الكلام في القطع الموضوعي 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 6251

 

الكلام في القطع الموضوعي

 قد عرفت أنّ الطريقية شأن القطع، بل هي نفس القطع، فلا قابلية لها للجعل أصلاً (2).

 وقد يؤخذ القطع بحكم في موضوع حكم آخر يخالف متعلقه لا يماثله ولا يضاده، بأن يكون الحكم المأخوذ في موضوعه القطع متعلقاً بغير ما تعلّق به الحكم المقطوع، سواء كان من جنسه ـ كما إذا قال المولى: إذا قطعت بوجوب الصلاة وجب عليك التصدق بدرهم ـ أو لا كما إذا قال: إذا قطعت بوجوب الصلاة حرم عليك الخمر مثلاً.

 وقد يؤخذ في موضوع الحكم القطع بموضوع من الموضوعات، كما إذا قال: إذا قطعت بكون مائع خمراً وجب عليك الاجتناب عنه.

 وكيف ما كان، فقد قسّم شيخنا الأنصاري (قدس سره)(3) القطع الموضوعي إلى قسمين: باعتبار أنّ القطع قد يكون مأخوذاً في الموضوع بنحو الصفتية، وقد يكون مأخوذاً بنحو الطريقية.

 وتوضيحه: أنّ القطع من الصفات الحقيقية ذات الاضافة، ومعنى كونه من الصفات الحقيقية أ نّه من الاُمور المتأصلة الواقعية في قبال الاُمور الانتزاعية التي لا وجود إلاّ لمنشأ انتزاعها، وفي قبال الاُمور الاعتبارية التي لا وجود لها

ـــــــــــــ
(2) تقدّم في ص 13 ـ 14.

(3) فرائد الاُصول 1: 53.

ــ[34]ــ

إلاّ باعتبار من معتبر، فانّ القطع ممّا له تحقق في الواقع ونفس الأمر بلا حاجة إلى اعتبار معتبر أو منشأ للانتزاع.

 ومعنى كونه ذات الاضافة أنّ القطع ليس من الصفات الحقيقية المحضة كالأعراض التي لا تحتاج في وجودها إلاّ إلى وجود موضوع فقط كالبياض مثلاً، بل من الصفات ذات الاضافة بمعنى كونه محتاجاً في وجوده إلى المتعلق مضافاً إلى احتياجه إلى الموضوع، فانّ العلم كما يستحيل تحققه بلا عالم كذلك يستحيل تحققه بلا معلوم. والقدرة من هذا القبيل، فانّه لا يعقل تحققها إلاّ بقادر ومقدور فللعلم جهتان:

 الاُولى: كونه من الصفات المتأصلة وله تحقق واقعي.

 الثانية: كونه متعلقاً بالغير وكاشفاً عنه، فقد يكون مأخوذاً في الموضوع بلحاظ الجهة الاُولى وقد يكون مأخوذاً في الموضوع بملاحظة الجهة الثانية.

 هذا توضيح مراد الشيخ (قدس سره) في تقسيمه القطع الموضوعي إلى قسمين.

 وقسّمه صاحب الكفاية (قدس سره) (1) إلى أربعة أقسام: باعتبار أنّ كلاً من القسمين المذكورين تارةً يكون تمام الموضوع، أي يكون الحكم دائراً مدار القطع، سواء كان مطابقاً للواقع أو مخالفاً له. واُخرى يكون جزءاً للموضوع وكان الجزء الآخر الواقع المقطوع به، فيكون الحكم دائراً مدار خصوص القطع المطابق للواقع. وذكر صاحب الكفاية (قدس سره) أيضاً أنّ القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الصفتية تارةً يؤخذ صفة للقاطع، واُخرى يؤخذ صفة للمقطوع به.

 أقول: القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الصفتية ينقسم إلى قسمين كما ذكره

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 263.

ــ[35]ــ

صاحب الكفاية، إذ القطع المذكور ـ باعتبار كونه صفة من الصفات النفسانية ـ تارةً يكون تمام الموضوع، فيترتب الحكم عليه، سواء كان مطابقاً للواقع أو مخالفاً له. واُخرى يكون جزءاً للموضوع، فيترتب عليه الحكم مع كونه مطابقاً للواقع.

 وأمّا القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقية فلا يمكن أخذه تمام الموضوع، إذ معنى كونه تمام الموضوع أ نّه لا دخل للواقع في الحكم أصلاً، بل الحكم مترتب على نفس القطع ولو كان مخالفاً للواقع. ومعنى كونه مأخوذاً بنحو الطريقية أنّ للواقع دخلاً في الحكم، واُخذ القطع طريقاً إليه، فيكون الجمع بين أخذه في الموضوع بنحو الطريقية وكونه تمام الموضوع من قبيل الجمع بين المتناقضين.

 فالصحيح: هو تثليث الأقسام، بأن يقال: القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الصفتية إمّا أن يكون تمام الموضوع أو يكون جزأه، وأمّا القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقية فلا يكون إلاّ جزءاً للموضوع.

 وأمّا ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّ القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الصفتية قد يؤخذ صفةً للقاطع وقد يؤخذ صفة للمقطوع به، ففيه: أ نّه إن كان المراد من أخذه صفةً للمعلوم كونه صفةً للمعلوم بالذات ـ أي الصورة الذهنية الحاكية عن الخارج ـ فهو يرجع إلى أخذه صفةً للقاطع، إذ المعلوم بالذات ـ وهو الصورة الذهنية ـ موجود في ذهن القاطع بعين وجود القطع، فأخذ القطع صفة للمعلوم بهذا المعنى ليس إلاّ عبارة اُخرى عن أخذه صفة للقاطع، وليس الفرق بينهما إلاّ بمجرد العبارة، نظير الفرق بين الوجود والماهية الموجودة، فكما لا فرق بين قولنا: المأخوذ في الموضوع هو الوجود، وقولنا: المأخوذ في الموضوع هو الماهية الموجودة، لأنّ الماهية موجودة بعين

ــ[36]ــ

الوجود لا بشيء آخر، فكذا لا فرق في المقام بين قولنا: المأخوذ في الموضوع هو القطع بالقيام مثلاً، وقولنا: المأخوذ في الموضوع هو القيام المقطوع به، أي الصورة الذهنية للقيام ووجوده العلمي، إذ لا فرق بين العلم بالقيام والقيام الموجود بالوجود العلمي إلاّ بمجرد العبارة.

 وإن كان مراده من أخذ القطع صفةً للمقطوع به هو أخذه صفةً للمعلوم بالعرض ـ أي الموجود الخارجي ـ بأن يقال: المأخوذ في الموضوع هو القيام المتحقق في الخارج المنكشف للمكلف القاطع، فهذا ليس إلاّ لحاظ القطع طريقاً وكاشفاً، فأخذ القطع في الموضوع صفة للمقطوع به ـ بهذا المعنى ـ عبارة اُخرى عن أخذه في الموضوع بنحو الطريقية، فالجمع بين أخذه بنحو الصفتية وكونه صفةً للمقطوع به جمع بين المتنافيين.

 ثمّ إنّ المراد من القطع الموضوعي هو القطع المأخوذ في موضوع الحكم واقعاً، بأن كان له دخل في ترتب الحكم، كالعلم المأخوذ في ركعات صلاة المغرب والصبح والركعتين الاُوليين من الصلوات الرباعية، على ما يستفاد من الروايات، ولذا لو شكّ بين الواحدة والاثنتين في صلاة الصبح مثلاً فأتمّ الصلاة رجاءً ثمّ انكشف أ نّه أتى بالركعتين كانت صلاته فاسدة، لكون العلم بهما حال الصلاة مأخوذاً في الحكم بصحّتها، فالمراد من القطع الموضوعي ما كان له دخل في ترتب الحكم واقعاً، لا القطع المأخوذ في لسان الدليل فقط، إذ ربّما يؤخذ القطع في لسان الدليل مع القرينة على عدم دخله في الحكم، وأنّ أخذه في لسان الدليل إنّما هو لكونه طريقاً إلى الواقع، بل أظهر أفراد الطرق إليه، فهو مع كونه مأخوذاً في لسان الدليل ليس من القطع الموضوعي في شيء. وأمثلته كثيرة منها: قوله تعالى (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ ا لاَْبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ ا لاَْسْوَدِ)(1) فانّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) البقرة 2: 187.

ــ[37]ــ

الموضوع لوجوب الامساك هو نفس طلوع الفجر لا علم المكلف به.

 ثمّ إنّه لا إشكال في قيام الأمارات والطرق مقام القطع الطريقي بنفس أدلة اعتبارها وحجّيتها، فتترتب عليها الآثار المترتبة عليه من التنجيز عند المطابقة والتعذير عند المخالفة، كما أ نّه لا ريب في عدم قيامها مقام القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الصـفتية بنفس أدلة حجّـيتها، إذ غاية ما تدل عليه أدلة حجّيتها هو إلغاء احتمال الخلاف وترتيب آثار الواقع على مؤدّاها، والقطع وإن كانت حقيقته الانكشاف، إلاّ أنّ المفروض أخذه في الموضوع بنحو الصفتية، وعدم ملاحظة جهة كشفه، فيكون المأخوذ في الموضوع صفة خاصّة نفسانية، كبقية الصفات النفسانية من الشجاعة والعدالة ونحوهما، ومن البديهي أنّ أدلة الحجّية وإلغاء احتمال الخلاف في الأمارات والطرق لا تدل على تنزيلها منزلة الصفات النفسانية.

 وأمّا قيام الأمارات مقام القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقية، فقد اختلفت كلماتهم فيه.

 فذهب شيخنا الأنصاري (قدس سره) إلى قيامها مقامه (1)، وتبعه المحقق النائيني (قدس سره)(2).

 واختار صاحب الكفاية (قدس سره) عدم القيام (3)، وملخص ما ذكره في وجهه بتوضيح منّا: أنّ التنزيل يستدعي لحاظ المنزّل والمنزّل عليه. ولحاظ الأمارة والقطع في تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي آلي، إذ الأثر مترتب على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 1: 53.

(2) أجود التقريرات 3: 19، فوائد الاُصول 3: 21.

(3) كفاية الاُصول: 263 و 264.

ــ[38]ــ

الواقع المنكشف بالقطع لا على نفس القطع كما هو المفروض، فيكون النظر في الحقيقة إلى الواقع ومؤدى الأمارة. ولحاظ الأمارة والقطع في تنزيل الأمارة منزلة القطع المأخوذ في الموضوع استقلالي، إذ الأثر مترتب على نفس القطع، فالجمع بين التنزيلين في دليل واحد يستلزم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي المتعلقين بملحوظ واحد في آن واحد ولا يمكن الجمع بينهما، فلا يمكن أن يكون دليل واحد متكفلاً لبيان كلا التنزيلين، وحيث إنّ أدلة حجّية الأمارات ظاهرة بحسب متفاهم العرف في التنزيل من حيث الطريقية، فلا بدّ من الأخذ به ما لم تقم قرينة على التنزيل من حيث الموضوعية.

 وفيه: أنّ تنزيل مؤدى الأمارة منزلة الواقع مبني على القول بالسببية والموضوعية في باب الأمارات، وهذا المسلك مناف لما التزمه صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّ المجعول في باب الأمارات هو المنجزية والمعذرية (1) على ما صرّح به غير مرّة. مضافاً إلى أ نّه فاسد في أصله ثبوتاً، وعدم مساعدة الدليل عليه إثباتاً.

 أمّا الأوّل، فلاستلزامه التصويب الباطل.

 وأمّا الثاني، فلأنّ أدلة حجّية الأمارات ـ وعمدتها سيرة العقلاء ـ لا دلالة لها على جعل الحكم مطابقاً لمؤدى الأمارات أصلاً. وسيجيء الكلام فيه مفصلاً (2) إن شاء الله تعالى.

 وأمّا بناءً على ما اختاره صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّ المجعول في باب الأمارات هو المنجزية والمعذرية، فلا يلزم من تنزيلها منزلة القطع الجمع

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 277 و 405 و 478.

(2) في ص 120 وما بعدها.

ــ[39]ــ

بين اللحاظين الآلي والاستقلالي، بل لزم لحاظ واحد استقلالي، إذ لا يكون هناك تنزيل المؤدى منزلة الواقع، فلا يكون إلاّ تنزيل واحد، وهو تنزيل الأمارة منزلة القطع، غاية الأمر أنّ التنزيل إنّما هو باعتبار خصوص الأثر العقلي للقطع من التنجيز والتعذير، أو باعتبار خصوص الحكم الشرعي المأخوذ في موضوعه القطع، أو باعتبار مطلق الأثر. وإطلاق أدلة التنزيل يشمل كلا الحكمين العقلي والشرعي.

 وكذا الحال على القول بأنّ المجعول في باب الأمارات هو الطريقية والكاشفية بالغاء احتمال الخلاف، وإن شئت فعبّر عنه بتتميم الكشف، باعتبار أنّ الأمارات كانت كاشفة ناقصة، فاعتبرها الشارع كاشفة تامّة بالغاء احتمال الخلاف، فيجري الكلام المذكور هنا أيضاً ويقال: إنّ إطلاق دليل التنزيل شامل للأثر العقلي والأثر الشرعي المترتب على القطع.

 بل يمكن أن يقال: إنّه بعد اعتبار الشارع الأمارة كاشفة تامّة عن الواقع تترتب آثار الواقع لا محالة، إذ الواقع قد انكشف بالتعبد الشرعي، فلا بدّ من ترتيب آثاره، فتترتب آثار نفس القطع ـ أي الحكم المأخوذ في موضوعه القطع ـ بالأولوية، إذ ترتيب آثار المقطوع على مؤدى الأمارة إنّما هو لتنزيل الأمارة منزلة القطع، فيترتب أثر نفس القطع لأجل هذا التنزيل بطريق أولى.

 ثمّ إنّ الصحيح في باب الأمارات هو القول بأنّ المجعول هو الطريقية والكاشفية، لا القول بأنّ المجعول هو المنجزية والمعذرية، لكونه مستلزماً للتخصيص في حكم العقل، وحكم العقل بعد ثبوت ملاكه غير قابل للتخصيص، بيان ذلك:

 أنّ العقل مستقل بقبح العقاب بلا بيان واصل، فإذا قامت الأمـارة على التكليف فلا إشكال في تنجزه على المكلف وكونه مستحقاً للعقاب على مخالفته، فان كان ذلك لأجل تصرف الشارع في موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا

ــ[40]ــ

بيان، بأن جعل الأمارة طريقاً وبياناً، كان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان منتفياً بانتفاء موضوعه، ولذا نعبّر عن تقدّم الأمارة عليه بالورود وهو انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه بالتعبد الشرعي، وعليه فالعقل بنفسه يحكم بالتنجز، بلا حاجة إلى جعل التنجيز.

 وإن لم يتصرّف الشارع في موضوع حكم العقل ولم يعتبر الأمارة بياناً، بل جعل الأمارة منجّزة للتكليف، بأن يكون المجعول كون المكلف مستحقاً للعقاب على مخالفة التكليف، لزم التخصيص في حكم العقل، بأن يقال: العقاب بلا بيان قبيح إلاّ مع قيام الأمارة على التكليف فانّ العقاب بلا بيان في هذا المورد ليس بقبيح، وقد ذكرنا أنّ حكم العقل غير قابل للتخصيص. هذا والتفصيل موكول إلى محلّه (1).
ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يأتي وجه تقديم الأمارات على الاُصول العقلية وأ نّه من باب الورود في أواخر بحث الاستصحاب، راجع الجزء الثالث ص 297.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net