التنبيه الثامن : الاضطرار إلى ارتكاب بعض أطراف العلم الاجمالي 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4464


التنبيه الثامن

 في انحلال العلم الاجمالي للاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف وعدمه.

 وقبل التكلم في ذلك لا بدّ من بيان مقدّمة يتّضح بها محل البحث في هذا التنبيه فنقول: إنّ الكلام في انحلال العلم الاجمالي وعدمه للاضطرار إنّما هو فيما إذا كان الاضطرار رافعاً لجميع الآثار للحكم المعلوم بالاجمال، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الخلين مثلاً مع الاضطرار إلى شرب أحدهما، فانّ الأثر المترتب على هذا المعلوم بالاجمال ليس إلاّ الحرمة المرتفعة بالاضطرار، فيمكن القول بانحلال العلم الاجمالي في هذا الفرض، باعتبار أنّ التكليف في الطرف المضطر إليه مرتفع بالاضطرار، وفي الطرف الآخر مشكوك فيه، فيرجع فيه إلى الأصل.

 وأمّا إذا لم يكن الاضطرار رافعاً لجميع آثار المعلوم بالاجمال، بأن تكون له آثار يرتفع بعضها بالاضطرار دون بعض آخر، كما إذا علمنا بنجاسة أحد المائعين: الماء أو الحليب، مع الاضطرار إلى شرب الماء، فانّ الأثر المـترتب على هذا المعلوم بالاجمال تكليف وهو حرمة الشرب، ووضع وهو عدم صحّة الوضوء بالماء، والمرتفع بالاضطرار إنّما هو التكليف وحرمة الشرب فقط دون الوضع، فانّ الاضطرار إلى شرب النجس [ لا ] يوجب جواز التوضي به كما هو ظاهر.

 هذا فيما إذا كان الاضطرار إلى أحد الأطراف على التعيين. وكذا الحال فيما إذا كان الاضطرار إلى أحدها لا على التعيين، كما إذا علمنا إجمالاً بنجاسة أحد

ــ[444]ــ

الماءين مع الاضطرار إلى شرب أحدهما لا بعينه، فانّ المرتفع بالاضطرار إنّما هو حرمة الشرب لا عدم صحّة الوضوء به، ففي مثل ذلك لا ينحل العلم الاجمالي بالاضطرار بلا إشكال ولا خلاف، لبقاء أثر المعلوم بالاجمال في الطرف المضطر إليه بعد الاضطرار أيضاً، فانّا نعلم إجمالاً ـ ولو بعد الاضطرار ـ أنّ هذا الماء لايجوز التوضي به أو هذا الحليب لايجوز شربه، وهذا العلم منجّز للتكليف لا محالة، فلا يجوز التوضي بالماء ولا شرب الحليب. وكذا الحال في مثال الاضطرار إلى أحد الأطراف لا على التعيين، فانّا نعلم إجمالاً بعدم صحّة الوضوء بهذا الماء أو بذلك الماء وإن جاز شرب أحدهما للاضطرار.

 وبالجملة: رفع بعض الآثار لأجل الاضطرار ليس إلاّ مثل انتفاء بعض الآثار من غير جهة الاضطرار ومن غير ناحية النجاسة، كما في الحليب فانّه لا يجوز التوضي به مع قطع النظر عن عروض النجاسة وكونه طرفاً للعلم الاجمالي، ففي مثال دوران الأمر بين نجاسة الماء والحليب يكون أثر المعلوم بالاجمال قبل الاضطرار عدم جواز الشرب وحده في طرف وهو الحليب، وعدم جواز الشرب وعدم صحّة التوضي في الطرف الآخر وهو الماء، وبعد الاضطرار إلى شرب الماء ترتفع حرمة شربه فقط، ويبقى الحكم الوضعي وهو عدم صحّة الوضوء به بحاله، فيكون المعلوم بالاجمال ذا أثر في الطرفين، فيكون العلم الاجمالي منجّزاً لا محالة، ولا يكون الاضطرار موجباً لانحلاله.

 فتحصّل: أنّ الكلام في انحلال العلم الاجمالي للاضطرار وعدمه إنّما هو فيما إذا كان الاضطرار موجباً لرفع جميع الآثار، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الحليبين أو أحد الخلين مثلاً.

 إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ تحقيق الحال في انحلال العلم الاجمالي للاضطرار يستدعي التكلم في مقامين:

ــ[445]ــ

 المقام الأوّل: فيما إذا كان الاضطرار إلى أحدهما المعيّن، كما في مثال العلم الاجمالي بنجاسة الماء أو الحليب مع الاضطرار إلى شرب الماء.

 المقام الثاني: فيما إذا كان الاضطرار إلى أحدهما لا على التعيين، كما في مثال العلم الاجمالي بنجاسة أحد الماءين مع الاضطرار إلى شرب أحدهما لا بعينه.

 أمّا المقام الأوّل: فهو يتصوّر بصور ثلاث:

 الصورة الاُولى: أن يكون الاضطرار حادثاً بعد التكليف وبعد العلم به.

 الصورة الثانية: أن يكون الاضطرار حادثاً بعد التكليف وقبل العلم به، كما إذا كان أحد الماءين نجساً في الواقع، ولكنّه لم يكن عالماً به فاضطرّ إلى شرب أحدهما ثمّ علم بأنّ أحدهما كان نجساً قبل الاضطرار.

 الصورة الثالثة: أن يكون الاضطرار حادثاً قبل التكليف وقبل العلم به.

 أمّا الصورة الاُولى: فاختلفت كلماتهم فيها، فاختار شيخنا الأنصاري (1)(قدس سره) عدم انحلال العلم الاجمالي، بدعوى أنّ التكليف قد تنجز بالعلم الاجمالي قبل عروض الاضطرار ولا رافع له في الطرف غير المضطر إليه.

 وذهب صاحب الكفاية (قدس سره) في متن الكفاية (2) إلى الانحلال وعدم التنجيز، بدعوى أنّ تنجيز التكليف يدور مدار المنجّز حدوثاً وبقاءً، والمنجّز هو العلم الاجمالي بالتكليف، وبعد الاضطرار إلى أحد الطرفين لا يبقى علم بالتكليف في الطرف الآخر بالوجدان، كما هو الحال في العلم التفصيلي بعد زواله بالشك الساري، فانّ التنجيز يسقط بزواله، فالعلم الاجمالي لا يكون أقوى في التنجيز من العلم التفصيلي.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 425.

(2) كفاية الاُصول: 360.

ــ[446]ــ

 ثمّ نقض بفقدان بعض الأطراف باعتبار أنّ الاضطرار إلى بعض الأطراف ليس إلاّ كفقد بعضها، فكما لا إشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي هنا، كذلك لا ينبغي الاشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي مع الاضطرار إلى بعض الأطراف. وهذا النقض وإن خصّه صاحب الكفاية بفقدان بعض الأطراف، إلاّ أ نّه جار في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بعد العلم بالتكليف، بل يجري في الامتثال والاتيان ببعض الأطراف أيضاً، فانّه لا يبقى علم بالتكليف في جميع هذه الصور.

 وأجاب عنه: بأنّ الاضطرار من حدود التكليف، لأنّ التكليف من أوّل حدوثه يكون مقيّداً بعدم الاضطرار، بخلاف الفقدان فانّه ليس من حدوده، وإنّما يكون ارتفاع التكليف بفقدان بعض الأطراف من قبيل انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه. هذا ملخّص ما ذكره في المتن.

 وعدل عنه في الهامش فيما إذا كان الاضطرار إلى أحدهما المعيّن، كما هو محل كلامنا فعلاً، والتزم ببقاء التنجيز في الطرف غير المضطر إليه، بتقريب أنّ العلم الاجمالي تعلّق بالتكليف المردد بين المحدود والمطلق، باعتبار أنّ التكليف في أحد الطرفين محدود بعروض الاضطرار، وفي الطرف الآخر مطلق، ويكون من قبيل تعلّق العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين القصير والطويل، ولا فرق في تنجّز التكليف بالعلم الاجمالي بين أن يكون الطرفان كلاهما قصيرين، أو كلاهما طويلين، أو يكون أحدهما قصيراً والآخر طويلاً، كما إذا علمنا إجمالاً بوجوب دعاء قصير ولو كلمة واحدة، ودعاء طويل، فانّ العلم الاجمالي منجّز فيه بلا إشكال.

 والمقام من هذا القبيل بعينه، فانّ الاضطرار حادث بعد التكليف وبعد العلم به على الفرض، فيكون التكليف في الطرف المضطر إليه قصيراً ومنتهياً بعروض الاضطرار، وفي الطرف الآخر طويـلاً، ولا مانع من تنجيز التكليف المعلوم

ــ[447]ــ

بالاجمال في مثله. هذا ملخص ما ذكره في الهامش بتوضيح منّا.

 والصحيح ما ذكره في الهامش من بقاء التنجيز في الطرف غير المضطر إليه، لماذ كرناه مراراً (1) من أنّ التنجيز منوط بتعارض الاُصول في أطراف العلم الاجمالي وتساقطها، وفي المقام كذلك، فانّ العلم الاجمالي بثبوت التكليف في الطرف غير المضطر إليه في جميع الأزمان أو في الطرف المضطر إليه إلى حدوث الاضطرار موجود، وحيث إنّ التكليف المحتمل في أحد الطرفين على تقدير ثبوته إنّما هو في جميع الأزمان، وفي الطرف الآخر على تقدير ثبوته إلى حدوث الاضطرار، فلا محالة يقع التعارض بين جريان الأصل في أحدهما بالنسبة إلى جميع الأزمان، وبين جريانه في الطرف الآخر بالنسبة إلى حدوث الاضطرار، وبعد تساقطهما كان العلم الاجمالي منجّزاً للتكليف، فانتهاء التكليف في أحد الطرفين بانتهاء أمده لأجل الاضطرار لايوجب جريان الأصل في الطرف الآخر.

 وأمّا ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) في المتن من أنّ التنجيز دائر مدار المنجّز، وهو العلم حدوثاً وبقاءً إلى آخر ما تقدّم ذكره، فهو صحيح من حيث الكبرى، إذ لا إشكال في أنّ التنجيز دائر مدار العلم بالتكليف حدوثاً وبقاءً، ولكنّه غير تام من حيث الصغرى من أ نّه لا يبقى علم بالتكليف بعد حدوث الاضطرار، وذلك لأنّ العلم الاجمالي بالتكليف باق بحـاله حتّى بعد حدوث الاضطرار، فانّه يعلم إجمالاً ولو بعد الاضطرار بأنّ التكليف إمّا ثابت في هذا الطرف إلى آخر الأزمان، أو في الطرف الآخر إلى حدوث الاضطرار، فلا وجه لدعوى تبدّل العلم بالشك [ فانّه ] انّما يكون فيما إذا زال العلم بطروء الشك الساري، بلا فرق في ذلك بين العلم التفصيلي والعلم الاجمالي، كما إذا علمنا تفصيلاً بنجاسة هذا الماء المعيّن، ثمّ زال العلم وطرأ الشك الساري في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع على سبيل المثال ص 404.

ــ[448]ــ

نجاسته، وكذا إذا علمنا إجمالاً بنجاسة الماءين ثمّ طرأ الشك الساري في نجاسة أحدهما واحتملنا طهارة كليهما. وهذا بخلاف المقام، فانّ العلم الاجمالي باق بحاله، إنّما المرتفع بالاضطرار هو المعلوم لا العلم به، فانّ التكليف المعلوم بالاجمال على تقدير ثبوته في الطرف المضطر إليه قد ارتفع بالاضطرار، والعلم المتعلق به إجمالاً باق على حاله، كما هو الحال في صورة خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء أو فقدانه أو الاتيان به، فانّ العلم الاجمالي باق على حاله في جميع هذه الصور، غاية الأمر أنّ المعلوم بالاجمال وهو التكليف محتمل الارتفاع، لأجل الخروج عن محل الابتلاء، أو لأجل الفقدان أو لأجل الاتيان والامتثال، فيجب الاجتناب عن الطرف الآخر لبقاء العلم الاجمالي وتنجّز التكليف به. ولولا ما ذكرناه من بقاء العلم الاجمالي في جميع الصور المذكورة لتمّ النقض المذكور في كلامه. ولا يجدي الجواب عنه بأنّ الاضطرار من حدود التكليف، دون الفقدان والخروج من محل الابتلاء ونحوهما، بل التكليف في الأمثلة المذكورة منتف بانتفاء موضوعه، وذلك لما ذكرناه في الواجب المشروط (1) من أنّ فعلية الحكم تدور مدار وجود الموضوع بما له من القيود والخصوصيات، فكما أنّ وجود نفس الموضوع دخيل في الحكم، كذا كل واحد من القيود الماخوذة فيه دخيل في الحكم، وبانتفاء كل واحد من القيود ينتفي الحكم بانتفاء موضوعه، فلا فرق بين انتفاء ذات الموضوع كما في الفقدان أو الخروج عن محل الابتلاء، وبين انتفاء قيده وهو عدم الاضطرار كما في محل الكلام. هذا كلّه حكم الصورة الاُولى، وهي ما إذا كان الاضطرار بعد التكليف وبعد العلم به ومقابلها بتمام المقابلة هي:

 الصورة الأخيرة: وهي ما إذا كان الاضطرار فيه قبل التكليف وقبل العلم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 2: 167، راجع أيضاً بحث الشرط المتأخر ص 133.

ــ[449]ــ

به، كما إذا اضطرّ إلى شرب أحد الماءين مثلاً، ثمّ علم بوقوع النجاسة في أحدهما بعد الاضطرار. ولا ينبغي الاشكال في عدم التنجيز في هذه الصورة، إذ لا علم بالتكليف فيها، لاحتمال وقوع النجاسة في الطرف المضطر إليه، وحيث إنّ المفروض كون الاضطرار قبل وقوع النجاسة، فوقوعها في الطرف المضطر إليه لا يوجب حدوث التكليف، ووقوعها في الطرف الآخر مجرد احتمال لا مانع من الرجوع فيه إلى الأصل. ويلحق بهذه الصورة صورة تقارن الاضطرار والعلم بالتكليف فيجري فيه الكلام السابق من عدم التنجيز بلا فرق بينهما.

 بقي الكلام في الصورة المتوسطة: وهي أن يكون الاضطرار بعد التكليف وقبل العلم به كما إذا اضطرّ إلى شرب أحد الماءين مثلاً، ثمّ علم بأنّ أحدهما كان نجساً قبل الاضطرار، فهل الاعتبار بسبق التكليف على الاضطرار، فيحكم بالتنجيز، أو على العلم الحادث بعد الاضطرار، فيحكم بعدمه لكون الاضطرار قبل العلم بالتكليف على الفرض؟ الصحيح هو الثاني، لأنّ المانع من جريان الأصل هو العلم الاجمالي بالتكليف لا التكليف بواقعيته ولو لم يعلم به المكلف أصلاً، فهو حين الاضطرار إمّا قاطع بعدم التكليف فلا يحتاج إلى إجراء الأصل بل لا يمكن. وإمّا شاك فيه فلا مانع من جريانه في الطرفين، لعدم المعارضة، لعدم العلم بالتكليف على الفرض، والعلم الاجمالي الحادث بعد الاضطرار ممّا لا أثر له، لاحتمال وقوع النجاسـة في الطرف المضطر إليه، ولا يوجب حدوث التكليف فيه لكون الاضطرار رافعاً له.

 وبالجملة: التكليف في الطرف المضطر إليه ممّا نقطع بعدمه، لأنّ الأمر دائر بين كون التكليف منفياً فيه من أوّل الأمر وبين سقوطه بالاضطرار. وأمّا الطرف الآخر، فالتكليف فيه وإن كان محتملاً، إلاّ أ نّه لا مانع فيه من الرجوع إلى الأصل، إذ لا معارض له، لأ نّه لا يجري في الطرف المضطر إليه، لعدم الأثر

ــ[450]ــ

له للقطع بالحلية فيه كما تقدّم.

 وها هنا شبهة: وهي أنّ التكليف الواقعي وإن لم يكن مانعـاً من جريان الأصل، إلاّ أ نّه بعد العلم به تترتب آثاره من حين حدوثه لا من حين العلم به، كما هو الحال في العلم التفصيلي فانّه لو علمنا بأنّ الماء الذي اغتسلنا به للجنابة قبل اُسبوع مثلاً كان نجساً، يجب ترتيب آثار نجاسة الماء المذكور من حين نجاسته لا من حين العلم بها، فيجب الاتيان بقضاء الصلوات التي أتينا بها مع هذا الغسل، وكذا سائر الآثار المترتبة شرعاً على نجاسة الماء المذكور.

 ففي المقام أيضاً لا مناص من ترتيب آثار التكليف من حين حدوثه لا من حين انكشافه، وحينئذ لمّا كان حدوث التكليف قبل الاضطرار، فلا بدّ من اعتبار وجوده قبله ولو كان منكشفاً بعده، وعليه فبعد طروء الاضطرار نشك في سقوط هذا التكليف الثابت قبل الاضطرار لأجل الاضطرار، لأ نّه لو كان في الطرف المضطر إليه فقد سقط بالاضطرار، ولو كان في الطرف الآخر كان باقياً لا محالة، فيرجع إلى استصحاب بقاء التكليف أو قاعدة الاشتغال على خلاف بيننا وبين المحقق النائيني(1) (قدس سره) وعلى كل تقدير لا مجال للرجوع إلى أصالة البراءة في الطرف غير المضطر إليه. وبالجملة: بعد العلم بثبوت التكليف قبل الاضطرار والشك في سقوطه له يحكم بوجوب الاجتناب عن الطرف الآخر لأجل الاستصحاب أو لقاعدة الاشتغال.

 والجواب عن هذه الشبهة: أنّ المقام ليس مجرى للاستصحاب ولا لقاعدة الاشتغال، فانّ الاستصحاب أو القاعدة إنّما يجريان فيما إذا كانت الاُصول في أطراف العلم الاجمالي ساقطة بالمعارضة، كما في الشك في بقاء الحدث المردد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 3: 454 و 455، فوائد الاُصول 4: 94.

ــ[451]ــ

بين الأصغر والأكبر بعد الوضوء، فانّ الأصل في كل منهما معارض بالأصل الجاري في الآخر، وبعد تساقطهما يرجع إلى الاستصحاب ويحكم ببقاء الحدث الجامع بين الأكبر والأصغر. وهذا بخلاف ما إذا كان الأصل جارياً في بعض الأطراف بلا معارض كما في المقام، فانّ التكليف في الطرف المضطر إليه معلوم الانتفاء بالوجدان، فلا معنى لجريان الأصل فيه، وفي الطرف الآخر مشكوك الحدوث فلا مانع من الرجوع إلى الأصل فيه، فليس لنا علم بالتكليف وشكّ في سقوطه حتّى نحكم ببقائه للاستصحاب أو لقاعدة الاشتغال، كما في مثال الحدث المردد بين الأكبر والأصغر، لأنّ التكليف في الطرف المضطر إليه منفي بالوجدان، وفي الطرف الآخر مشكوك الحدوث ومنفي بالتعبد للأصل الجاري فيه بلا معارض، ومن هنا نقول بأنّ المرجع عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين هي البراءة، فانّه مع الاتيان بالأقل يشك في بقاء التكليف المعلوم بالاجمال، ومع ذلك لا يرجع إلى الاستصحاب ولا إلى قاعدة الاشتغال، وليس ذلك إلاّ لأنّ منشأ الشك في بقاء التكليف احتمال تعلّقه بالأكثر الذي يجري فيه الأصل بلا معارض، فالتكليف بالأقل ساقط بالامتثال، والتكليف بالأكثر مشكوك الحدوث من أوّل الأمر، ومنفي بالتعبّد للأصل الجاري فيه بلا معارض، فلم يبق مجال للرجوع إلى الاستصحاب أو قاعدة الاشتغال.

 وظهر ممّا ذكرناه ـ في حكم الاضطرار إلى المعيّن من الأطراف بأقسامه الثلاثة ـ حكم غير الاضطرار ممّا يرتفع معه الحكم، كفقدان بعض الأطراف أو خروجه عن محل الابتلاء أو الاكراه إلى البعض المعيّن من الأطراف ونحوها، فانّه يجري فيها جميع ما ذكرناه في الاضطرار من الأقسام والأحكام، فلاحاجة إلى الاعادة.

 وأمّا المقام الثاني: وهو ما كان الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه، فاختار

ــ[452]ــ

صاحب الكفاية (قدس سره) (1) فيه عدم التنجيز، بدعوى أنّ الترخيص في بعض الأطراف لأجل الاضطرار لا يجامع التكليف الفعلي على كل تقدير، فليس في غير ما يختاره المكلّف لرفع اضطراره إلاّ احتمال التكليف، وهو منفي بالأصل.

 واختار شيخنا الأنصاري (قدس سره) (2) التنجيز مطلقاً حتّى في صورة تقدّم الاضطرار على حدوث التكليف وعلى العلم به، وتبعه المحقق النائيني (قدس سره) (3) وهو الصحيح، لأنّ الاضطرار لم يتعلّق بخصوص الحرام كي ترتفع حرمته به، وإنّما تعلّق بالجامع بينه وبين الحلال على الفرض، فالجامع هو المضطر إليه وأحدهما مع الخصوصية هو الحرام، فما هو مضطر إليه ليس بحرام، وما هو حرام ليس بمضطر إليه، فلا وجه لرفع اليد عن حرمة الحرام المعلوم بالاجمال لأجل الاضطرار إلى الجامع، كما لو اضطرّ إلى شرب أحد الماءين مع العلم التفصيلي بنجاسة أحدهما المعيّن، فهل يتوهّم رفع الحرمة عن الحرام المعلوم تفصيلاً لأجل الاضطرار إلى الجامع.

 والمقام من هذا القبيل لعدم الفرق بين العلم التفصيلي والعلم الاجمالي من هذه الجهة، وهذا أعني تعلّق الاضطرار بالجامع هو الفارق بين هذا المقام والمقام السابق، فانّ الاضطرار هناك كان متعلقاً بأحدهما المعيّن، وهو رافع للحرمة على تقدير ثبوتها مع قطع النظر عن الاضطرار، بخلاف المقام فانّ الاضطرار فيه لم يتعلّق إلاّ بالجامع، والاضطرار إلى أحد الأمرين من الحرام أو الحلال لا يوجب رفع الحرمة عن الحرام كما تقدّم بيانه، غاية الأمر أنّ وجوب الموافقة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 360.

(2) فرائد الاُصول 2: 425.

(3) أجود التقريرات 3: 459، فوائد الاُصول 4: 98.

ــ[453]ــ

القطعية ممّا لا يمكن الالتزام به بعد الاضطرار إلى الجامع، لأنّ الموافقة القطعية إنّما تحصل بالاجتناب عنهما معاً وهو طرح لأدلة الاضطرار، ويكون نظير الاجتناب عمّا اضطرّ إليه معيّناً، وتبقى حرمة المخالفة القطعية بارتكابهما معاً على حالها، إذ لا موجب لرفع اليد عنها بعد التمكن منها كما هو المفروض.

 والذي تحصّل ممّا ذكرناه اُمور ينبغي الاشارة إليها لتوضيح المقام:

 الأوّل: أنّ الحرام المعلوم بالاجمال لم يطرأ ما يوجب ارتفاعه، لما عرفت من أنّ الاضطرار إنّما هو إلى الجامع لا إلى خصوص الحرام ليرتفع حكمه.

 الثاني: أ نّه لايمكن الترخيص في ارتكاب جميع الأطراف، لاستلزامه الترخيص في المعصية ومخالفة التكليف الواصل.

 الثالث: أ نّه لا بدّ من رفع اليد عن وجوب الموافقة القطعية، لتوقف رفع الاضطرار على ارتكاب بعض الأطراف، فلا مناص من الترخيص في الارتكاب بمقدار يرتفع به الاضطرار.

 الرابع: أ نّه إن انطبق ما اختاره المكلف لرفع اضطراره على الحلال الواقعي، فالحرمة الواقعية في الطرف الآخر باقية بحالها، ولا وجه لرفع اليد عنها، فانّ الحرام الواقعي لا يكون مضطراً إليه، ولا انطبق عليه ما اختاره المكلف لرفع اضطراره، وإن انطبق ما اخـتاره المكلف لرفع اضطراره على الحرام الواقعي، فالحرمة الواقعية وإن لم ترتفع، لأنّ اختيار المكلف له لرفع اضطراره لا يكشف عن تعلّق الاضطرار به، فلا موجب لرفع حرمته، إلاّ أنّ الجهل به مستلزم للترخيص الظاهري في ارتكابه المستلزم لعدم العقاب عليه.

 ونتيجة ما ذكرناه من الاُمور: أنّ التكليف في المقام في مرتبة متوسطة بين الشبهة البدوية التي لم يتنجز الواقع فيها أصلاً، وبين العلم الاجمالي الذي لم يتعلّق

ــ[454]ــ

الاضطرار بشيء من أطرافه وكان الواقع فيه منجّزاً على كل تقدير، فانّ التكليف في المـقام منجّز على تقدير عدم مصادفة ما يختاره المكلف لرفع اضطراره مع الحرام، وغير منجّز على تقدير مصادفة ما يختاره المكلف مع الحرام، فانّ الجهل به يسقط تنجّزه، فصحّ أن نقول: إنّ التكليف في المقام في رتبة التوسط من التنجّز، كما هو الحال في دوران الأمر بين الأقل والأكثر، فانّ التكليف بالنسبة إلى الأقل منجّز للعلم بوجوبه على كل تقدير، وبالنسبة إلى الأكثر غير منجّز للشك فيه، فيكون مجرىً للبراءة، فصحّ أن نقول: إنّ للتكليف ـ على تقدير تعلّقه بالأكثر ـ توسطاً في التنجز، بمعنى أ نّه لو أتى بالأقل فغير منجّز، أي ليس على ترك الأكثر حينئذ عقاب، لعدم العلم بوجوبه. وعلى تقدير ترك الأقل أيضاً فهو ـ أي التكليف المتعلق بالأكثر ـ منجّز ويعاقب على تركه، حيث لا ينفك عن ترك الأقل.

 وكذا الحال في دوران الأمر بين الوجوب النفسي والغيري بعد العلم بأصل الوجوب، كما إذا علمنا بوجوب غسل الجنابة مثلاً، وشككنا في أ نّه واجب نفسي أو واجب غيري ومقدّمة لواجب آخر كالصلاة مثلاً، فالتكليف بالصلاة على تقدير ثبوته واقعاً منجّز على تقدير ترك الوضوء، فانّ تركها لا ينفك عن تركه، فيعاقب على ترك الصلاة لا على ترك الوضوء، لكونه غيرياً في الواقع على الفرض، وغير منجّز على تقدير الاتيان بالوضوء للشك في وجوبها، فيكون مجرىً للبراءة، فالتكليف المتعلق بالصلاة واقعاً منجّز على تقدير ترك الوضوء، وغير منجّز على تقدير الاتيان به، وهذا هو التوسط في التنجّز.

 واتّضح بما ذكرناه الفرق بين الاضطرار إلى المعيّن وبين المقام، فانّ المضطر إليه المعيّن لو كان حراماً في الواقع ترتفع حرمته واقعاً، والاضطرار إليه يوجب الترخيص الواقعي في ارتكابه، بخلاف المـقام فانّ الاضطرار إنّما تعلّق بالجامع

ــ[455]ــ

وهو لا يوجب ارتفاع الحرمة عن الحرام الواقعي كما تقدّم. وظهر فساد ما في الكفاية من أنّ الترخيص في بعض الأطراف لا يجامع العلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير، فلا يبقى إلاّ احتمال التكليف في غير ما يختاره المكلف لرفع اضطراره وهو منفي بالأصل، وذلك لأنّ الترخيص في بعض الأطراف لو كان ترخيصاً واقعياً كما في الاضطرار إلى المعيّن، لكان الأمر كما ذكره (قدس سره) وليس المقام كذلك، إذ المفروض عدم تعلّق الاضطرار بالحرام الواقعي بل بالجامع، غاية الأمر أ نّه يحتمل انطباقه على ما يختاره المكلف لرفع اضطراره لجهله به، وهو لا يوجب إلاّ الترخيص الظاهري، فالحكم الواقعي ثابت على كل تقدير، ومعه لا يمكن الرجوع إلى البراءة في الطرف الآخر، فانّه يوجب المخالفة القطعية للتكليف الواصل.

 ثمّ إنّ المحقق النائيني(قدس سره) (1) التزم في المقام بأ نّه لو صادف ما يختاره المكلف لرفع اضطراره مع الحرام الواقعي ترتفع الحرمة واقعاً، بدعوى أنّ الاضطرار وإن كان متعلقاً بالجامع إلاّ أ نّه باختياره الحرام الواقعي لرفع اضطراره من باب الاتفاق يصير الحرام مصداقاً للمضطر إليه، فترتفع حرمته واقعاً، ومع ذلك التزم بعدم جريان البراءة في الطرف الآخر، بدعوى أنّ ارتفاع الحرمة إنّما يكون بعد اختياره الحرام لرفع اضطراره، وأمّا قبله فالحكم المعلوم بالاجمـال فعلي ومنجّز. وقد مرّ(2) عند البحث عن الاضطرار إلى المعيّن أنّ الرافع للتكليف إن كان متأخراً عن التكليف وعن العلم الاجمالي به إنّما يقتصر في رفع التكليف بمورد تحقق الرافع، وأمّا غيره من الأطراف فالحكم فيه باق على تنجّزه. وعليه يكون المقام نظير الاضطرار إلى المعيّن بعد العلم الاجمالي بالتكليف وسقوط

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 3: 462 ـ 465، فوائد الاُصول 4: 104 ـ 108.

(2) في ص 445.

ــ[456]ــ

الاُصول في الأطراف للمعارضة. ونتيجة ذلك سقوط التكليف واقعاً على تقدير مصادفة ما يختاره المكلف لرفع اضطراره مع الحرام الواقعي من باب الاتفاق، وعدم سقوطه على تقدير عدم المصادفة معه. وهذا هو التوسط في الفعلية لا التوسط في التنجّز على ما اخترناه.

 ويرد عليه أوّلاً: أنّ اختيار المكلف الحرام الواقعي لرفع اضطراره لايوجب ارتفاع حرمته واقعاً كما عرفت، ودعوى أ نّه بالاختيار يصير مصداقاً للمضطر إليه من باب الاتفاق غير مسموعة، لأنّ الاضطرار إلى الجامع لا ينقلب إلى الاضطرار إلى المعيّن بارادة المكلف واختياره، كما هو ظاهر.

 وثانياً: أ نّه على تقدير تسليم ارتفاع الحرمة واقعاً عمّا يختاره المكلف، كيف يعقل الحكم بحرمته إلى زمان اختيار المكلف له لرفع اضطراره، فانّ تحريم الشيء إنّما هو لأن يكون رادعاً للمكلف عن اختياره وساداً لطريقه، فكيف يعقل أن يكون مغيّىً به ومرتفعاً عند حصوله، فانّ جعل الحرمة لشيء المرتفعة باختيار المكلف فعله لغو محض، فلا مناص من الالتزام بكون ما يختاره المكلف لرفع اضطراره محكوماً بالحلية من أوّل الأمر، ومعه لا يبقى مجال لدعوى العلم الاجمالي بالتكليف على كل تقدير، فلا مانع من الرجوع إلى البراءة في الطرف الآخر، فيما كان الاضطرار إلى غير المعيّن سابقاً على العلم الاجمالي بالتكليف، كما هو الحال في الاضطرار إلى المعيّن. وبالجملة: أنّ الالتزام بسقوط التكليف واقعاً عمّا يختاره المكلف لرفع اضطراره لا يجتمع مع القول بالتنجّز في الطرف الآخر، فلا بدّ من الالتزام بعدم السقوط واقعاً كما اخترناه، أو بعدم التنجّز في الطرف الآخر كما اختاره صاحب الكفاية (قدس سره).

 هذا كلّه في الاضـطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف في الشبهة التحريمـية. ومنه يظهر الحال إلى الاضطرار في ترك بعض الأطراف في الشبهة الوجوبية،

ــ[457]ــ

ويجري حكم الاضطرار في غيره ممّا هو رافع للتكليف من الاكراه ونحوه. ولا نعيد الكلام.
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net