تعقب الاستثناء لجمل متعددة 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4530


ــ[463]ــ
 

تعقّب الاستثناء للجملات

إذا تعقب الاستثناء جملاً متعددة فهل الظاهر هو رجوعه إلى الجميع أو إلى خصوص الأخيرة أو لا ظهور له في شيء منهما؟ فيه وجوه بل أقوال.
ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) بقوله: والظاهر أ نّه لا خلاف ولا إشكال في رجوعه إلى الأخيرة على أيّ حال، ضرورة أنّ رجوعه إلى غيرها بلا قرينة خارج عن طريقة أهل المحاورة، وكذا في صحة رجوعه إلى الكل، وإن كان المتراءى من صاحب المعالم (قدس سره) حيث مهّد مقدمةً لصحة رجوعه إليه أ نّه محل الاشكال والتأمل، وذلك ضرورة أنّ تعدد المستثنى منه كتعدد المستثنى لا يوجب تفاوتاً أصلاً في ناحية الأداة بحسب المعنى، كان الموضوع له في الحروف عاماً أو خاصاً، وكان المستعمل فيه الأداة فيما كان المستثنى منه متعدداً هو المستعمل فيه فيما كان واحداً كما هو الحال في المستثنى بلا ريب ولا إشكال. وتعدد المخرج أو المخرج عنه خارجاً لا يوجب تعدد ما استعمل فيه أداة الاخراج مفهوماً، وبذلك يظهر أ نّه لا ظهور لها في الرجوع إلى الجميع أو خصوص الأخيرة وإن كان الرجوع إليها متيقناً على كل تقدير. نعم، غير الأخيرة أيضاً من الجمل لا يكون ظاهراً في العموم لاكتنافه بما لايكون معه ظاهراً فيه، فلا بدّ في مورد الاستثناء فيه من الرجوع إلى الاُصول، إلاّ أن يقال بحجية أصالة الحقيقة تعبداً لا من باب الظهور فيكون المرجع عليه أصالة العموم إذا كان وضعياً، لا ما إذا كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة فانّه لا يكاد يتم تلك المقدمات مع صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجميع

ــ[464]ــ

فتأمل (1).
ما أفاده (قدس سره) يحتوي على عدة نقاط:
الاُولى: أ نّه لا إشكال في صحة رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة على كل حال، حيث إنّ رجوعه إلى ما عداها لا يمكن بلا قرينة. وكذا لا إشكال في صحة رجوعه إلى الجميع.
الثانية: أنّ صحة رجوعه إلى الجميع لا تتوقف على كون الموضوع له في الحروف عاماً، بل يصح رجوعه إليه ولو كان الموضوع له فيها خاصاً، والسر فيه: أنّ تعدد المستثنى منه لا يوجب تفاوتاً في ناحية الأداة، فان تعدده إنّما هو بحسب الخارج لا في مقام اللحاظ والاستعمال، فانّه في هذا المقام واحد سواء أكان مطابقه في الخارج أيضاً واحداً أم كان متعدداً، فتعدده فيه لا يوجب تعدد الاخراج في مقام اللحاظ وظرف الاستعمال، فالاخراج واحد في هذا المقام وكذا المخرج منه وإن كان متعدداً في الخارج، ومن الطبيعي أنّ تعدده فيه إنّما يوجب تعدد إضافة الاخراج لا نفسه كما هو واضح.
الثالثة: أ نّه لا ظهور للاستثناء في الرجوع إلى الجميع ولا إلى خصوص الأخيرة وإن كان رجوعه إليها متيقناً، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أنّ رجوع الاستثناء إلى غير الأخيرة من الجمل وإن كان غير معلوم إلاّ أ نّه مع ذلك لا ظهور لها في العموم لاكتنافها بما يصلح للقرينية، هذا.
والصحيح في المقام أن يقال: إنّ تعدد العمومات المتعقبة بالاستثناء لا يخلو من أن يكون بتعدد خصوص موضوعاتها أو بتعدد خصوص محمولاتها أو بتعدد كليهما معاً، لوضوح أنّ القضية كما تتعدد بتعدد الموضوع والمحمول معاً،
ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول: 234 ـ 235.

ــ[465]ــ

كذلك تتعدد بتعدد الموضوع فقط مع وحدة المحمول، أو المحمول فقط مع وحدة الموضوع، والأوّل كقولنا: زيد قائم وعمرو قائم، والثاني كقولنا: زيد عادل وزيد متكلم، فالصور ثلاث: الاُولى: أن يكون تعددها بتعدد الموضوع فحسب. الثانية: أن يكون تعددها بتعدد المحمول كذلك. الثالثة: أن يكون تعددها بتعدد الموضوع والمحمول معاً.
أمّا الصورة الاُولى: فإن لم يتكرّر فيها عقد الحمل كما إذا قيل: أكرم العلماء والأشراف والسادة إلاّ الفسّاق منهم، أو قيل: أكرم الفقهاء والاُصوليين والمتكلمين إلاّ من كان فاسقاً منهم، فالظاهر بل لا شبهة في رجوع الاستثناء إلى الجميع، حيث إنّ ثبوت الحكم الواحد لهم جميعاً قرينة عرفاً على أنّ الجميع موضوع واحد في مقام اللحاظ والجعل وإن كان متعدداً في الواقع، والتكرار لا يخلو من أن يكون لنكتة فيه أو لعدم وضع لفظ للجامع بين الجميع. وإن شئت قلت: إنّ القضية في مثل ذلك وإن كانت متعددةً صورةً إلاّ أ نّها في حكم قضية واحدة قد حكم فيها بحكم واحد وهو وجوب إكرام كل فرد من الطوائف الثلاث إلاّ الفسّاق منهم، فمردّ هذه القضية بنظر العرف إلى قولنا: أكرم كل واحد من هذه الطوائف الثلاث إلاّ من كان منهم فاسقاً.
وأمّا إذا كرّر فيها عقد الحمل كما إذا قيل: أكرم العلماء والأشراف، وأكرم الشيوخ إلاّ الفسّاق منهم، فالظاهر فيه هو رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة المتكرر فيها عقد الحمل وما بعدها من الجمل لو كانت، لأنّ تكرار عقد الحمل في الكلام قرينة بنظر العرف على أ نّه كلام آخر منفصل عما قبله من الجملات، وبذلك يأخذ الاستثناء محلّه من الكلام فيحتاج تخصيص الجملات السابقة على الجملة المتكرر فيها عقد الحمل إلى دليل آخر، وحيث إنّه مفقود على الفرض فلا مانع من التمسك بأصالة العموم في تلك الجملات.

ــ[466]ــ

ودعوى أ نّها داخلة في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية، ومعه لا ينعقد لها ظهور في العموم حتى يتمسك به خاطئة جداً، وذلك لأنّ كبرى احتفاف الكلام بذلك إنّما هي فيما إذا صحّ اعتماد المتكلم عليه وإن كان مشتبه المراد عند المخاطب والسامع كلفظ الفاسـق مثلاً إذا افترضنا أ نّه مجمل عند المخاطب فلا يعلم أ نّه موضوع لخصوص مرتكب الكبائر أو للأعم منه ومن الصغائر، فانّه إذا ورد في كلام المولى مقترناً بعام أو مطلق كقوله: أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم، فلا محالة يكون مانعاً عن انعقاد ظهوره في العموم لدخوله في الكبرى المتقدمة، حيث إنّه يصح للمتكلم أن يعتمد عليه في بيان مراده الواقعي، ومعه لا ينعقد لكلامه ظهور في العموم حتى يتمسك به.
فالنتيجة: أنّ مورد احتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة إنّما هي موارد إجماله واشتباه المراد منه للسامع، وهذا بخلاف المقام حيث لا إجمال في الاستثناء في مفروض المسألة، فانّه ظاهر في رجوعه إلى خصوص الجملة المتكرر فيها عقد الحمل وما بعدها من الجمل لو كانت دون الجمل السابقة عليها، فاذن لا مانع من انعقاد ظهورها في العموم والتمسك به.
وعلى الجملة: فلو أراد المولى تخصيص الجميع ومع ذلك قد اكتفى في مقام البيان بذكر استثناء واحد مع تكرار عقد الحمل في البين لكان مخلاً ببيانه، حيث إنّ الاستثناء المزبور ظاهر بمقتضى الفهم العرفي في خصوص ما يتكرر فيه عقد الحمل وما بعده دون ما كان سابقاً عليه، ومعه لا موجب لرجوعه إلى الجميع، فاذن كيف يكون المقام داخلاً في تلك الكبرى.
نعم، لو كان الاستثناء مجملاً وغير ظاهر لا في رجوعه إلى خصوص ما يتكرر فيه عقد الحمل وما بعده ولا إلى الجميع وكان صالحاً لرجوعه إلى كل منهما لكان المقام داخلاً فيها لا محالة.

ــ[467]ــ

وأمّا الصورة الثانية: وهي ما إذا كان تعدد القضية بتعدد المحمول فحسب، فإن كان الموضوع فيها غير متكرر كما في مثل قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ ا لْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَتَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلئِكَ هُمُ ا لْفَاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا)(1) فالظاهر هو رجوع الاستثناء إلى الجميع، نظير ما إذا قال المولى لعبده: بع كتبي وأعرها وآجرها إلاّ ما كان
مكتوباً على ظهره أ نّه مخصوص لي، فانّه ظاهر في رجوعه إلى الجميع ولا شبهة في هذا الظهور، والوجه فيه واضح وهو رجوع الاستثناء إلى الموضوع، حيث إنّه يوجب تضييق دائرته وتخصيصه بحصة خاصة.
وعليه فبطبيعة الحال يكون استثناء من الجميع، ويدل بمقتضى الارتكاز العرفي [ على ] أنّ هذه الأحكام المتعددة ثابتة لهذه الحصة دون الأعم، مثلاً لو قال المولى: أكرم العلماء وأضفهم وجالسهم إلاّ الفسّاق منهم، فلا يشك أحد في رجوع هذا الاستثناء إلى العلماء وتخصيصهم بخصوص العدول وأنّ هذه الأحكام ثابتة لهم خاصة دون الأعم منهم ومن الفسّاق.
وعلى الجملة: فالقضية في المقام وإن كانت متعددةً بحسب الصورة إلاّ أ نّها في حكم قضية واحدة، فلا فرق فيما ذكرناه بين أن تكون القضية واحدةً حقيقةً وأن تكون متعددةً صورةً، فانّها في حكم الواحدة، والتعدد إنّما هو من جهة عدم تكفل القضية الواحدة لبيان الأحكام المتعددة. فالنتيجة: أ نّه لا شبهة في رجوع الاستثناء إلى الجميع في هذا الفرض.
وأمّا إذا تكرر الموضوع فيها ثانياً كما في مثل قولنا: أكرم العلماء وأضفهم وجالس العلماء إلاّ الفسّاق منهم، فالظاهر هو رجوع الاستثناء إلى خصوص
ـــــــــــــــــــــ
(1) النور 24: 4 ـ 5.

ــ[468]ــ

الجملة المتكرر فيها عقد الوضع وما بعدها من الجمل إن كانت، والسبب فيه: هو أنّ تكرار عقد الوضع قرينة عرفاً على قطع الكلام عما قبله، وبذلك يأخذ الاستثناء محلّه من الكلام فيحتاج تخصيص الجمل السابقة على الجملة المتكرر فيها عقد الوضع إلى دليل آخر وهو مفقود على الفرض.
فالنتيجة: أ نّه يختلف الحال بين ما إذا لم يكرّر الموضوع أصلاً وإنّما كرر الحكم فحسب، وما إذا كرّر الموضوع أيضاً، فعلى الأوّل يرجع الاستثناء إلى الموضوع المذكور في الجملة الاُولى فيوجب تخصيصه بالاضافة إلى جميع الأحكام الثابتة له، وعلى الثانية يرجع إلى ما اُعيد فيه الموضوع وما بعده على تفصيل تقدم في ضمن البحوث السالفة.
وعليه فلا مانع من جواز التمسك بالعموم في الجملة الاُولى، وكذا الثانية إذا كان ما اُعيد فيه الموضوع هو الجملة الثالثة وهكذا، لما عرفت من ظهور رجوع الاستثناء إليه دون ما سبقه من الجمل، ومعه لا محالة تكون أصالة العموم محكّمة. وأمّا ما قيل من احتفافها بما يصلح للقرينية ومعه لا ينعقد الظهور لها في العموم، فقد عرفت خطأه وأنّ المقام غير داخل في هذه الكبرى كما عرفت بشكل موسع.
وأمّا الصورة الثالثة: وهي ما إذا تعددت القضية بتعدد الموضوع والمحمول معاً، فيظهر حالها مما تقدم يعني أنّ الاستثناء فيها أيضاً يرجع إلى الجملة الأخيرة دون ما سبقها من الجملات لعين ما عرفت حرفاً بحرف.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net