أدلة وجوب الاحتياط 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 6440


ــ[344]ــ
 

أدلّة الأخباريين

على وجوب الاحتياط

 وهي اُمور ثلاثة:

 الأوّل: الآيات الكريمة: فمنها: الناهية عن القول بغير العلم، كقوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(1) ومنها: الناهية عن إلقاء النفس في التهلكة، كقوله تعالى: (وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(2) ومنها: الآمرة بالتقوى، كقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(3) ولا يتمّ الاستدلال بشيء منها.

 أمّا الاُولى: فلأنّ حرمة القول بغير العلم ممّا لا خلاف فيه بين الأخبارين والاُصوليين، فانّ الاُصولي يعترف بأنّ القول بالترخيص إذا لم يكن مستنداً إلى دليل فهو تشريع محرّم، ولكنّه يدعي قيام الدليل عليه، كما أنّ الأخباري القائل بوجوب الاحتياط أيضاً يعترف بأنّ القول بوجوب الاحتياط من غير دليل يدل عليه تشريع محرّم، ويدّعي قيام الدليل عليه، فهذه الآية الكريمة الدالة على حرمة القول بغير العلم أجنبية عن المقام.

 وأمّا الثانية الناهية عن إلقاء النفس في التهلكة: فلأ نّه إن اُريد بها التهلكة الدنيوية، فلا شك في أ نّه ليس في ارتكاب الفعل مع الشك في حرمته احتمال

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الإسراء 17: 36.

(2) البقرة 2: 195.

(3) التغابن 64: 16.

ــ[345]ــ

الهلكة فضلاً عن القطع بها. وإن اُريد بها التهلكة الاُخـروية، أعني العقاب، فكان الحكم بترك إلقاء النفس فيها إرشادياً محضاً، إذ لا يترتب على إيقاع النفس في العقاب الاُخروي عقاب آخر، كي يكون النهي عنه مولوياً. مضافاً إلى أنّ الاُصولي يرى ثبوت المؤمّن من العقاب فلا أثر لهذا النهي.

 وأمّا الثالثة الآمرة بالتقوى: فلأنّ ارتكاب الشبهة استناداً إلى ما يدل على الترخيص شرعاً وعقلاً ليس منافياً للتقوى. هذا إن كان المراد بالتقوى هو التحفظ عن ارتكاب ما يوجب استحقاق العقاب. وأمّا لو كان المراد بها التحفظ عن الوقوع في المفاسد الواقعية فهو غير واجب قطعاً، ولذا اتّفق الأخباريون والاُصوليون على جواز الرجوع إلى البراءة في الشبهات الموضوعية، بل وفي الحكمية أيضاً إن كانت وجوبية، فكانت الآية الشريفة محمولةً على الارشاد لا محالة.

 الثاني: الأخبار وهي طائفتان:

 الطائفة الاُولى: الأخبار الآمرة بالتوقف عند الشبهة، كقوله (عليه السلام) فى عدّة روايات: «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (1) ونظير هذه الروايات أخبار التثليث كقوله (صلّى الله عليه وآله): «الاُمور ثلاثة: أمر بيّن لك رشده فاتبعه، وأمر بيّن غيّه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فردّه إلى الله»(2).

 والانصاف أ نّه لا دلالة لهذه لأخبار على وجوب الاحتياط لوجهين:

 الوجه الأوّل: أنّ المذكور فيها هو عنوان الشبهة، وهو ظاهر فيما يكون الأمر فيه ملتبساً بقول مطلق، فلا يعمّ ما علم فيه الترخيص الظاهري، لأنّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 27: 154 و 155 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 2 وغيره.

(2) الوسائل 27: 162 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 28 (باختلاف يسير).

ــ[346]ــ

أدلة الترخيص تخرجه عن عنوان المشتبه، وتدرجه في معلوم الحلية. ويدل على ما ذكرناه من اختصاص الشبهة بغير ما علم فيه الترخيص ظاهراً، أ نّه لا إشكال ولا خلاف في عدم وجوب التوقف في الشبهات الموضوعية، بل في الشبهة الحكمية الوجوبية بعد الفحص، فلولا أنّ أدلة الترخيص أخرجتها عن عنوان الشبهة، لزم التخصيص في أخبار التوقف، ولسانها آب عن التخصيص وكيف يمكن الالتزام بالتخصيص في مثل قوله (عليه السلام): «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة».

 الوجه الثاني: أنّ الأمر بالتوقف فيها للارشاد، ولا يمكن أن يكون أمراً مولوياً يستتبع العقاب، إذ علل التوقف فيها بأ نّه خير من الاقتحام في الهلكة، ولا يصح هذا التعليل إلاّ أن تكون الهلكة مفروضة التحقق في ارتكاب الشبهة مع قطع النظر عن هذه الأخبار الآمرة بالتوقف. ولا يمكن أن تكون الهلكة المعلل بها وجوب التوقف مترتبة على نفس وجوب التوقف المستفاد من هذه الأخبار كما هو ظاهر، فيختص موردها بالشبهة قبل الفحص والمقرونة بالعلم الاجمالي.

 وبالجملة: التعليل ظاهر في ثبوت الاحتياط مع قطع النظر عن هذه الأخبار، فلا يمكن إثبات وجوب الاحتياط بنفس هذه الأخبار كما هو مقصود الأخباري.

 إن قلت: إنّما يلزم حمل الأمر على الارشاد لو كان المراد بالهلكة العقاب، وأمّا لو اُريد بها المفسدة الواقعية، أمكن أن يكون الأمر بالتوقف أمراً مولوياً، ومع إمكان ذلك لا يصحّ الحمل على الارشاد، وحينئذ كانت هذه الروايات كافية في تنجيز التكليف الواقعي واستحقاق العقاب على مخالفته، لأ نّها حينئذ تكون إيصالاً له.

ــ[347]ــ

 قلت: حمل الهلكة على المفسدة الواقعية ـ مع كونه خلاف الظاهر في نفسه ـ يستلزم التخصيص في الشبهات الموضوعية، وقد عرفت أنّ الروايات آبية عن التخصيص، فلا مناص من حمل الهلكة على العقاب كما هو الظاهر في نفسه، ومعه كان الأمر بالتوقف إرشادياً لا محالة.

 لا يقال: سلّمنا كون التعليل ظاهراً في ثبوت الاحتياط مع قطع النظر عن هذه الأخبار، إلاّ أنّ عموم الشبهات لما هو محل الكلام يكشف عن جعل وجوب الاحتياط قبل الأمر بالتوقف الموجود في هذه الأخبار، فيكون التنجيز لأجله، لا لأجل وجوب التوقف.

 فانّه يقال: إيجاب الاحتياط لو كان واصلاً مع قطع النظر عن أخبار التوقف فهو خلاف المفروض. مضافاً إلى أ نّه لا معنى حينئذ لأن تكون أخبار التوقف كاشفةً عنه، بل يستحيل ذلك، وإن لم يكن واصلاً امتنع تنجز الواقع به، فانّ الايجاب الطريقي لا يزيد على الايجاب الواقعي في استحالة الانبعاث عنه قبل وصوله، فكما أنّ الوجوب الواقعي لا يكفي في التنجز قبل الوصول كذلك الوجوب الطريقي. وعليه كان مورد أخبار التوقف مثل الشبهات قبل الفحص، أو المقرونة بالعلم الاجمالي ممّا كان الواقع فيه منجّزاً، مع قطع النظر عن هذه الأخبار.

 هذا، وأجاب شيخنا الأنصاري (قدس سره) (1) عن هذا الاشكال: بأنّ إيجاب الاحتياط لا يكفي في تنجيز الواقع المجهول، لأ نّه إن كان وجوبه نفسياً فالعقاب يكون على مخالفة نفسه، لا على مخالفة الواقع. وإن كان غيرياً فلازمه ثبوت العقاب على مخالفة التكليف الواقعي مع فرض عدم وصوله.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 1: 384.

ــ[348]ــ

 ويرد عليه: أنّ الوجوب غير منحصر في القسمين، فانّ وجوب الاحتياط على تقدير ثبوته طريقي، وبه يتنجز الواقع.

 وبما ذكرناه ظهر الجواب عن أخبار التثليث، فانّ ما ثبت فيه الترخيص ظاهراً من قبل الشارع داخل فيما هو بيّن رشـده، لا في المشتبه كما هو الحال في الشبهات الموضوعية. وبالجملة: المشكوك حرمته كالمشكوك نجاسته، وكما أنّ الثاني غير مشمول لهذه الأخبار كذلك الأوّل. والملاك في الجميع ثبوت الترخيص المانع من صدق المشتبه على المشكوك فيه حقيقة، وإن صحّ إطلاقه عليه بالعناية باعتبار التردد في حكمه الواقعي.

الطائفة الثانية: الأخبار الآمرة بالاحتياط، كقوله(عليه السلام): «أخوك دينك فاحتط لدينك»(1) وقوله (عليه السلام): «خد بالحائطة لدينك» (2) وغير ذلك من الروايات الواردة في هذا المعنى.

 والصحيح عدم دلالة هذه الأخبار أيضاً على وجوب الاحتياط في المقام لوجهين:

 الوجه الأوّل: أنّ حسن الاحتياط ممّا استقلّ به العقل، وظاهر هذه الأخبار هو الارشاد إلى هذا الحكم العقلي، فيكون تابعاً لما يرشد إليه، وهو يختلف باختلاف الموارد، ففي بعضها كان الاحتياط واجباً كما في الشبهة قبل الفحص والمقرونة بالعلم الاجمالي، وفي بعضها كان مستحباً كما في الشبهة البدوية بعد الفحص، وهي محل الكلام فعلاً.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 27: 167 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 46 (في الطبعة القديمة ح 41).

(2) الوسائل 27: 166 و 167 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 42 (باختلاف يسير، في الطبعة القديمة ح 37).

ــ[349]ــ

 الوجه الثاني: أنّ هذه الأخبار باطلاقها تعمّ الشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية الوجوبية، مع أنّ الاحتياط فيها غير واجب قطعاً، فلا بدّ حينئذ من رفع اليد عن ظهـورها في الوجوب أو الالتزام فيها بالتخصيص، وحيث إنّ لسانها آب عن التخصيص كما ترى، فتعـيّن حملها على الاستحباب أو على مطلق الرجحان الجامع بينه وبين الوجوب، فلا يستفاد منها وجوب الاحتياط في الشبهة البدوية بعد الفحص، وهي محل الكلام.

 ثمّ إنّه لو سلّم دلالة أخبار التوقف أو الاحتياط على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية، فهي لا تعارض أدلّة البراءة، وذلك لأنّ استصحاب عدم جعل الحرمة ـ بناءً على جريانه، وهو الصحيح على ما تقدّم بيانه(1) ـ يكون رافعاً لموضوع هذه الأخبار، إذ به يحرز عدم التكليف وعدم العقاب، فيتقدّم عليها لا محالة. وكذا أخبار البراءة بعد تماميّـتها تتقـدّم على هذه الأخبار، لكونها أخص منها، فانّ أخبار البراءة لا تعم الشبهة قبل الفحص، ولا المقرونة بالعلم الاجمالي إمّا في نفسها، أو من جهة الاجماع وحكم العقل، بل بعضها مختص بالشبهات التحريمية، كقوله (عليه السلام): «كل شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (2) بخلاف أخبار التوقف والاحتياط فانّها شاملة لجميع الشـبهات، فيخصص بها.

 وقد يتوهّم الاطلاق في أدلة البراءة، وأ نّها شاملة في نفسها لجميع الشبهات، غاية الأمر أ نّها مخصصة بحكم العقل أو بالاجماع، فلا وجه لتقدّمها على أدلة التوقف والاحتياط.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 333 ـ 335.

(2) تقدّم في ص 323.

ــ[350]ــ

 ولكنّه مدفوع بأنّ المانع عن شمول أدلة البراءة لتلك الموارد إن كان حكم العقل باستحالة شمولها لها، فحاله حال المخصص المتصل في منعه عن انعقاد الظهور في العموم أو الاطلاق من أوّل الأمر، وإن كان هو الاجماع، فحاله حال المخصص المنفصل. والمختار فيه القول بانقلاب النسبة على ما سيجيء تفصيل الكلام فيه في محلّه (1) إن شاء الله تعالى.

 ثمّ إنّ هنا وجهاً آخر لتقديم أخبار البراءة على خصوص أخبار الاحتياط: وهو أنّ أخبار البراءة كقوله (عليه السلام): «كل شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» نص في عدم وجوب الاحتياط، وأخبار الاحتياط على تقدير تمامية دلالتها ظاهرة في وجوبه. والجمع العرفي يقتضي رفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب بسبب النص، وحمله على الرجحان الجامع بين الوجوب والندب. وهذا الوجه لا يجري بالنسبة إلى أخبار التوقف، لأنّ العلّة المذكورة فيها وهي الوقوع في الهلكة تجعلها نصّاً في عدم جواز الاقتحام، إلاّ أ نّه قد ذكرنا قصورها عن الدلالة على الحكم المولوي في نفسها.

 ثمّ إنّه ربّما يتوهّم أنّ أخبار التوقف والاحتياط ـ على تقدير تمامية دلالتها ـ تتقدّم على أخبار البراءة، لأنّ المرفوع بحديث الرفع ونحوه هو ما لا يعلم من الأحكام، ووجوب الاحتياط بناءً على استفادته من الأخبار معلوم، فهو خارج عن أدلة البراءة موضوعاً.

 وهو مدفوع بأ نّه إنّما يتمّ ذلك لو كان وجوب الاحتياط نفسياً. وأمّا لو كان وجوبه طريقياً كما هو المفروض، فالمترتب عليه هو لزوم امتثال الحكم الواقعي المجهول، وحديث الرفع يرفعه فتقع المعارضة بين الدليلين لا محالة، وقد عرفت تقدّم حديث الرفع وأمثاله على أدلة التوقف والاحتياط.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب ص 464 وما بعدها.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net