مقدمات الحكمة \ معنى كون المتكلم في مقام البيان 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 7273

 ويعتبر في تمامية هذه المقدمات اُمور:
الأوّل: أن يكون المتكلم متمكناً من البيان والاتيان بالقيد وإلاّ فلا يكون

ــ[531]ــ

لكلامه إطلاق في مقام الاثبات حتى يكون كاشفاً عن الاطلاق في مقام الثبوت، بيان ذلك: أنّ الاطلاق أو التقييد تارةً يلحظ بالاضافة إلى الواقع ومقام الثبوت. واُخرى بالاضافة إلى مقام الاثبات والدلالة.
أمّا على الأوّل: فقد ذكرنا غير مرّة أ نّه لا واسطة بينهما في الواقع ونفس الأمر، وذلك لأنّ المتكلم الملتفت إلى الواقع وما له من الخصوصيات حكيماً كان أو غيره فلا يخلو من أن يأخذ في متعلق حكمه أو موضوعه خصوصية من تلك الخصوصيات أو لا يأخذ فيه شيئاً منها ولا ثالث لهما. فعلى الأوّل يكون مقيّداً، وعلى الثاني يكون مطلقاً، ولا يعقل شق ثالث بينهما يعني لا يكون مطلقاً ولا مقيداً، ومن هنا قلنا إنّ استحالة التقييد تستلزم ضرورة الاطلاق وبالعكس.
وأمّا ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) من أنّ التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة كالعمى والبصر، وأ نّه لا بدّ من طروئهما على موضوع قابل للاتصاف بالملكة [ وإلاّ ] لم يكن قابلاً للاتصاف بالعدم أيضاً وكذا العكس، ولأجل ذلك لا يصح إطلاق الأعمى على الجدار مثلاً، وما نحن فيه من هذا القبيل، ولذا قال (قدس سره) إنّ استحالة الاطلاق في مورد تستلزم استحالة التقييد فيه وبالعكس.
فلا يمكن المساعدة عليه بوجه، وذلك لما ذكرناه مرراً من أنّ التقابل بينهما من تقابل التضاد لا العدم والملكة، وأنّ استحالة أحدهما تستلزم ضرورة الآخر لا استحالته، بداهة أنّ الاهمال في الواقع مستحيل فالحكم فيه إمّا مطلق أو مقيد ولا ثالث لهما.
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 418.

ــ[532]ــ

ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة إلاّ أ نّه لا يعتبر كون الموضوع لها أمراً شخصياً، بل قد يكون الموضوع فيها نوعياً ولا يعتبر في مثله أن يكون كل فرد من أفراد الموضوع قابلاً للاتصاف بها، بل يستحيل ذلك بالاضافة إلى بعض أفراده، كما هو الحال في العلم والجهل بالاضافة إلى ذاته (سبحانه وتعالى) فانّ العلم بكنه ذاته تعالى مستحيل، ومن الواضح أنّ استحالته لا تستلزم استحالة الجهل به، بل تستلزم ضرورته رغم أنّ التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة. وكذا الحال في غنى الممكن وفقره بالاضافة إليه (تعالى وتقدس) فانّ استحالة غنائه عن ذاته سبحانه لا تستلزم استحالة فقره، بل تستلزم ضرورته ووجوبه رغم أنّ التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة، فليكن المقام من هذا القبيل، يعني أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد يكون من تقابل العدم والملكة فمع ذلك تستلزم استحالة أحدهما في مقام الثبوت والواقع ضرورة الآخر لا استحالته.
وعلى الثاني: وهو ما إذا كان الاطلاق والتقييد ملحوظين بحسب مقام الاثبات، فحينئذ إن تمكن المتكلم من البيان وكان في مقامه ومع ذلك لم يأت بقيد في كلامه كان إطلاقه في هذا المقام كاشفاً عن الاطلاق في مقام الثبوت وأنّ مراده في هذا المقام مطلق وإلاّ لكان عليه البيان. وأمّا إذا لم يتمكن من الاتيان بقيد في مقام الاثبات فلا يكشف إطلاق كلامه في هذا المقام عن الاطلاق في ذاك المقام والحكم بأنّ مراده الجدي في الواقع هو الاطلاق، لوضوح أنّ مراده لو كان في الواقع هو المقيد لم يتمكن من بيانه والاتيان بقيد، ومعه كيف يكون إطلاق كلامه في مقام الاثبات كاشفاً عن الاطلاق في مقام الثبوت.
الأمر الثاني: أن يكون المتكلم في مقام البيان ولا يكون في مقام الاهمال

ــ[533]ــ

والاجمال كما في قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)(1) وقوله تعالى: (وَقُرْآنَ ا لْفَجْرِ)(2) وما شاكل ذلك، فانّ المتكلم في هذه الموارد لا يكون في مقام البـيان، نظير قول الطبيب للمريض: اشرب الدواء فانّه ليس في مقام البيان، بل هو في مقام أنّ في شرب الدواء نفعاً له في الجملة ولا يمكن الأخذ باطلاق كلامه، مع أنّ بعضه مضر بحاله جزماً.
فالنتيجة: أنّ المتكلم إذا لم يكن في مقام البيان لم يكن لكلامه ظهور في الاطلاق حتى يتمسك به.
نعم، إذا كان المتكلم في مقام البيان من جهة ولم يكن في مقام البيان من جهة اُخرى لا مانع من التمسك باطلاق كلامه من الجهة التي كان في مقام البيان من تلك الجهة دون الجهة الاُخرى، وهذا في الآيات والروايات كثير.
أمّا في الآيات: فكقوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ)(3) فانّه إذا شك في اعتبار الامساك من الحلقوم في تذكيته وعدم اعتباره لا مانع من التمسك باطلاق الآية الكريمة من هذه الناحية والحكم بعدم اعتبار الامساك من الحلقوم. وأمّا إذا شك في طهارة محل الامساك وعدمها فلا يمكن التمسك باطلاق الآية من هذه الناحية، لأنّ إطلاقها غير ناظر إليها أصلاً، فلا تكون الآية في مقام البيان من هذه الجهة، فلا محالة عندئذ يحكم بنجاسته.
وأمّا في الروايات: فمنها قوله (عليه السلام): «لا بأس بالصلاة في دم إذا كان
ـــــــــــــــــــــ
(1) البقرة 2: 43.
(2) الإسراء 17: 78.
(3) المائدة 5: 4.

ــ[534]ــ

أقل من درهم»(1) فانّه في مقام البيان من جهة أنّ هذا المقدار من الدم غير مانع من ناحية النجاسة، حيث إنّ المتفاهم العرفي كون هذا استثناءً من مانعية الدم من هذه الناحية، ولا يكون في مقام البيان من جهة اُخرى وهي كونه من دم المأكول أو غير المأكول، وعليه فاذا شك في صحة الصلاة فيه وعدم صحتها لم يجز التمسك باطلاق الرواية، لعدم كون إطلاقها ناظراً إلى هذه الناحية.
فالنتيجة: أ نّه لا إشكال في ذلك وأنّ المتكلم من أيّ جهة كان في مقام البيان جاز التمسك باطلاق كلامه من هذه الجهة وإن لم يكن في مقام البيان من الجهات الاُخرى.
ثمّ إنّه لا بدّ من بيان أمرين: الأوّل: ما هو المراد من كون المتكلم في مقام البيان. الثاني: فيما إذا شك في أ نّه في مقام البيان أم لا.
أمّا الأوّل: فليس المراد من كونه في مقام البيان [ كونه كذلك ] من جميع الجهات والنواحي، ضرورة أنّ مثل ذلك لعله لم يتفق في شيء [ من ] الآيات والروايات، ولو اتفق في مورد فهو نادر جداً. كما أ نّه ليس المراد من عدم كونه في مقام البيان أن لا يكون في مقام التفهيم أصلاً مثل ما إذا تكلم بلغة لا يفهم المخاطب منها شيئاً كما إذا تكلم العرب بلغة الفرس مثلاً، بل المراد منه أن لا ينعقد لكلامه ظهور في الاطلاق كقول الطبيب للمريض: اشرب الدواء، فانّ المريض يفهم منه أ نّه لا بدّ له من شرب الدواء، ولكنّه ليس في مقام البيان بل في مقام الاهمال والاجمال، ولذا لا إطلاق لكلامه بحيث يكون كاشفاً عن مراده الجدي وكان حجةً على المخاطب فيحتج به عليه وبالعكس.
والحاصل: أنّ المراد من كونه في مقام البيان هو أ نّه يلقي كلامه على نحو
ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع الوسائل 3: 429 / أبواب النجاسات ب 20 (نقل بالمضمون).

ــ[535]ــ

ينعقد له ظهور في الاطلاق ويكون حجةً على المخاطب على سبيل القاعدة.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net