تخصيص الكتاب بخبر الواحد 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 6513


ــ[469]ــ

تخصيص الكتاب بخبر الواحد

والظاهر أ نّه لا خلاف بين الطائفة الإمامية في جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد فيما نعلم، والمخالف في المسألة إنّما هو العامة(1) وهم بين من أنكر تخصيصه به مطلقاً، وبين من فصّل تارةً بما إذا خصص العام الكتابي بمخصص قطعي قبله، وما إذا لم يخصص به كذلك، فقال بالجواز على الأوّل دون الثاني. ولعل وجهه هو تخيل أنّ التخصيص يوجب التجوز في العام فاذا صار العام مجازاً بعد التخصيص جاز تخصيصه ثانياً بخبر الواحد، نظراً إلى أنّ التخصيص الثاني لا يوجب شيئاً زائداً على ما فعله فيه التخصيص الأوّل، وعليه فلا مانع منه.
وفيه: ما عرفت من أنّ التخصيص لا يوجب التجوز في العام.
وتارة اُخرى: بين المخصص المتصل والمنفصل، فقال بالجواز في الأوّل دون الثاني. ولعل وجهه هو أنّ الأوّل لا يوجب التجوز في العام دون الثاني.
وفيه: ما مرّ من أنّ التخصيص مطلقاً لا يوجب التجوز فيه. ومنهم من توقف في المسألة وهو الباقلاني. فالنتيجة: أنّ هذه الأقوال منهم لا ترتكز على أساس صحيح.
والتحقيق هو ما ذهب إليه علماؤنا (قدّس الله أسرارهم) من جواز تخصيصه بخبر الواحد مطلقاً، والسبب في ذلك: هو أ نّنا إذا أثبتنا حجية خبر الواحد
ـــــــــــــــــــــ
(1) الإحكام للآمدي 2: 525، المحصول 1: 432، المستصفى 2: 114.

ــ[470]ــ

شرعاً بدليل قطعي، فبطبيعة الحال لا يكون رفع اليد عن عموم الكتاب أو إطلاقه به إلاّ رفع اليد عنه بالقطع، لفرض أ نّا نقطع بحجيته. وبكلمة اُخرى: أنّ التنافي إنّما هو بين عموم الكتاب وسند الخبر، ولا تنافي بينه وبين دلالته، لتقدمها عليه بمقتضى فهم العرف، حيث إنّها تكون قرينةً عندهم على التصرف فيه، ومن الواضح أ نّه لا تنافي بين ظهور القرينة وظهور ذيها.
وعلى هذا فاذا أثبتنا اعتبار سنده شرعاً بدليل فلا محالة يكون مخصصاً لعمومه أو مقيداً لاطلاقه، ولا يكون مردّ هذا إلى رفع اليد عن سند الكتاب حتى لا يمكن، ضرورة أ نّه لا تنافي بين سنده وبين الخبر لا سنداً ولا دلالة، وإنّما التنافي كما عرفت بين دلالته على العموم أو الاطلاق وبين سند الخبر، وأدلة اعتبار السند حاكمة عليها ورافعة لموضوعها، وهو الشك في إرادة العموم، حيث إنّه بعد اعتباره سنداً مبيّن لما هو المراد من الكتاب في نفس الأمر والواقع فيكون مقدّماً عليه وهذا واضح.
وإنّما الكلام في عدّة من الشبهات التي توهمت في المقام.
منها: أنّ الكتاب قطعي السند والخبر ظني السند فكيف يجوز رفع اليد عن القطعي بالظني.
ويردّه: ما عرفت الآن من أنّ القطعي إنّما هو سند الكتاب وصدوره بألفاظه الخاصة، والمفروض أنّ الخبر لا ينافي سنده أصلاً لا بحسب السند ولا بحسب الدلالة، وأمّا دلالته على العموم أو الاطلاق فلا تكون قطعيةً، ضرورة أ نّنا نحتمل عدم إرادته تعالى العموم أو الاطلاق من عمومات الكتاب ومطلقاته، ومع هذا الاحتمال كيف يكون رفع اليد عنه من رفع اليد عن القطعي بالظني، فلو كانت دلالة الكتاب قطعيةً لم يمكن رفع اليد عنها بالخبر، بل لا بدّ من طرحه في مقابلها.

ــ[471]ــ

وعلى الجملة: فحجية أصالة الظهور إنّما هي ببناء العقلاء، ومن المعلوم أنّ بناءهم عليها إنّما هو فيما إذا لم تقم قرينة على خلافها وإلاّ فلا بناء منهم على العمل بها في مقابلها، والمفروض أنّ خبر الواحد بعد اعتباره وحجيته يصلح أن يكون قرينةً على الخلاف جزماً، من دون فرق في ذلك بين أن يكون مقطوع الصدور أو مقطوع الاعتبار، وقد جرت على ذلك السيرة القطعية العقلائية. ومن الطبيعي أنّ عمومات الكتاب أو مطلقاته لا تمتاز عن بقية العمومات أو المطلقات من هذه الناحية أصلاً، بل حالها حالها.
فالنتيجة: أنّ رفع اليد عن عموم الكتاب أو إطلاقه بخبر الواحد ليس من رفع اليد عن القطعي بالظني.
ومنها: أ نّه لا دليل على اعتبار خبر الواحد إلاّ الاجماع، وبما أ نّه دليل لبي فلا بدّ من الأخذ بالمقدار المتيقن منه، والمقدار المتيقن هو ما إذا لم يكن الخبر على خلاف عموم الكتاب أو إطلاقه وإلاّ فلا يقين بتحقق الاجماع على اعتباره في هذا الحال، ومعه كيف يجوز رفع اليد به عنه.
ويرد عليه: أنّ عمدة الدليل على اعتبار الخبر إنّما هو السيرة القطعية من العقلاء لا الاجماع بما هو إجماع، وقد عرفت أنّ بناءهم على العمل بالعموم أو الاطلاق إنّما هو فيما إذا لم يقم خبر الواحد على خلافه، حيث إنّه يكون بنظرهم قرينةً على التصرف فيه.
ومنها: الأخبار(1) الدالة على المنع من العمل بما خالف كتاب الله، وأنّ ما خالفه فهو زخرف أو باطل أو اضربه على الجدار أو لم أقله أو ما شاكل ذلك،
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 27: 106 / أبواب صفات القاضي ب 9.

ــ[472]ــ

وهذه الأخبار تشمل الأخبار المخالفة لعمومات الكتاب ومطلقاته أيضاً، وعليه فكيف يمكن تخصيصها أو تقييدها بها.
والجواب عن ذلك: هو أنّ الظاهر بل المقطوع به عدم شمول تلك الأخبار للمخالفة البدوية كمخالفة الخاص للعام والمقيد للمطلق وما شاكلهما، والنكتة فيه: أنّ هذه المخالفة لا تعدّ مخالفةً عند العرف، حيث إنّهم يرون الخاص قرينةً على التصرف في العام والمقيد قرينة على التصرف في المطلق، ومن الطبيعي أ نّه لا مخالفة عندهم بين القرينة وذيها، وعليه فالمراد من المخالفة في تلك الأخبار هو المخالفة بنحو التباين للكتاب أو العموم والخصوص من وجه، حيث إنّ هذه المخالفة تعدّ مخالفةً عندهم حقيقةً وتوجب تحيّرهم في مقام العمل، ويدل على ذلك أمران:
الأوّل: أ نّا نقطع بصدور الأخبار المخالفة لعموم الكتاب أو إطلاقه من النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) بداهة كثرة صدور المخصصات والمقيدات عنهم (عليهم السلام) لعموماته ومطلقاته، فلو كان مثل هذه المخالفة مشـمولاً لتلك الروايات فكيف يمكن صدورها عنهم (عليهم السلام).
الثاني: أنّ في جعل موافقة الكتاب من مرجحات تقديم أحد الخبرين على الآخر في مقام المعارضـة شاهداً على أنّ الخبر المخالف حجة في نفسه وإلاّ فلا موضوع للترجيح، لوضوح أنّ التعارض إنّما يقع بين الخبرين يكون كل منهما حجة في نفسه وإلاّ فلا يعقل التعارض. وعليه فبطبيعة الحال يكون الخبر المخالف كالموافق حجة في نفسه بحيث لو لم يكن له معارض لوجب العمل به.
فالنتيجة في نهاية الشوط: هي أ نّه لا شبهة في أنّ هذه المخالفة يعني المخالفة

ــ[473]ــ

بالعموم المطلق لا تكون مشمولة لتلك الأخبار، هذا.
مضافاً إلى أنّ أكثر الأخبار الواردة في أبواب العبادات والمعاملات لاتكون مخالفةً لعموم الكتاب، حيث إنّها متكفلة للأحكام التي ليست بموجودة في عموم القـرآن ليقال إنّها مخالفة له، والوجه في ذلك: هو أنّ جل الآيات الواردة في أبواب العبادات إنّما هي في مقام التشريع فلا إطلاق لها فضلاً عن العموم. وعليه فبطبيعة الحال لا تكون الروايات الدالة على اعتبار شيء فيها جزءاً أو شرطاً مخالفة لها بنحو من المخالفة. وأمّا الآيات الواردة في أبواب المعاملات وإن كان لكثير منها إطلاق إلاّ أ نّه لا مانع من تقييده بخبر الواحد وإن لم نقل بجـواز التخصيص به، والنكتة فيه: أنّ ثبوت الاطـلاق يتوقف على جريان مقدمات الحكمة، ومن الطبيعي أ نّها لا تجري مع قيام خبر الواحد على الخلاف، وهذا بخلاف عموم العام، فانّه لا يتوقف على شيء ما عدا الوضع.
ومن ضـوء هذا البيان يظهر: أنّ ما أفاده المحـقق صاحب الكفاية (قدس سره) (1) من أ نّا لو قلنا بشمول الأخبار الدالة على عدم جواز العمل بالأخبار المخالفة للكتاب لمثل هذه المخالفة ـ يعني المخالفة بالعموم والخصوص المطلق ـ لزم إلغاء الخبر بالمرة أو ما بحكمه، خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له، لما عرفت من أ نّنا لو قلنا بالشمول المزبور فمع ذلك لا يلزم إلغاء الخبر بالمرّة، بل له موارد كثيرة لا بدّ من العمل به في تلك الموارد من دون كون العمل به فيها مخالفاً للكتاب بوجه.
ومنها: لو جاز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد لجاز نسخه به أيضاً،
ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول: 236 ـ 237.

ــ[474]ــ

حيث إنّه قسم من التخصيص وهو التخصيص بحسب الأزمان فلا فرق بينهما إلاّ في أنّ التخصيص المصطلح تخصيص بحسب الأفراد العرضية، وذاك تخصيص بحسب الأفراد الطولية. ومن الطبيعي أنّ مجرد هذا لايوجب الحكم بجواز الأوّل وامتناع الثاني، فلو جاز الأوّل جاز الثاني أيضاً مع أ نّه ممتنع جزماً، فيكون هذا شاهداً على امتناع الأوّل كالثاني.
وفيه: أنّ الاجماع قد قام من الخاصة والعامة على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد، وهذا الاجماع ليس إجماعاً تعبدياً، بل هو من صغريات الكبرى المسلّمة وهي أنّ الشيء الفلاني من جهة كثرة ابتلاء الناس به لو كان لبان واشتهر ولكنّه لم يشتهر فيكشف عدم وجوده. والنسخ من هذا القبيل فانّه لو كان جائزاً بخبر الواحد لبان واشتهر بين العامة والخاصة بحيث يكون غير قابل للانكار، فمن عدم اشتهاره بين المسلمين أجمع يكشف كشفاً قطعياً عن عدم وقوعه وأ نّه لا يجوز نسخ الكتاب به، فلو دلّ خبر الواحد على نسخه لا بدّ من طرحه وحمله إمّا على كذب الراوي أو على خطائه أو سهوه كما هو الحـال بالاضافة إلى إثبات قرآنية القرآن، حيث إنّها لا تثبت بخبر الواحد حتى عند العامة ولذا لا يثبت باخبار عمر الآية: «الشيخ والشيخة إذا زنيا رجما» لأنّ إخباره بها داخل في خبر الواحد والقرآن لا يثبت به، وإنّما يثبت بالخبر المتواتر عن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وعليه فلا بدّ من حمله على أحد الوجوه الآنفة الذكر.
وعلى الجملة: فالتزام المسلمين أجمع بعدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد يكشف كشفاً جزمياً عن أنّ الأمر كذلك في عصر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) والنكتة فيه هي التحفظ على صيانة القرآن.

ــ[475]ــ

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة: وهي أ نّه لا مانع من تخصيص عموم الكـتاب بخبر الواحد، بل عليه سيرة الأصحاب إلى زمان الأئمة (عليهم السلام).




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net