الاستدلال على حجّية الخبر بحكم العقل \ الوجه الأوّل 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4936


 وممّا استدلّ به على حجّية الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة المثبتة للتكليف حكم العقل وتقريبه بوجوه:

 الوجه الأوّل: أ نّا نعلم إجمالاً بصدور جملة من تلك الأخبار عن المعصوم، ولا نحتمل أن يكون جمـيعها مجعولاً، ولا سيّما بعد ملاحظة جهد العلماء في تهذيبها وإسقاط الضعاف منها، ولذا ادّعى صاحب الحدائق العلم بصدور جميع ما في الكتب الأربعـة (2). ومقتضى هذا العلم الاجمالي هو الاحتياط والأخذ بجميع هذه الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة بحكم العقل.

 وأورد عليه الشيخ (3) (قدس سره) بأنّ هذا العلم الاجمالي لو كان منجّزاً لزم العمل على طبق جميع الأمارات، ولو كانت غير معتبرة كالشهرة الفتوائية والاجماعات المنقولة، للعلم الاجمالي بمطابقة بعضها للواقع، فلا يفترق الحال بين الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة والأخبار الموجودة في غيرها من الكتب،

ــــــــــــــ
(2) الحدائق 1: 14 / المقدّمة الثانية.

(3) فرائد الاُصول 1: 217 و 218.

ــ[238]ــ

ولا بين الأخبار وغيرها من الأمارات المعتبرة أو غير المعتبرة من حيث تنجيز العلم الاجمالي، فيجب الأخذ بالجميع، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به، كما هو ظاهر.

 وأجاب عنه صاحب الكفاية (قدس سره) بأنّ العلم الاجمالي بثبوت التكاليف في موارد قيام الأمارات قد انحلّ بالعلم الاجمالي بصدور جملة من الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة عن المعصوم (عليه السلام) (1) وتوضيح ذلك: أنّ لنا ثلاثة علوم إجمالية:

 الأوّل: العلم الاجمالي الكبير وأطرافه جميع الشبهات، ومنشؤه هو العلم بالشرع الأقدس وتأسيس الشريعة المقدّسـة، إذ لا معنى للشرع الخالي عن التكليف رأساً.

 الثاني: العلم الاجمالي المتوسط وأطرافه موارد قيام الأمارات المعتبرة وغير المعتبرة، ومنشؤه كثرة الأمارات بحيث لا نحتـمل مخالفة جميعها للواقع بل نعلم إجمالاً بمطابقة بعضها له.

 الثالث: العلم الاجمالي الصغير وأطرافه خصوص الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة، فانّا نعلم إجمالاً بصدور جملة من هذه الأخبار عن المعصوم (عليه السلام). وحيث إنّ العلم الاجمالي الأوّل ينحل بالعلم الاجمالي الثاني، وينحل العلم الاجمالي الثاني بالعلم الاجمالي الثالث، فلا يجب الاحتياط إلاّ في أطراف العلم الاجمالي الثالث، ونتيجة ذلك هو وجوب العمل على طبق الأخبار المثبتة للتكليف الموجودة في الكتب المعتبرة، لا الاحتياط في جميع الشبهات كما هو مقتضى العلم الاجمالي الأوّل لولا انحلاله، ولا الاحتياط في جميع موارد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 304 و 305.

ــ[239]ــ

الأمارات المعتبرة وغير المعتبرة كما هو مقتضى العلم الاجمالي الثاني على تقدير عدم انحلاله. والميزان في الانحلال أن لايكون المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الصغير أقل عدداً من المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الكبير، بحيث لو أفرزنا من أطراف العلم الاجمالي الصـغير بالمقدار المتيقن لم يبق لنا علم إجمالي في بقية الأطراف، ولو انضمّ إليها غيرها من أطراف العلم الاجمالي الكبير.

 مثلاً إذا علمنا إجمالاً بوجود خمس شياه مغصوبة في قطيع من الغنم، وعلمنا أيضاً بوجود خمس شياه مغصوبة في جملة البيض من هذا القطيع، فلا محالة ينحل العلم الاجمالي الأوّل بالعلم الاجمالي الثاني، فإنّا لو أفرزنا خمس شياه بيض لم يبق لنا علم إجمالي بمغصوبية البقية، لاحتمال انطباق المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الكبير على المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الصغير، بخلاف ما لو علمنا إجمالاً بوجود ثلاث شياه محرّمة في جملة البيض من هذا القطيع، فانّ العلم الاجمالي الأوّل لا ينحل بالعلم الاجمالي الثاني، إذ لو أفرزنا ثلاث شياه بيض بقي علمنا الاجمالي بمغصوبية البعض الباقي بحاله، لأنّ انطباق الخمس على الثلاث غير معقول، وعليه فلاينبغي الشك في انحلال العلم الاجمالي الكبير بالعلم الاجمالي المتوسط، إذ المعلوم بالاجمال في الأوّل لا يزيد عدداً على المعلوم بالاجمال في الثاني، لأنّ منشأ العلم الاجمالي الكبير هو العلم باستلزام الشرع لوجود أحكام وتكاليف، ويكفيه المقدار المعلوم بالاجمال في موارد قيام الامارات.

 وكذا العلم الاجمالي الثاني ينحل بالعلم الاجمالي الثالث، لأ نّا لو أفرزنا مقداراً من أطراف العلم الثالث ـ أي الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة ـ من كل باب من أبواب الفقه، بحيث يكون المجموع بمقدار المعلوم بالاجمال في العلم الثالث، لم يبق لنا علم إجمالي بوجود التكاليف في غيره ولو مع ضم سائر الأمارات، بل وجود التكاليف في غيره مجرّد احتمال فيستكشف بذلك أنّ المعلوم

ــ[240]ــ

بالاجمال في العلم الثاني لا يزيد عدداً على المعلوم بالاجمال في العلم الثالث، فينحل العلم الثاني بالعلم الثالث لا محالة.

 والمناقشة في الانحلال بأنّ لنا علماً إجمالياً بمطابقة بعض الأمارات غير المعتبرة للواقع أيضاً، كالروايات الموجودة في كتب العامّة مثلاً، فانّا لا نحتمل كذب جميعها وكيف ينحل هذا العلم الاجمالي بالعلم الاجمالي بصدور جملة من الروايات الموجودة في الكتب المعتبرة، إذ المعلوم بالاجمال في العلم الأوّل غير محتمل الانطباق على المعلوم بالاجمال في الثاني واهية لأنّ جميع الأمارات غير المعتبرة لا يكون مخالفاً لما في الكتب المعتبرة من الروايات، بل عدّة منها موافقة له، فافراز مقدار من الأخبار الموجودة في الكتب المعـتبرة مستلزم لافراز ما يطابقه من الأمارات غير المعتبرة، والعمل به يستلزم العمل به بل عينه، وليس لنا علم إجمالي بمطابقة الأمارات غير المعتبرة للواقع فيما لم يكن مطابقاً للأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة.

 فتحصّل ممّا ذكرناه في المقام: أنّ الصحيح ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) وأنّ مقتضى العلم الاجمالي وجوب الأخذ بالأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة المثبتة للتكليف.

 بقي الكلام في أنّ وجوب العمل بالأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة من جهة العلم الاجمالي بصدور بعضها هل يترتب عليه ما يترتب على حجّيتها من تقدّمها على الاُصول العملية واللفظية أم لا؟ وتحقيق ذلك يقتضي التكلم في مقامين: المقام الأوّل: في تقدّمها على الاُصول العملية. المقام الثاني: في تقدّمها على الاُصول اللفظية كأصالة العموم والاطلاق.

 أمّا المقام الأوّل: فتحقيق القول فيه أنّ الاُصول قد تكون من الاُصول المحرزة الناظرة إلى الواقع، بمعنى أنّ المستفاد من أدلتها البناء العملي على أنّ

 
 

ــ[241]ــ

مفادها هو الواقع، كالاستصحاب وقاعدة الفراغ والتجاوز، بناءً على كونها من الاُصول لا من الأمارات. وقد تكون من الاُصول غير المحرزة، بمعنى أنّ المستفاد من أدلتها أ نّها وظائف عملية مجعولة في ظرف عدم الوصول إلى الواقع لا البناء على أنّ مفادها هو الواقع كالبراءة العقلية والشرعية. وعلى كل تقدير قد يكون الأصل نافياً للتكليف دائماً كالبراءة، وقد يكون مثبتاً له كذلك كقاعدة الاشتغال. وثالثةً يكون نافياً للتكليف مرّةً ومثبتاً له اُخرى كالاستصحاب.

 فإن كان الأصل نافياً للتكليف ودلّ الخبر على ثبوته لا مجال لجريان الأصل، سواء كان محرزاً أو غير محرز، بلا فرق بين القول بحجّية الخبر والقول بوجوب العمل به من جهة العلم الاجمالي. أمّا على القول بحجّيته فواضح. وأمّا على القول بوجوب العمل به من جهة العلم الاجمالي، فلعدم جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي، لأنّ جريانه في جميع الأطراف موجب للمخالفة القطعية العملية، وفي بعضها ترجيح بلا مرجح، فلا فرق بين القول بحجّية الخبر وبين القول بوجوب العمل به من باب الاحتياط للعلم الاجمالي، من حيث عدم جريان الأصل في مورده، إنّما الفرق بينهما من وجهين آخرين:

 أحدهما: صحّة إسناد مؤدى الخبر إلى المولى على تقدير حجّيته، وعدم صحّته على تقدير وجوب العمل به من باب الاحتياط، لأنّ إسناد الحكم إلى المولى مع عدم قيام الحجّة عليه تشريع محرّم.

 ثانيهما: وجوب الأخذ باللوازم على تقدير حجّيته، وعدمه على تقدير عدمها، على ما سيجيء التعرّض له مفصّلاً في بحث الاستصحاب(1) إن شاء الله تعالى.

 وأمّا إن كان الأصل أيضاً مثبتاً للتكليف فلا مانع من جريانه على القول

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب ص 181 وما بعدها (الأصل المثبت).

ــ[242]ــ

بوجوب العمل بالخبر من باب الاحتياط، لأنّ المانع من جريان الأصل أحد أمرين كلاهما مفقود في المقام:

 أحدهما: ارتفاع موضوع الأصل وهو الشك بالعلم الوجداني أو التعبدي، كما إذا قامت الحجّة في مورده والمفروض انتفاء العلم الوجداني وعدم كون الخبر حجّة.

 ثانيهما: لزوم المخالفة العملية القطعية، والمفروض كون الأصل مثبتاً للتكليف كالخبر، فلا يلزم من جريانه مخالفة عملية أصلاً فلا مانع من جريانه، إلاّ أ نّه لا ثمرة عملية بين الالتزام بجريانه والالتزام بعدم جريانه، إذ المفروض كون الأصل مثبتاً للتكليف كالخبر.

 نعم، يظهر الفرق بينهما في صحّة إسناد الحكم إلى المولى على تقدير جريان الأصل فيما إذا كان من الاُصول المحرزة، فانّه صحّ إسناد الوجوب المستصحب إلى المولى، بخلاف ما لو التزمنا بعدم جريان الأصل، فانّه لا يصح إسناد الحكم إلى المولى حينئذ، لأنّ المفروض عدم حجّية الخبر ووجوب العمل به من باب الاحتياط، فكان إسناد الحكم إلى المولى تشريعاً محرّماً كما تقدّم. هذا كلّه على تقدير وجوب العمل بالخبر من باب الاحتياط.

 وأمّا على القول بكونه حجّة فلا مجال لجريان الأصل، لارتفاع موضوعه ـ وهو الشك ـ بالتعبد الشرعي، كما هو ظاهر.

 وظهر بما ذكرناه أنّ الفرق بين حجّية الخبر ووجوب العمل به من باب الاحتياط في هذا الفرض من وجوه ثلاثة:

 الأوّل: أ نّه على تقدير حجّيته لا يجري الأصل، وعلى تقدير وجوب العمل به من باب الاحتياط لا مانع من جريانه، وإن لم يفترق الحال في مقام العمل

ــ[243]ــ

بين جريانه وعدمه على ما تقدّم.

 الثاني: صحّة إسناد مؤداه إلى المولى على تقدير الحجّية، وعدمه على تقدير وجوب العمل به من باب الاحتياط.

 الثالث: لزوم الأخذ باللوازم على تقدير الحجّية، وعدمه على عدمه. هذا كلّه على تقدير كون مفاد الخبر حكماً إلزامياً كالوجوب والحرمة. وأمّا إن كان مفاده حكماً ترخيصـياً، فإن كان مفاد الأصل أيضاً نفي التكليف كالبراءة أو استصحاب عدم الوجوب أو عدم الحرمة، فلا تظهر ثمرة بين حجّية الخبر ووجوب العمل به من باب الاحتياط، إلاّ في صحّة الاسناد والأخذ باللوازم على ما تقدّم. وأمّا إن كان الأصل مثبتاً للتكليف، فإن كان الأصل من الاُصول غير المحرزة كقاعدة الاشتغال، فلا مانع من جريانها على القول بوجوب العمل بالخبر من جهة العلم الاجمالي، إذ مع عدم قيام الحجّة على نفي التكليف كانت قاعدة الاشتغال محكّمـة، فانّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية بحكم العقل.

 ومجرّد العلم الاجـمالي بصدور جملة من الأخبار الترخيصية غير مانع من جريان قاعدة الاشـتغال، إذ العلم بالترخيص في بعض الأطراف حاصل في جميع موارد قاعدة الاشتغال، ولكنّه لا يزاحم العلم الاجمالي بالتكليف في أحد الأطراف، فإذا علمنا إجمالاً بوجوب إحدى الصلاتين القصر أو التمام، ودلّ الخبر على عدم وجوب القصر مثلاً، فعلى القول بعدم حجّية الخبر لا مانع من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال، بخلاف القول بحجّيته، فانّه عليه كان احتمال وجوب القصر منتفياً بالعلم التعبدي، فينحل العلم الاجمالي ولا يبقى موضوع لقاعدة الاشتغال، ففي هذا الفرض تظهر الثمرة العملية بين القول بحجّية الخبر والقول بوجوب العمل به من جهة العلم الاجمالي، وهي ثمرة مهمّة.

ــ[244]ــ

 وأمّا إن كان الأصل من الاُصول المحرزة كاستصحاب الوجوب أو الحرمة في فرض قيام الخبر على نفي التكليف، كما في وطء الحائض بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال، فانّ الخبر دلّ على الجواز مع غسل الموضع ومقتضى الاستصحاب هو الحرمة، ففي مثل ذلك إن كانت موارد الاستصحاب المثبت للتكليف قليلة، بحيث لم يحصل لنا علم إجمالي بصدور بعض الأخبار الترخيصية في تلك الموارد فلا مانع من جريان الأصل على القول بعدم حجّية الخبر ووجوب العمل به من جهة العلم الاجمالي، بخلاف القول بحجّيته. فتظهر الثمرة بينهما في هذا الفرض كالصورة السابقة.

 وأمّا إذا علم إجمالاً بمخالفة الاستصحاب للواقع في بعض الموارد، كما إذا كانت موارد جريانه كثيرة وعلم إجمالاً بصدور بعض الأخبار الترخيصية في تلك الموارد، فجريان الاستصحاب وعدمه مبني على الخلاف بين الأعلام في جريان الأصل المحرز المثبت للتكليف مع العلم الاجمالي بمخالفته للواقع في بعض الأطراف، كما إذا علمنا بنجاسة إناءين ثمّ علمنا إجمالاً بطهارة أحدهما، فاختار شيخنا الأنصاري (قدس سره) (1) وتبعه المحقق النائيني (قدس سره) (2)عدم جريان استصحاب النجاسة فيهما. واختار صاحب الكفاية (قدس سره) جريانه (3)، وهو الصحيح على ما ذكرناه في محلّه (4). والمقام من صغريات تلك المسألة، فعلى القول بجريانه تظهر الثمرة في المقام بين حجّية الخبر ووجوب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 744 و 745.

(2) أجود التقريرات 2: 50 ـ 52، وفوائد الاُصول 3: 78.

(3) كفاية الاُصول: 432.

(4) تقدّمت الاشارة إليه في ص 81 ويأتي في بحث الشك في المكلف به في ص 403 وما بعدها، كما يأتي مفصّلاً في الجزء الثالث ص 305 ـ 309.

ــ[245]ــ

العمل به من باب الاحتـياط فانّه لا يجري الأصل على الأوّل، ويجري على الثاني كما هو ظاهر. وعلى القول بعدم جريانه لا تظهر ثمرة بينهما إلاّ في صحّة الاسناد ووجوب الأخذ باللوازم على ما تقدّم.

 أمّا المقام الثاني: فملخص الكلام فيه أ نّه إذا ورد عام أو مطلق معلوم الصدور بالتواتر، كعموم الكتاب والسنّة المتواترة، أو بغيره كعموم الخبر المحفوف بالقرينة القطعية، وكان في خبر الواحد خاص أو مقيد، فعلى القول بحجّية الخبر يخصص العموم ويقيّد الاطلاق، لأنّ الخبر حجّة على الفرض، فيكون قرينة على المراد من العام أو المطلق، ولذا ذكرنا في محلّه أنّ تخصيص الكتاب بخبر الواحد ممّا لا إشكال فيه (1). وأمّا على القول بوجوب العمل بالأخبار من باب الاحتياط للعلم الاجمالي بصدور بعضها، فهل يتقدّم الخبر على العموم والاطلاق أيضاً لترتفع الثمرة بين القول بحجّية الخبر والقول بوجوب العمل به من باب الاحتياط من هذه الجهة أم لا؟

ظاهر كلام صاحب الكفاية(قدس سره) وصريح بعض المحققين(قدس سرهم) هو الثاني(2) بدعوى أنّ العام أو المطلق حجّة في مدلوله، ولا يرفع اليد عنهما إلاّ بحجّة أقوى، والمفروض أنّ كل واحد من الأخبار غير ثابت الحجّية، ومجرّد العلم الاجمالي بصدور بعضها لا أثر له.

 هذا، والتحقيق في المقام هو التفصيل بأن يقال: إن كان مفاد العام أو المطلق حكماً الزامياً، ومفاد الخبر حكماً غير الزامي، كقوله تعالى: (وَحَرَّمَ الرِّبَا )(3)

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 4: 469.

(2) كفاية الاُصول: 305، ونهاية الدراية 3: 262.

(3) البقرة 2: 275.

ــ[246]ــ

وقوله (عليه السلام): «لا رِبا بين الوالد والولد» (1) تعيّن العمل بالعام، ولا يجوز العمل بالخاص، لأنّ العلم الاجمالي بورود التخصيص في بعض العمومات وإن أوجب سقوط أصالة العموم عن الحجّية، إلاّ أنّ العلم الاجمالي بارادة العموم في بعضها يقتضي الاحتياط، ووجوب العمل بجميع العمومات المتضمنة للتكاليف الالزامية، والمفروض أنّ الخاص لا يكون حجّة ليكون موجباً لانحلال العلم الاجمالي المذكور. نعم، هناك علم إجمالي بصدور بعض المخصصات، إلاّ أ نّه لا أثر له، إذ المفروض كون مفاد المخصص حكماً غير إلزامي، وقد ذكر في محلّه أ نّه لا أثر للعلم الاجمالي فيما إذا لم يكن متعلقاً بحكم الزامي (2). وعليه فيجب الأخذ بالعمومات والاطلاقات من باب الاحتياط، لا من جهة حجّية أصالة العموم أو الاطلاق على ما يظهر من صاحب الكفاية، ويصرّح به بعض المحققين، ففي هذا الفرض تظهر الثمرة بين القول بحجّية الخبر والقول بوجوب العمل به من باب الاحتياط.

 وإن كان مفاد العام أو المطلق حكماً ترخيصياً، ومفاد الخاص حكماً إلزامياً كقوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللهُ ا لْبَيْعَ)(3) وقوله (عليه السلام): «نهى النبي (صلّى الله عليه وآله) عن بيع الغرر» (4) تعيّن العمل بالخاص ولو كان العمل به من باب الاحتياط، إذ العلم الاجمالي بصدور جملة من المخصصات المشتملة على أحكام إلزامية أوجب سقوط الاُصول اللفظية عن الحجّية، كما هو الحال في الاُصول العملية، فانّ إجراءها في جميع الأطراف يستلزم المخالفة العملية القطعية، وفي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 18: 135/ أبواب الرِّبا ب7 ح1 و3 وفيهما: «ليس بين الرجل وولده رِبا».

(2) راجع ص 416.

(3) البقرة 2: 275.

(4) الوسائل 17: 448 / أبواب آداب التجارة ب 40 ح 3.

ــ[247]ــ

بعضها ترجيح بلا مرجّح، فلا مجال للقول بأنّ العموم أو الاطلاق حجّة في مدلوله، ولا يرفع اليد عنهما إلاّ بحجّة أقوى، والعلم الاجمالي بارادة العموم في بعض الموارد ممّا لا أثر له، إذ المفروض كون مفاد العموم حكماً ترخيصياً، وقد تقدّم أ نّه لا أثر للعلم الاجمالي فيما إذا لم يكن متعلقاً بحكم إلزامي. وهذا هو الفارق بين هذه الصورة والصورة السـابقة، فتعيّن العمل بالمخصص في جميع الأطراف، للعلم الاجمالي بصدور جملة من المخصصات، والمفروض كونه متعلقاً بحكم إلزامي، فيجب الأخذ بالمخصص من باب الاحتياط، ففي هذا الفرض لا تظهر ثمرة بين القول بحجّية الخبر والقول بوجوب العمل به من باب الاحتياط.

 وأمّا إن كان مفاد كل من العام والخاص حكماً إلزامياً، بأن يكون مفاد أحدهما الوجوب ومفاد الآخر الحرمة، كما إذا كان مفاد العام وجوب إكرام العلماء، ومفاد الخاص حرمة إكرام العالم الفاسق، أو كان مفاد العام حرمة إكرام الكـفار ومفاد الخاص وجوب إكرام الضيف منهم مثلاً، فعلى القول بحجّية الأخبار لا إشكال في تقدّمها على العمومات وتخصيصها بها، كما مرّ مراراً. وأمّا على القول بوجوب العمل بها من باب الاحتياط، فهل يجب العمل بالعام أو بالخاص أو يتخيّر؟ المتعيّن هو الثالث، لعدم إمكان الاحتياط وتحصيل الامتثال القطعي، إذ مورد اجتماع العام والخاص طرف لعلمين إجماليين، يقتضي أحدهما الفعل والآخر الترك، فانّ العلم الاجمالي بارادة العموم من بعض العمومات يقتضي الاحتياط بالفعل، والعلم الاجمالي بصدور جملة من المخصصات يقتضي الترك كما في المثال الأوّل، وينعكس الأمر في عكس ذلك كما في المثال الثاني. وعلى التقديرين لا يمكن الاحتياط بلحاظ كلا العلمين، فيكون مخيراً بين الفعل والترك، نظير دوران الأمر بين المحذورين، فانّ العقل مستقل فيه بالتخيير.

ــ[248]ــ

 والمقام وإن لم يكن من صغريات دوران الأمر بين المحذورين، لأنّ دوران الأمر بين المحذورين إنّما هو فيما إذا علم جنس الالزام وشكّ في أ نّه الوجوب أو الحرمة، والمقام ليس كذلك، لاحتمال أن لا يكون مورد اجتماع العام والخاص واجباً ولا حراماً، إذ نحتمل أن لا يكون العموم مراداً من هذا العام، بأن يكون العام الذي نعلم إجمالاً بارادة العموم منه منطبقاً على غير هذا العام، وكذا نحتمل أن لا يكون هذا الخاص صادراً، بأن يكون الخاص الذي نعلم إجمالاً بصدوره غير هذا الخاص، فنحتمل أن لايكون مورد الاجتماع حراماً ولا واجباً، إلاّ أ نّه ملحق بدوران الأمر بين المحذورين حكماً، لما ذكرناه من كونه طرفاً لعلمين إجمالـيين يقتضي أحدهما الفعل والآخر الترك، فلا يمكن الاحتياط وتحصيل الامتثال اليقيني، فإذن لا مناص من الحكم بالتخيير.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net