تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4425


ــ[443]ــ
 

تعقّب العام بضمير

إذا عقّب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده، فبطبيعة الحال يدور الأمر بين التصرف في العام بالالتزام بتخصيصه وبين التصرف في الضمير بالالتزام بالاستخدام فيه، ومثّلوا لذلك بقوله تعالى: (وَا لْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ) إلى قوله تعالى: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ)(1) فانّ كلمة المطلّقات تعمّ الرجعيات وغيرها، والضمير في قوله تعالى: (وَبُعُولَتُهُنَّ) يرجع إلى خصوص الرجعيات، حيث إنّ حقّ الرجوع للزوج إنّما ثبت فيها دون غيرها من المطلّقات، فاذن يقع الكلام في أنّ المرجع في المقام هل هو أصالة العموم أم أصالة عدم الاستخدام أم لا هذا ولا ذاك؟ وجوه بل أقوال.
اختار المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) (2) القول الأخير، وأفاد في وجه ذلك ما توضيحه: لا يمكن الرجوع في المقام لا إلى أصالة العموم ولا إلى أصالة عدم الاستخدام. أمّا أصالة العموم فلأنّ تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده يصلح أن يمنع عن انعقاد ظهوره فيه، حيث إنّ ذلك داخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية بنظر العرف، ومعه لا ظهور له حتى يتمسك به إلاّ على القول باعتبار أصالة الحقيقة تعبداً وهو غير ثابت جزماً. وأمّا أصالة عدم الاستخدام فلأنّ الأصل اللفظي إنّما يكون متبعاً ببناء العقلاء فيما إذا
ـــــــــــــــــــــ
(1) البقرة 2: 228.
(2) كفاية الاُصول: 233.

ــ[444]ــ

شك في مراد المتكلم من اللفظ، وأمّا إذا كان المراد معلوماً وكان الشك في كيفية إرادته وأ نّها على نحو الحقيقة أو المجاز فلا أصل هناك لتعيّنها.
وعلى الجملة: فالاُصول اللفظية بشتى أشكالها إنّما تكون حجةً في تعيين المراد من اللفظ فحسب، دون كيفية إرادته من عموم أو خصوص وحقيقة أو مجاز، لفرض عدم بناء من العقـلاء على العمل بها لتعيينها وإنّما بناؤهم على العمل بها في تعيين المراد عند الشك فيه، وبما أنّ المراد من الضمير فيما نحن فيه معلوم والشك إنّما هو في كيفية استعماله وأ نّه على نحو الحقيقة أو المجاز، فلا يمكن التمسك بأصالة عدم الاستخدام لاثبات كيفية استعماله، لعدم بناء من العقلاء على العمل بها في هذا المورد على الفرض، والدليل الآخر غير موجود.
فالنتيجة لحدّ الآن: هي عدم جريان كلا الأصلين في المقام، لكن كلّ بملاك، فانّ أصالة العموم بملاك اكتناف العام بما يصلح للقرينية، وأصالة عدم الاستخدام بملاك أنّ الشك فيها ليس في المراد وإنّما هو في كيفية استعماله، فاذن لا مناص من القول بالتوقف في المسألة من هذه الناحية، هذا.
ولكن قد اختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) القول الأوّل وهو جريان أصالة العموم دون أصالة عدم الاستخدام، وقد أفاد في وجه ذلك وجوهاً:
الأوّل: أنّ الاستخدام في الضمير إنّما يلزم فيما إذا اُريد من المطلّقات في الآية الكريمة معناها العام ومن الضمير الراجع إليها خصوص الرجعيات منها، ومن الواضح أنّ هذا يقوم على أساس أن يكون العام بعد التخصيص مجازاً، إذ على هذا يكون للعام معنيان: أحدهما معنىً حقيقي وهو جميع ما يصلح أن ينطبق عليه مدخول أداة العموم. وثانيهما معنىً مجازي وهو الباقي من أفراده بعد
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 369 ـ 370.

ــ[445]ــ

تخصيصه، وعليه فبطبيعة الحال إذا اُريد بالعام معناه الحقيقي وبالضمير الراجع إليه معناه المجازي لزم الاستخدام. وأمّا بناءً على ما هو الصحيح من أنّ العام لا يكون مجازاً بعد التخصيص فلا يكون له إلاّ معنىً واحد حقيقي وليس له معنىً آخر ليراد من الضمير الراجع إليه معنىً مغاير لما اُريد من نفسه كي يلزم الاستخدام.
ويرد على هذا الوجه: أنّ لزوم الاستخدام في طرف الضمير لا يتوقف على كون العام مجازاً بعد التخصيص، ضرورة أ نّه لو اُريد من العام جميع أفراده ومن الضمير الراجع إليه بعضها فهو استخدام وإن لم يستلزم كون العام مجازاً، حيث إنّه خلاف الظاهر، فانّ الظاهر اتحاد المراد من الضمير وما يرجع إليه، وملاك الاستخدام هو أن يكون على خلاف هذا الظهور ولأجل ذلك يحتاج إلى قرينة، وإذا لم تكن فالأصل يقتضي عدمه، فالمراد من أصالة عدم الاستخدام هو هذا الظهور.
الثاني: أنّ أصالة عدم الاستخدام لا تجري في نفسها ولو مع قطع النظر عن معارضتها بأصالة العموم، والسبب في ذلك ما أشرنا إليه في ضمن البحوث السالفة(1) من أنّ أصالة الظهور إنّما تكون حجةً إذا كان الشك في مراد المتكلم، وأمّا إذا كان المراد معلوماً وكان الشك في كيفية إرادته من أ نّه على نحو الحقيقة أو المجاز فلا تجري. وما نحن فيه من هذا القبيل فانّ أصالة عدم الاستخدام إنّما تجري إذا كان الشك فيما اُريد بالضمير، وأمّا إذا كان المراد به معلوماً والشك في الاستخدام وعدمه إنّما هو من ناحية الشك فيما اُريد بالمرجع فلا مجال لجريانها أصلاً.
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 392.

ــ[446]ــ

ويرد على هذا الوجه: أنّ المراد بالضمير في المقام وإن كان معلوماً، إلاّ أنّ من يدعي جريان أصالة عدم الاستخدام لا يدّعي ظهور نفس الضمير في إرادة شيء ليرد عليه ما أفاده (قدس سره)، بل إنّما هو يدعي ظهور الكلام بسياقه في اتحاد المراد بالضمير وما يرجع إليه، يعني ظهور الضمير في رجوعه إلى عين ما ذكر أوّلاً، لا إلى غير ما اُريد منه، وحيث إنّ المراد بالضمير في مورد الكلام معلوم، فبطبيعة الحال يدور الأمر بين رفع اليد عن الظهور السياقي الذي مردّه إلى عدم إرادة العموم من العام ورفع اليد عن أصالة العموم التي تقتضي الالتزام بالاستخدام.
ولكنّ الظاهر بحسب ما هو المرتكز في أذهان العرف في أمثال المقام هو تقديم أصالة عدم الاستخدام ورفع اليد عن أصالة العموم، بل الأمر كذلك بنظرهم حتى فيما إذا دار الأمر بين رفع اليد عن أصالة عدم الاستخدام ورفع اليد عن ظهور اللفظ في كون المعنى المراد به المعنى الحقيقي، يعني يلزم في مثل ذلك أيضاً رفع اليد عن ظهور اللفظ في إرادة المعنى الحقيقي وحمله على إرادة المعنى المجازي، مثلاً في مثل قولنا: رأيت أسداً وضربته يتعيّن حمله على إرادة المعنى المجازي وهو الرجل الشجاع إذا علم أ نّه المراد بالضمير الراجع إليه.
فالنتيجة في نهاية الشوط: هي أنّ أصالة عدم الاستخدام تتقدم بنظر العرف على أصالة العموم فيما إذا دار الأمر بينهما.
الثالث: أ نّنا لو سلّمنا جريان أصالة عدم الاستخدام مع العلم بالمراد، إلاّ أ نّها إنّما تجري فيما إذا كان الاستخدام من جهة عقد الوضع، كما إذا قال المتكلم: رأيت أسداً وضربته وعلمنا أنّ مراده بالضمير هو الرجل الشجاع واحتملنا أن يكون المراد بلفظ الأسد الحاكي عما وقع عليه الرؤية هو الرجل الشجاع

ــ[447]ــ

أيضاً لئلاّ يلزم الاستخدام، وأن يكون المراد به الحيوان المفترس ليلزم ذلك، ففي مثل ذلك نسلّم جريان أصالة عدم الاستخدام دون أصالة العموم فيثبت بها أنّ المراد بلفظ الأسد في المثال هو الرجل الشجاع دون الحيوان المفترس.
وأمّا فيما نحن فيه فليس ما استعمل فيه الضمير هو خصوص الرجعيات، بل الضمير قد استعمل فيما استعمل فيه مرجعه يعني كلمة المطلّقات في الآية الكريمة، فالمراد بالضمير فيها إنّما هو مطلق المطلّقات، وإرادة خصوص الرجعيات منها إنّما هي بدال آخر ـ وهو عقد الحمل في الآية ـ فانّه يدل على كون الزوج أحق برد زوجته.
فالنتيجة: أنّ ما استعمل فيه الضمير هو بعينه ما استعمل فيه المرجع، وعليه فأين الاستخدام في الكلام لتجري أصالة عدمه فتعارض بها أصالة العموم، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أنّ ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من أ نّه لا يمكن الرجـوع في المقام إلى أصالة العموم أيضاً من جهة اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً، وذلك لأنّ الملاك في مسألة احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية إنّما هو اشتمال الكلام على لفظ مجمل من حيث المعنى بحيث يصح اتكال المتكلم عليه في مقام بيان مراده كما في مثل قولنا: أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم إذا افترضنا أنّ لفظ الفاسق يدور أمره بين خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم منه ومن مرتكب الصغيرة، فلا محالة يسري إجماله إلى العام.
ولكن هذا خارج عن ما نحن فيه، فانّ ما نحن فيه هو ما إذا كان الكلام متكفلاً لحكمين متغايرين كما في الآية الكريمة حيث إنّ الجملة المشتملة على

ــ[448]ــ

العام متكفلة لحكم ـ وهو لزوم التربص والعدة ـ والجملة المشتملة على الضمير متكفلة لحكم آخر مغاير له ـ وهو أحقية الزوج بالرجوع إلى الزوجة في مدة التربص والعدة ـ والحكم الأوّل ثابت لجميع أفراد العام، والحكم الثاني ثابت لبعض أفراده، ومن الواضح أنّ ثبوت الحكم الثاني لبعض أفراده لا يكون قرينةً على اختصاص الحكم الأوّل به أيضاً، ضرورة أ نّه لا صلة له به من هذه الناحية أصلاً، كيف حيث قد عرفت أ نّه حكم مغاير له.
وإن شئت قلت: إنّه لا مانع من أن يكون العام بجميع أفراده محكوماً بحكم وببعضها محكوماً بحكم آخر مغاير للأوّل، ولا مقتضي لكون الثاني قرينة على تخصيص الأوّل بوجه، وهذا بخلاف ما إذا كان الكلام متكفلاً لحكم واحد كالمثال المتقدم حيث إنّ إجمال المخصص فيه يسري إلى العام لا محالة.
إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة: وهي أنّ المقام غير داخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية.
ويرد على هذا الوجه: أنّ ما أفاده (قدس سره) من كون الضمير في الآية الكريمة مستعملاً في العموم وإن كان في غاية الصحة والمتانة، حيث إنّ قيام الدليل الخارجي على عدم جواز الرجوع إلى بعض أقسام المطلّقات في أثناء العدة لا يوجب استعمال الضمير في الخصوص، أعني به خصوص الرجعيات من أقسام المطلّقات، وذلك لما حققناه في ضمن البحوث السالفة(1) من أنّ التخصيص لا يستلزم كون العام مجازاً، إلاّ أنّ ما أفاده (قدس سره) من كون الدال على اختصاص الحكم بالرجعيات هو عقد الحمل المذكور في الآية الكريمة وهو قوله تعالى: (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) حيث إنّه يدل على كون الزوج أحق
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 318.

ــ[449]ــ

برد زوجته، خاطئ جداً.
والسبب فيه: أنّ الآية المباركة تدل على أنّ الحكم المذكور فيها عام لجميع المطلّقات بشتى ألوانها وأشكالها من دون اختصاصه بقسم خاص منها، فليس فيها ما يدل على الاختصاص، فالاختصاص إنّما ثبت بدليل خارجي ولأجل ذلك يكون حاله حال المخـصص المنفصل، يعني أ نّه لا يستلزم كون اللفظ مستعملاً في خصوص ما ثبت له الحكم في الواقع.
وبكلمة اُخرى: أنّ الآية الكريمة قد تعرّضت لثبوت حكمين للمطلّقات: أحدهما لزوم التربص والعدة لهنّ. وثانيهما أحقية الزوج بردّ زوجته، فلو كنّا نحن والآية المباركة لقلنا بعموم كلا الحكمين لجميع أقسام المطلّقات، حيث ليس فيها ما يدل على الاختصاص ببعض أقسامهنّ، وإنّما ثبت ذلك بدليل خارجي، فقد دلّ دليل من الخارج على أنّ الحكم الثاني خاص بالرجعيات فحسب دون غيرها من أقسام المطلّقات.
كما أنّ الدليل الخارجي قد دلّ على أنّ الحكم الأوّل خاص بغير اليائسة ومن لم يدخل بها، فاذن بطبيعة الحال كما أنّ لفظ المطلّقات في الآية استعمل في معنىً عام والتخصيص إنّما هو بدليل خارجي وهو لايوجب استعماله في الخاص، كذلك الحال في الضمير فانّه استعمل في معنىً عام والتخصيص إنّما هو من جهة الدليل الخارجي وهو لا يوجب استعماله في الخاص.
وأمّا ما أفاده (قدس سره) من أنّ المقام غير داخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية وإن كان تاماً كما عرفت تفصيله بشكل موسّع في ضمن كلامه (قدس سره) إلاّ أنّ هنا نكتة اُخرى وهي تمنع عن التمسك بأصالة العموم، وتلك النكتة هي التي أشرنا إليها سابقاً من أنّ المرتكز العرفي في أمثال

ــ[450]ــ

المقام هو الأخذ بظهور الكلام في اتحاد المراد من الضمير مع ما يرجع إليه ورفع اليد عن ظهور العام في العموم، يعني أنّ ظهور الكلام في الاتحاد يكون قرينةً عرفيةً لرفع اليد عن أصالة العموم، إذ من الواضح أنّ أصالة العموم إنّما تكون متبعةً فيما لم تقم قرينة على خلافها، ومع قيامها لا مجال لها.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهاتين النتيجتين:
الاُولى: أنّ الصحيح في المسألة هو القول الثاني، يعني الأخذ بأصالة عدم الاستخدام دون أصالة العموم، لما عرفت من النكتة فيه. وعليه ففي كل مورد إذا فرض دوران الأمر بين الالتزام بالاستخدام ورفع اليد عن أصالة العموم، كان اللازم هو رفع اليد عن أصـالة العموم وإبقاء ظهور الكلام في عدم الاستخدام.
الثانية: أنّ الآية الكريمة أو ما شاكلها خارجة عن موضوع المسألة، حيث إنّ موضوع المسألة هو ما إذا استعمل الضمير الراجع إلى العام في خصوص بعض أقسامه فدار الأمر بين الالتزام بالاستخدام ورفع اليد عن أصالة العموم، وقد عرفت أنّ الضمـير الراجع إلى العام في الآية المباركة غير مستعمل في خصوص بعض اقسامه، بل هو مستعمل في العام، والتخصيص إنّما هو من جهة الدليل الخارجي وهو لا يوجب كونه مستعملاً في خصوص الخاص.
ثمّ إنّه هل يكون لهذه المسألة صغرىً في الفقه أم لا؟ الظاهر عدمها، حيث إنّه لم يوجد في القضايا المتكفلة ببيان الأحكام الشرعية مورد يدور الأمر فيه بين رفع اليد عن أصالة العموم ورفع اليد عن أصالة عدم الاستخدام، وعلى هذا الضوء فلا تترتب على البحث في هذه المسألة ثمرة في الفقه.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net