المقام الأوّل : دوران الأمر بين المحذورين في التوصليات مع وحدة الواقعة 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4803


 أمّا المقام الأوّل: وهو دوران الأمر بين المحذورين في التوصليات مع وحدة الواقعة، فالأقوال فيه خمسة: الأوّل: تقديم احتمال الحرمة، لكون دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة. الثاني: الحكم بالتخيير بينهما شرعاً. الثالث: هو الحكم بالاباحة شرعاً والتخيير بينهما عقلاً، واختاره صاحب الكفاية(قدس سره) (2). الرابع: هو الحكم بالتخيير بينهما عقلاً من دون الالتزام بحكم ظاهري شرعاً،  واختاره المحقق النائيني (قدس سره) (3). الخامس: جريان البراءة شرعاً وعقلاً.

 وهذا هو الصحيح، لعموم أدلة البراءة الشرعية وعدم ثبوت ما يمنع عن شمولها، ولحكم العقل بقبح العقاب على خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به الموجب لصدق عدم البيان. ويتّضح هذا وضوحاً ببيان ما في سائر الأقوال فنقول:

 أمّا القول الأوّل: ففيه أوّلاً: منع أولوية دفع المفسدة من جلب المنفعة على نحو الاطلاق، ضرورة أ نّه ربّ واجب يكون أهم من الحرام في صورة المزاحمة. وثانياً: أ نّه على تقدير التسليم، فانّما يتم فيما إذا كانت المفسدة والمصلحة معلومتين. وأمّا لو كان الموجود مجرد احتمال المفسدة، فلا نسلّم أولوية رعايته

ـــــــــــــــ
(2) كفاية الاُصول: 355.

(3) أجود التقريرات 3: 397، فوائد الاُصول 3: 444 ـ 445.

ــ[383]ــ

من رعاية احتمال المصلحة، كيف وقد عرفت عدم لزوم رعاية احتمال المفسدة مع القطع بعدم وجود المصلحة، كما إذا دار الأمر بين الحرمة وغير الواجب، فلا وجه للزوم مراعاة احتمال المفسدة مع احتمال المصلحة أيضاً.

 وأمّا القول الثاني: وهو الحكم بالتخيير شرعاً، ففيه: أ نّه إن اُريد به التخيير في المسألة الاُصولية أعني الأخذ بأحد الحكمين في مقام الافتاء، نظير الأخذ بأحد الخبرين المتعارضين، فلا دليل عليه. وقياس المقام على الخبرين المتعارضين مع الفارق، لوجود النص هناك(1) دون المقام، فالافتاء بأحدهما بخصوصه تشريع محرّم. وإن اُريد به التخيير في المسألة الفرعية أعني الأخذ بأحدهما في مقام العمل، بأن يكون الواجب على المكلف أحد الأمرين تخييراً من الفعل أو الترك، فهو أمر غير معقول، لأنّ أحد المتناقضين حاصل لا محالة، ولا يعقل تعلّق الطلب بما هو حاصل تكويناً، ولذا ذكرنا في محلّه(2) أ نّه لا يعقل التخيير بين ضدّين لا ثالث لهما، لأنّ أحدهما حاصل بالضرورة، ولا يعقل تعلّق الطلب به.

 وأمّا القول الثالث: وهو القول بالاباحة الشرعية، ففيه أوّلاً: أنّ أدلّة الاباحة الشرعية مختصّة بالشبهات الموضوعية كما عرفت سابقاً (3)، فلا تجري فيما إذا دار الأمر بين المحذورين في الشبهات الحكمية، فالدليل أخص من المدعى. وثانياً: أنّ أدلة الحل لا تشمل المقام أصلاً، لأنّ المأخوذ في الحكم بالاباحة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يأتي التعرّض لنصوص التخيير والجواب عنها في الجزء الثالث من هذا الكتاب، ص 507 ـ 511.

(2) محاضرات في اُصول الفقه 4: 9.

(3) في ص 315 وما بعدها.

ــ[384]ــ

الظاهرية شرعاً هو الشك فيها، والمفروض في المقام هو العلم بثبوت الالزام في الواقع إجمالاً، وعدم كون الفعل مباحاً يقيناً، فكيف يمكن الحكم بالاباحة ظاهراً.

 وأمّا القول الرابع: وهو الحكم بالتخيير عقلاً من دون أن يكون المورد محكوماً بحكم ظاهري شرعاً فقد استدلّ له بوجهين:

 الوجه الأوّل: أنّ الحكم الظاهري لا بدّ له من أثر شرعي، وإلاّ لكان جعله لغواً، ولا فائدة في جعل حكم ظاهري في المقام، لعدم خلو المكلف من الفعل أو الترك تكويناً.

 وفيه: أنّ الملحوظ في الحكم الظاهري هو كل واحد من الوجوب والحرمة مستقلاًّ باعتبار أنّ كل واحد منهما مشكوك فيه مع قطع النظر عن الآخر، فيكون مفاد رفع الوجوب ظاهراً هو الترخيص في الترك، ومفاد رفع الحرمة ظاهراً هو الترخيص في الفعل، فكيف يكون جعل الحكم الظاهري لغواً. مع أ نّه لو كان عدم خلوّ المكلف من الفعل أو الترك موجباً للغوية الحكم الظاهري، لكان جعل الاباحة الظاهرية في غير المقام أيضاً لغواً، وهو ظاهر الفساد.

 الوجه الثاني: أنّ رفع الالزام ظاهراً إنّما يكون في مورد قابل للوضع بايجاب الاحتياط، والمفروض عدم إمكانه في المقام، فإذا لم يمكن جعل الالزام لا يمكن رفعه أيضاً، فالمورد غير قابل للتعبد الشرعي بالوضع أو الرفع.

 وفيه: أنّ المورد قابل للتعبد بالنسبة إلى كل من الحكمين بخصوصه، فانّ القدرة على الوضع إنّما تلاحظ بالنسبة إلى كل من الوجوب والحرمة مستقلاًّ لا إليهما معاً، وحيث إنّ جعل الاحتياط بالنسبة إلى كل منهما بخصوصه أمر ممكن، فلا محالة كان الرفع أيضاً بهذا اللحاظ ممكناً، وتوضيح ذلك: أنّ القدرة على كل واحد من الأفعال المتضادة كافية في القدرة على ترك الجميع، ولا يعتبر

ــ[385]ــ

فيها القدرة على فعل الجميع في عرض واحد، ألا ترى أنّ الانسان مع عدم قدرته على إيجاد الأفعال المتضادة في آن واحد يقدر على ترك جميعها، وليس ذلك إلاّ من جهة قدرته على فعل كل واحد منها بخصوصه، ففي المقام وإن لم يكن الشارع متمكناً من وضع الالزام بالفعل والترك معاً، ولكنّه متمكن من وضع الالزام بكل منهما بخصوصه، وذلك يكفي في قدرته على رفعهما معاً، وحينئذ فلمّا كان كل واحد من الوجوب والحرمة مجهولاً، كان مشمولاً لأدلة البراءة، وتكون النتيجة هو الترخيص في كل من الفعل والترك.

 وممّا ذكرناه يظهر أ نّه لا مانع من جريان الاستصحاب أيضاً في المقام لو كان لكل من الحكمين حالة سابقة، إذ لا فرق في ذلك بين الاُصول التنزيلية وغيرها، كما لا فرق بين أن تكون الشبهة حكمية أو موضوعية، فلو علم المكلف مثلاً بوقوع الحلف على سفر معيّن أو على تركه، فلا مانع من الرجوع إلى استصحاب عدم الحلف على فعله، واستصحاب عدم الحلف على تركه، وكذا لو علمنا بوجوب عمل أو حرمته في الشريعة المقدّسة، كان استصحاب عدم جعل كل منهما جارياً، بناءً على ما ذكرناه في محلّه من جريان استصحاب عدم الجعل(1).

 ثمّ إنّه قد يستشكل في الرجوع إلى الاُصول العملية في المقام بوجهين:

 الوجه الأوّل: أنّ الرجوع إليها مخالف للعلم الاجمالي بكون أحد الأصلين على خلاف الواقع.

 والجواب: أنّ هذه مخالفة التزامية لا بأس بها. وأمّا المخالفة العملية القطعية فهي مستحيلة كالموافقة القطعية، ولذا يعبّر عن المقام بدوران الأمر بين محذورين.

 الوجه الثاني: أنّ الرجوع إلى الاُصول النافية إنّما يصحّ عند الشك في أصل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّم في مبحث البراءة في ص 334 ويأتي في الجزء الثالث في ص 54.

ــ[386]ــ

التكليف، وحيث إنّا نعلم في المقام بجنس الالزام، فالشك إنّما هو في المكلف به لا في التكليف، فكيف يمكن الرجوع إلى الأصل النافي.

 والجواب: أنّ العلم بالالزام إنّما يمنع من جريان الاُصول فيما إذا كان التكليف المعلوم إجمالاً قابلاً للباعثية، كما إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر، وأمّا إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته بعينه، فالعلم بوجود الالزام في حكم العدم، إذ الموافقـة القطعية كالمخالفة القطعية مستحيلة، والموافقة الاحتمالية كالمخالفة الاحتمالية حاصلة لا محالة، فلا أثر للعلم الاجمالي بالالزام أصلاً، فصحّ أن نقول: إنّ مورد دوران الأمر بين محذورين من قبيل الشك في التكليف لا الشك في المكلف به.

 وظهر بما ذكرناه ضعف ما في الكفاية من منع جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان، لأنّ العلم الاجمـالي بيان (1)، وذلك لأنّ العلم الاجمالي غير القابل للباعثية لا يعدّ بياناً، فالبراءة العقلية كالبراءة الشرعية جارية في المـقام، فلا تصل النوبة إلى التخيير العقلي.

 ثمّ إنّه لا منافاة بين ما ذكرناه ـ من جريان البراءة الشرعية والعقلية، بل الاستصحاب في المقام ـ وبين ما قدّمناه من المنع عن جريان أصالة الاباحة فيه، لأنّ أصالة الاباحة أصل واحد لا مجال لجريانها مع العلم بعدم الاباحة في الواقع تفصيلاً، لما ذكرناه في محلّه من أ نّه يعتبر في جريان الأصل عدم العلم بمخالفته للواقع. وهذا بخلاف أصل البراءة والاستصحاب، فانّه يجري في كل من الوجوب والحرمة مستقلاًّ على ما تقدّم بيانه، ولا علم بمخالفة كل من الأصلين للواقع، غاية الأمر أ نّه يحصل العلم الاجمالي بمخالفة أحدهما للواقع

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 356.

ــ[387]ــ

مع الشك في مخالفة كل منهما في نفسه، وليس في ذلك إلاّ المخالفة الالتزامية، وقد عرفت أ نّه لا محذور فيها.

 ثمّ إنّه بناءً على ما اخترناه من جريان الاُصول النافية في موارد دوران الأمر بين محذورين لا فرق بين أن يكون أحد الحكمين محتمل الأهمّية وعدمه، لأنّ كلاً من الحكمين المجهولين مورد لأصالة البراءة ومأمون من العقاب على مخالفته، سواء كان أحدهما على تقدير ثبوته في الواقع أهم من الآخر أم لم يكن.

 وأمّا بناءً على كون الحكم فيه هو التخيير العقلي، فالمقام يندرج في كبرى دوران الأمر بين التعيين والتخـيير. وهل الحكم فيه هو التعيين أو التخـيير؟ وجهان بل قولان.

 ذهب صاحب الكفاية (قدس سره) (1) إلى التعيين، بدعوى أنّ العقل يحكم بتعيين محتمل الأهمّية، كما هو الحال في جميع موارد التزاحم عند احتمال أهمّية أحد المتزاحمين بخصوصه. واختار المحقق النائيني (قدس سره) (2) الحكم بالتخيير على خلاف ما اختاره في باب التزاحم. وهذا هو الصحيح، وذلك لأنّ المزاحمة بين الحكمين في باب التزاحم إنّما تنشأ من شمول إطلاق كل من الخطابين لحال الاتيان بمتعلق الآخر، فإذا لم يمكن الجمع بينهما لعدم القدرة عليه فلا مناص من سقوط أحد الاطلاقين، فإن كان أحدهما أهم من الآخر كان الساقط غيره، وإلاّ سقط الاطلاقان معاً، لبطلان الترجيح بلا مرجح.

 هذا فيما إذا علم كون أحدهما المعيّن أهم، أو علم تساويهما. وأمّا إذا احتمل أهمّية أحدهما المعيّن، فسقوط الاطلاق في غيره معلوم على كل تقدير، إنّما الشك

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 356 ـ 357.

(2) أجود التقريرات 3: 401 / التنبيه الأوّل، فوائد الاُصول 3: 450 ـ 451.

ــ[388]ــ

في سقوط إطلاق ما هو محتمل الأهمّية، ومن الظاهر أ نّه مع الشك في سقوط إطلاقه يتعيّن الأخذ به، فتكون النتيجة لزوم الأخذ بمحتمل الأهمّية وترك غيره.

 هذا فيما إذا كان لكل من دليلي الحكمين إطلاق. وأمّا إذا لم يكن لشيء منهما إطلاق، وكان كل من الحكمين ثابتاً باجماع ونحوه، فالوجه في تقديم محتمل الأهمّية هو أنّ كلاً من الحكمين يكشف عن اشتمال متعلقه على الملاك الملزم، وعجز المكلف عن استيفائهما معاً يقتضي جواز تفويت أحدهما، فعند احتمال أهمّية أحد الحكمين بخصوصه يقطع بجواز استيفاء ملاكه وتفويت ملاك الآخر على كل تقدير. وأمّا تفويت ملاك ما هو محتمل الأهمّية ـ ولو باستيفاء ملاك الآخر ـ فلم يثبت جوازه، فلا مناص حينئذ من الأخذ بمحتمل الأهمّية.

 وهذا الوجه للزوم الأخذ بالتعيين غير جار في المقام، إذ المفروض أنّ الحكم المجعول واحد مردّد بين الوجوب والحرمة، فليس في البين إطلاقان ولا ملاكان. ونسبة العلم الاجمالي إلى كل من الحكمين على حد سواء، فالحكم العقلي بالتخيير ـ بمعنى اللاّ حرجية الناشئ من استحالة الجمع بين النقيضين ـ باق على حاله. وإن شـئت قلت: إنّ الأهمّية المحتملة في المقام تقديرية، إذ لم يعلم ثبوت أحد الحكمين بخصوصه. وإنّما المعلوم ثبوت الالزام في الجملة، غاية الأمر أ نّه لو كان الالزام في ضمن أحدهما المعيّن احتمل أهمّيته، وهذا بخلاف باب التزاحم المعلوم فيه ثبوت كل من الحكمين، وإنّما كان عدم وجوب امتثالهما معاً للعجز وعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما.

 فتحصّل ممّا ذكرناه: أ نّه بناءً على عدم جريان الاُصول النافية وكون الحكم هو التخيير العقلي لا يندرج المقام في كبرى التزاحم، ولا وجه لتقديم محتمل الأهمّية على غيره.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net