولها ملحوظ مطلقاً، أي بدون أخذ خصوصية ما فيه، من دون حاجة إلى إجراء مقدمات الحكمة.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة: وهي أنّ التخصيص في العام لا يوجب تجوّزاً فيه، بل هو مستعمل في معناه الموضوع له مطلقاً وإن لم يكن المستعمل فيه مراداً للمتكلم بالارادة الجدية.
وعلى ضوء ما ذكرناه يظهر فساد ما أورده شيخنا الاُستاذ (قدس سره)(1)على هذا الوجه، وحاصله: أنّ الارادة الاستعمالية إن اُريد بها إرادة إيجاد المعنى البسيط العقلاني باللفظ بحيث كان اللفظ والارادة مغفول عنهما حين الاستعمال باعتبار أنّ النظر إليهما آلي، فهذه بعينها هي الارادة الجدية التي يتقوم بها استعمال اللفظ في المعنى. وإن اُريد بها الارادة الهزلية في مقابل الارادة الجدية، فهي وإن كانت لا تنافي استعمال اللفظ في معناه الموضوع له، لوضوح أنّ الاستعمال الحقيقي لا يدور مدار كون الداعي إلى الاستعمال هو خصوص الارادة الجدية، إلاّ أ نّه لا يعقل الالتزام بكون الداعي إلى استعمال العمومات الواردة في الكتاب والسنّة في معانيها هو الارادة الهزلية.
وجه الظهور: ما عرفت من أنّ الارادة الاستعمالية وإن كانت قد تتحد مع الارادة الجدية إلاّ أ نّها قد تفترق عنها فيكون المعنى مراداً استعمالياً ولم يكن
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 301.

ــ[324]ــ

مراداً عن جد، ولا يلزم حينئذ أن تكون تلك الارادة إرادة هزلية، ضرورة أ نّه لا ملازمة بين عدم كون الارادة جدية وكونها هزلية، فانّ إرادة الاستعمال والتفهيم إرادة حقيقية وليست بهزلية وناشئة عن داع من الدواعي ولم يكن ذلك الداعي الارادة الجدية، وقد عرفت ما هو الداعي لهذه الارادة وما هو الفائدة المترتبة عليها، ومع هذا كيف تكون هزلية.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net