أقسام دوران الأمر بين التعيين والتخيير \ 1 ـ في مرحلة الجعل 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5138


  ثمّ إنّه (قدس سره) (2) قسّم دوران الأمر بين التخيير والتعيين إلى أقسام ثلاثة، واختار في جميعها الحكم بالتعيين. وحيث إنّ التعرّض لذكر الأقسام وما لها من الأحكام ممّا تترتّب عليه فوائد كثيرة في استنباط الأحكام الشرعية، فنحن نتبعه في ذكر الأقسام ونتكلّم في أحكامها حسب ما يساعده النظر فنقول:

  القسم الأوّل: ما إذا دار الأمر بين التخيير والتعيين في مرحلة الجعل في الأحكام الواقعية، كما إذا شككنا في أنّ صلاة الجمعة في عصر الغيبة هل هي واجب تعييني أو تخييري.

  القسم الثاني: ما إذا دار الأمر بين التخيير والتعيين في مرحلة الجعل في الأحكام الظاهرية ومقام الحجّية، كما إذا شككنا في أنّ تقليد الأعلم واجب

ـــــــــــــ
(2) أجود التقريرات 3: 379، فوائد الاُصول 3: 417.

ــ[520]ــ

تعييني على العامي العاجز عن الاحتياط، أو هو مخيّر بين تقليده وتقليد غير الأعلم.

  القسم الثالث: ما إذا دار الأمر بين التخيير والتعيين في مقام الامتثال لأجل التزاحم، بعد العلم بالتعيين في مقام الجعل، كما إذا كان هنا غريقان يحتمل كون أحدهما بعينه نبياً مثلاً، ولم نتمكن إلاّ من إنقاذ أحدهما، فيدور الأمر بين وجوب إنقاذه تعييناً أو تخييراً بينه وبين الآخر، هذه هي أقسام دوران الأمر بين التخيير والتعيين، وقبل الشروع في بيان حكم الأقسام من البراءة أو الاحتياط لا بدّ من بيان أمرين:

  الأوّل: أنّ محل الكلام إنّما هو فيما إذا لم يكن في البين أصل لفظي من الاطلاق ونحوه، ولا استصحاب موضوعي يرتفع به الشك، كما إذا علمنا بالتعيين ثمّ شككنا في انقلابه إلى التخيير أو بالعكس، فانّه مع وجود أحد الأمرين يرتفع الشك فلا تصل النوبة إلى البراءة أو الاحتياط.

  الثاني: أنّ محل الكلام إنّما هو فيما إذا كان الوجوب في الجملة متيقناً ودار أمره بين التخيير والتعيين، كما في الأمثلة التي ذكرناها. وأمّا إذا لم يكن الوجوب متيقناً في الجملة، كما إذا دار الأمر بين كون شيء واجباً تعيينياً أو واجباً تخييرياً أو مباحاً، فلا ينبغي الشك في جواز الرجوع إلى البراءة عن الوجوب.

  إذا عرفت هذين الأمرين فنقول:

  أمّا القسم الأوّل فله صور ثلاث:

  الصورة الاُولى: أن يعلم وجوب كل من الفعلين في الجملة، ويدور الأمر بين أن يكون الوجوب فيهما تعيينياً ليجب الاتيان بهما معاً في صورة التمكن، أو تخييرياً ليجب الاتيان بأحدهما.

 
 

ــ[521]ــ

  الصورة الثانية: أن يعلم وجوب فعل في الجملة، وعلم أيضاً سقوطه عند الاتيان بفعل آخر، ودار الأمر بين أن يكون الفعل الثاني عدلاً للواجب، ليكون الوجوب تخييرياً بينه وبين الواجب الأوّل، أو مسقطاً له لاشتراط التكليف بعدمه كالقراءة الواجبة في الصلاة المردّدة بين أن يكون وجوبها تعيينياً مشروطاً بعدم الائتمام، أو يكون تخييرياً بينهما على ما مثّلوا. وفي التمثيل بها للمقام إشكال سيجيء التعرّض له قريباً (1) إن شاء الله تعالى. وتظهر الثمرة بين الاحتمالين فيما إذا عجز المكلف عن القراءة، فانّه على تقدير كون الوجوب تخييرياً يتعيّن عليه الائتمام، كما هو الحال في كل واجب تخييري تعذّر عدله. وعلى تقدير كون وجوب القراءة تعيينياً مشروطاً بعدم الائتمام لا يجب عليه الائتمام.

  ثمّ إنّ هاتين الصورتين على طرفي النقيض، فانّ وجوب ما يحتمل كونه عدلاً للواجب الأوّل معلوم في الجملة في الصورة الاُولى، إنّما الشك في أنّ الاتيان به مسقط للامتثال بالواجب الأوّل أو لا. وأمّا في الصورة الثانية فالمسقطية متيقنة، إنّما الشك في كونه عدلاً للواجب الأوّل ليكون واجباً تخييرياً، أو أنّ عدمه شرط لوجوب الواجب(2).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 523 ـ 524.

(2) بل هاتان الصورتان على طرفي النقيض في مراحل ثلاث: الاُولى: في نفس التكليف المعلوم، فانّ وجوب ما يحتمل كونه عدلاً للواجب الأوّل معلوم في الجملة في الصورة الاُولى، إنّما الشك في أنّ الاتيان به مسقط للواجب أم لا. وأمّا الصورة الثانية فالمسقطية متيقّنة إنّما الشك في وجوبه كما ذكر (دام ظلّه). الثانية: في ظهور الثمرة، فانّ الثمرة في الصورة الاُولى تظهر فيما إذا تمكن المكلف منهما بخلاف الصورة الثانية فانّ =

ــ[522]ــ

  الصورة الثالثة: أن يعلم وجوب فعل في الجملة، واحتمل كون فعل آخر عدلاً له، مع عدم إحراز وجوبه ولا كونه مسقطاً، كما إذا علمنا بوجوب الصيام في يوم، واحتملنا أن يكون إطعام عشرة مساكين عدلاً له في تعلّق الوجوب التخييري بهما، هذه هي الصور الثلاث.

  أمّا الصورة الاُولى: فلا أثر للشـك فيها فيما إذا لم يتمكن المكلف إلاّ من أحد الفعلين، ضرورة وجوب الاتيان به حينئذ إمّا لكونه واجباً تعيينياً أو عدلاً لواجب تخييري متعذِّر. وبعبارة اُخرى: يعلم كونه واجباً تعيينياً فعلاً غاية الأمر لا يعلم أ نّه تعييني بالذات أو تعييني بالعرض لأجل تعذّر عدله، وإنّما تظهر الثمرة فيما إذا تمكن المكلف من الاتيان بهما معاً، فيدور الأمر بين وجوب الاتيان بهما وجواز الاقتصار على أحدهما. والتحقيق هو الحكم بالتخيير وجواز الاكتفاء بأحدهما، لأنّ تعلّق التكليف بالجامع بينهما متيقن، وتعلّقه بخصوص كل منهما مجهول مورد لجريان البراءة بلا مانع.

  وأمّا الصورة الثانية: فقد عرفت أ نّه لا ثمرة فيها في كون الوجوب تعيينياً أو تخييرياً، إلاّ فيما إذا تعذّر ما علم وجوبه في الجملة، فانّه على تقدير كون وجوبه تخييرياً، يجب عليه الاتيان بالطرف الآخر المعلوم كونه مسقطاً للواجب، وعلى تقدير كون وجوبه تعيينياً لا شيء عليه، فالشك في التعيين والتخيير في هذه الصورة يرجع إلى الشك في وجوب ما يحتمل كونه عدلاً للواجب عند تعذّره وهو مورد للبراءة، فتكون النتيجة في هذه الصورة هي نتيجة التعيين دون التخيير.

ــــــــــــــــــــــــــــ

= الثمرة فيها فيما إذا تعذّر ما علم وجوبه. الثالثة: في الحكم فانّ الحكم في الصورة الاُولى هو التخيير بخلاف الصورة فانّ الحكم فيها هو التعيين وتتّضح هذه المراحل بما في المتن.

ــ[523]ــ

  ثمّ إنّ المحقق النائيني (1) (قدس سره) استدلّ على كون الوجوب تعيينياً في خصوص مسألة القراءة والائتمام التي ذكروها مثالاً لهذه الصورة بما ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله) من «أنّ سين بلال عند الله شين» (2) بتقريب أنّ الائتمام لو كان عدلاً للقراءة لوجب عليه الائتمام على تقدير التمكن منه، وعدم جواز الاكتفاء بالسين بدلاً عن الشين.

  وفيه أوّلاً: أنّ الرواية ضعيفة بالارسال فلا يصحّ الاستدلال بها.

  وثانياً: أنّ ما يتحمّله الإمام عن المأموم هي القراءة، وليس فيها حرف الشين ليتعين الائتمام عند تعذّر التلفظ به على تقدير كون الوجوب تخييرياً، فأمر بلال دائر بين ترك الصلاة رأساً والاكتفاء بالسين بدلاً عن الشين في التشهد الذي لا فرق فيه بين الاتيان بالصلاة فرادىً أو جماعة، لعدم قدرته على التلفظ بالشين. والتكليف بغير المقدور قبيح يستحيل صدوره من الحكيم تعالى فقال النبي (صلّى الله عليه وآله) ـ على تقدير صحّة الرواية ـ إنّ تكليفه الاكتفاء بالسين لا ترك الصلاة رأساً.

  وهذا ممّا لا يرتبط بالمقام أصلاً، ولو كان الاستدلال المذكور مبنياً على أنّ قوله (صلّى الله عليه وآله): «إنّ سين بلال شين» يدل على أنّ التلفظ بالحروف غلطاً يكفي عن التلفظ بها صحيحاً عند التعذّر حتّى في القراءة، فلا يجب الائتمام فيستكشف منه عدم كونه عدلاً للقراءة، فيردّه: أنّ هذا خروج عن مفاد النص، فانّ مفاده الاكتفاء بالسين بدلاً عن الشين لا الاكتفاء بكل لفظ عن الآخر.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 3: 377.

(2) مستدرك الوسائل 4: 278 / أبواب قراءة القرآن ب 23 ح 3.

ــ[524]ــ

  وثالثاً: أنّ التمثيل بمسألة القراءة والائتمام للمقام غير صحيح، لأنّ المكلف مكلف بطبيعي الصلاة، وله أن يوجده في ضمن أيّ فرد من أفراده، فهو مخيّر بين الاتيان بالصلاة فرادى فتجب عليه القراءة، والاتيان بها جماعة فيتحملها الإمام عنه، فليس هناك ترديد ودوران بين التخيير والتعيين، بل التخيير بين هذين الفردين من الكلّي ثابت ومعـلوم، مع كون أحـدهما أفضل من الآخر كالتخيير في سائر الجهات والخصوصيات المتفاوتة في الفضيلة أو في بعض الأحكام، فانّ المكلف مخيّر بين الاتيان بالصلاة في البيت والاتيان بها في المسجد، مع التفاوت بينهما في الفضـيلة. وعليه فلو تعذّر الاتيان بفرد لا إشكال في وجوب الاتيان بفرد آخر، فانّه لا ريب في تعيّن الاتيان بالصلاة في البيت على تقدير تعذّر الاتيان بها في المسجد وبالعكس، ففي المقام لا ينبغي الاشكال في وجوب الاتيان بالصلاة جماعةً على تقدير تعذّر الاتيان بها فرادىً، لعدم القدرة على القراءة. هذا ما تقتضيه القاعدة، إلاّ أ نّه وردت نصوص كثيرة (1) تدل على جواز الاكتفاء بما يحسنه من القراءة عند تعذّر الجميع، وإلاّ فيكتفي بما تيسّر له من القرآن، ولولا هذه النصوص لكان مقتضى القاعدة هو وجوب الائتمام على من لم يتمكن من القراءة الصحيحة.

  وأمّا الصورة الثالثة: فذهب جماعة من المحققين إلى أنّ المرجع فيها أصالة الاشتغال والحكم بالتعيين، واستدلّ عليه بوجوه:

  الوجه الأوّل: ما ذكره صاحب الكفـاية (قدس سره) (2) من أنّ دوران

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 6: 42 / أبواب القراءة في الصلاة ب 3 ح 1، الوسائل 6: 136 / أبواب القراءة في الصلاة ب 59 ح 2، الوسائل 6: 221 / أبواب قراءة القرآن ب 30 ح 4.

(2) كفاية الاُصول: 367.

ــ[525]ــ

الأمر بين التعيين والتخيير إن كان من جهة احتمال أخذ شيء شرطاً للواجب، فيحكم فيه بالتخيير، لأنّ الشرطية أمر قابل للوضع والرفع، فيشملها حديث الرفع عند الشك فيها. وأمّا إن كان الدوران بينهما من جهة احتمال دخل خصوصية ذاتية في الواجـب ـ كما في المقام ـ لا يمكن الرجوع فيه إلى أدلة البراءة، لأنّ الخصوصية إنّما تكون منتزعة من نفس الخاص، فلا تكون قابلة للوضع والرفع فلايمكن الرجوع عند الشك فيها إلى أدلة البراءة، فلا مناص من الحكم بالاشتغال والالتزام بالتعيين في مقام الامتثال.

  وفيه: أنّ الخصوصية وإن كانت منتزعة من نفس الخاص وغير قابلة للوضع والرفع، إلاّ أنّ اعتبارها في المأمور به قابل لهما، فإذا شكّ في ذلك كان المرجع هو البراءة.

  الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني (1) (قدس سره) وهو أنّ الشك في المقام شك في حصول الامتثال بعد العلم بثبوت التكليف، فيكون المرجع قاعدة الاشـتغال والحكم بالتعيين، فإذا دار الأمر في كفّارة تعمّد الافـطار مثلاً بين خصوص صيام شهرين وبين الأعم منه ومن إطعام ستّين مسكيناً، كان الصيام مفرّغاً للذمّة يقيـناً، وأمّا الاطعام فسقوط التكليف المعلوم به مشكوك فيه، فلا يجوز الاكتفاء به في مقام الامتثال بحكم العقل.

  والذي ينبغي أن يقال: إنّ التخيير المحتمل في المقام إمّا أن يكون تخييراً عقلياً، كما إذا دار الأمر بين تعلّق التكليف بحصّة خاصّة أو بالجامع العرفي بينها وبين غيرها من سائر حصص الجامع. وإمّا أن يكون تخييراً شرعياً، كما إذا كان ما يحتمل وجوبه مبايناً في الماهية لما علم وجوبه في الجملة ولم يكن بينهما

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 3: 374، فوائد الاُصول 3: 428.

ــ[526]ــ

جامع عرفي، نظير ما تقدّم من المثال في كفّارة تعمّد الافطار. وقد ذكر في محلّه (1) أنّ الوجوب التخييري في هذا القسم يتعلّق بالجامع الانتزاعي المعبّر عنه بأحد الشيئين أو أحد الأشياء.

  أمّا في موارد احتمال التخيير العقلي، فتعلّق التكليف بالجامع معلوم، وإنّما الشك في كونه مأخوذاً في متعلق التكليف على نحو الاطلاق واللا بشرط، أو على نحو التقييد وبشرط شيء، إذ لا يتصور الاهمال بحسب مقام الثبوت، والاطلاق والتقييد وإن كانا متقابلين ولم يكن شيء منهما متيقناً، إلاّ أ نّك قد عرفت سابقاً (2) أنّ انحلال العلم الاجمالي غير متوقف على تيقن بعض الأطراف، بل يكفي فيه جريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض. وقد سبق أنّ جريان أصالة البراءة العقلية والنقلية في جانب التقييد غير معارض بجريانها في طرف الاطلاق، فإذا ثبت عدم التقييد ظاهراً لأدلة البراءة لا يبقى مجال لدعوى رجوع الشك إلى الشك في الامتثال، ليكون المرجع قاعدة الاشتغال، فانّ الشك في الامتثال منشؤه الشك في إطلاق الواجب وتقيده، فإذا ارتفع احتمال التقيد بالأصل يرتفع الشك في الامتثال أيضاً.

  ومن ذلك يظهر الحال في موارد احتمال التخيير الشرعي، وأنّ الحكم فيه أيضاً هو التخيير، لأنّ تعلّق التكليف بعنوان أحد الشيئين في الجملة معلوم، وإنّما الشك في الاطلاق والتقييد فتجري أصالة البراءة عن التقييد، وبضم الأصل إلى الوجدان يحكم بالتخيير.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 3: 222 وما بعدها.

(2) في ص 502 ـ 503.

ــ[527]ــ

  الوجه الثالث: ما ذكره المحـقق النائيـني(1) (قدس سره) أيضاً: وهو أنّ الوجوب التخييري يحتاج إلى مؤونة زائدة في مقامي الثبوت والاثبات. أمّا في مقام الثبـوت فلاحتياجه إلى ملاحظة العدل، وتعليق التكليف بالجامع بينه وبين الطرف الآخر. وأمّا في مقام الاثبات فلاحتياجه إلى ذكر العدل وبيانه، فما لم تقم الحجّة على المؤونة الزائدة يحكم بعدمها، فيثبت الوجوب التعييني.

  وفيه أوّلاً: أ نّا لا نسلّم أنّ الوجوب التخييري بحسب مقام الثبوت يحتاج إلى مؤونة زائدة بنحو الاطلاق، أي سواء كان التخيير المحتمل تخييراً عقلياً أو تخييراً شرعياً، فانّ التخيير العقلي يحتاج إلى لحاظ الجامع فقط، كما أنّ الوجوب التعييني يحتاج إلى لحاظ الواجب الخاص فقط، فليس هناك مؤونة زائدة في الوجوب التخييري. نعم، فيما كان التخيير المحتمل تخييراً شرعياً يحتاج إلى مؤونة زائدة، لأنّ الجامع في التخيير الشرعي هو عنوان أحد الشيئين كما تقدّم، ومن الواضح أنّ لحاظ أحد الشيئين يحتاج إلى لحاظ نفس الشيئين فيكون الوجوب التخييري محتاجاً إلى مؤونة زائدة بالنسبة إلى الوجوب التعييني.

  وثانياً: أنّ مرجع ما ذكره إلى استصحاب عدم لحاظ العدل، وإثبات الوجوب التعييني به متوقف على القول بالأصل المثبت ولا نقول به. مضافاً إلى كونه معارضاً باستصحاب عدم لحاظ الطرف الآخر بالخصوص على ما سيجيء التعرّض له في الجواب عن الوجه الرابع إن شاء الله تعالى. هذا كلّه فيما ذكره بحسب مقام الثبوت.

  وأمّا ما ذكره من أنّ الوجوب التخييري يحتاج إلى مؤونة زائدة في مقام

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 3: 372 و 373، فوائد الاُصول 3: 427 و 428.

ــ[528]ــ

الاثبات، فهو إنّما يتم فيما إذا دلّ دليل لفظي على وجوب شيء من دون ذكر عدل له، فيتمسك باطلاقه لاثبات كون الوجوب تعيينياً. وأمّا فيما إذا لم يكن هناك دليل لفظي كما هو المفروض في المقام، إذ محلّ كلامنا عدم وجود دليل لفظي والبحث عن مقتضى الاُصول العملية وقد أشرنا إلى ذلك في أوّل بحث دوران الأمر بين التعيين والتخيير(1)، فلا يترتب عليه الحكم بالوجوب التعييني في المقام بل لا ارتباط له بمحل البحث أصلاً.

  الوجه الرابع: ما ذكره بعضهم من التمسّك بأصالة عدم وجوب ما يحتمل كونه عدلاً لما علم وجوبه في الجملة، وبضم هذا الأصل إلى العلم المذكور يثبت الوجوب التعييني.

  وفيه: أ نّه إن اُريد بالأصل المذكور أصالة البراءة العقلية بمعنى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، فمن الظاهر أ نّه غير جار في المقام، إذ لا يحتمل العقاب على ترك خصوص ما احتمل كونه عدلاً للواجب في الجملة. وأمّا الجامع بينهما فاستحقاق العقاب على تركه معلوم، فلا معنى للرجوع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

  وإن اُريد به البراءة الشرعية، فهو أيضاً غير تام، لأنّ تعلّق التكليف بالجامع معلوم على الفرض، وتعلّقه بخصـوص ما يحتمل كونه عدلاً غير محـتمل، فلا معنى لجريان البراءة فيهما. وأمّا جريان البراءة في جعل العدل لما علم وجوبه في الجملة، فهو راجع إلى جريان البراءة عن الاطلاق، ومن الواضح عدم جريانها،

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 520.

ــ[529]ــ

لما تقدّم (1) من أنّ الاطلاق توسعة لا منّة في رفعه فلا يكون مشمولاً لأدلة البراءة الشرعية.

  وإن اُريد به استصحاب عدم جعل العدل للواجب المعلوم في الجملة، ففيه أوّلاً: انّه معارض باستصحاب عدم جعل الوجوب التعييني لما يحتمل وجوبه تعييناً. وثانياً: أ نّه لا يثبت الوجوب التعييني بالاسـتصحاب المذكور إلاّ على القول بالأصل المثبت ولا نقول به.

  فتحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام: أ نّه لا وجه للقول بالتعيين في هذا القسم من دوران الأمر بين التعيين والتخيير، وأنّ المرجع هو البراءة عن وجوب الاتيان بخصوص ما يحتمل كونه واجباً تعييناً، فتكون النتيجة هي الحكم بالتخيير.

  ثمّ إنّ الحكم بالتخيير إنّما يتم فيما إذا كان المكلف متمكناً من الاتيان بما يحتمل كونه واجباً تعيينياً، ليدور أمر الوجوب الفعلي الثابت في الجملة بين التعيين والتخيير. وأمّا إذا لم يتمكن من ذلك فالشك في كون الوجوب المجعول تعيينياً أو تخييرياً يرجع إلى الشك في تعلّق الوجوب الفعلي بما يحتمل كونه عدلاً، ولا يحكم حينئذ بالتخيير ليترتب عليه الوجوب المذكور، بل يرجع إلى أصالة البراءة عنه، لأ نّه مجهول وكان العقاب على مخالفته عقاباً بلا بيان، هذا كلّه في القسم الأوّل من دوران الأمر بين التخيير والتعيين.
ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 508.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net