تنبيهات الأقل والأكثر \ الأوّل : إذا ثبتت جزئية شيء لواجب فهل هي مطلقة ؟ 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4092


تنبيهات:

التنبيه الأوّل

 أ نّه إذا ثبت كون شيء جزءاً للمأمور به أو شرطاً له في الجملة ودار الأمر بين كون الجزئية أو الشرطية مطلقة ليبطل العمل بفقدانه ولو في حال النسيان، أو مختصّة بحال الذكر ليختصّ البطلان بتركه عمداً، فهل القاعدة تقتضي الاطلاق ما لم يثبت التقييد بالدليل، أو تقتضي الاختصاص بحال الذكر ما لم يثبت الاطلاق بدليل خاص ؟ وجهان.

 وتحقيق ذلك يقتضي البحث عن إمكان تكليف الناسي بغير ما نسيه من الأجزاء والشرائط واستحالته، فإذا ثبتت صحّة العمل الفاقد لبعض الأجزاء والشرائط نسياناً، كما في الصلاة إن كان المنسي من غير الأركان، فهل يكون الحكم بالصحّة لأجل انطباق المأمور به على هذا العمل لاختصاص الجزئية أو الشرطية بحال الذكر، أو لوفاء المأتي به بالملاك الملزم وسقوط الأمر باستيفاء ملاكه. وهذا البحث وإن لم تترتب عليه ثمرة في الفرض المذكور، أي فيما ثبتت صحّة العمل الفاقد بالدليل، إلاّ أ نّه يترتب الأثر فيما لم تثبت صحّة العمل بالدليل

ــ[533]ــ

باعتبار جريان الأصل العملي كما ستعرفه (1) إن شاء الله تعالى.

 فذهب جماعة إلى استحالة توجيه التكليف إلى الناسي، وأنّ الصحّة في الفرض المذكور إنّما هي للوفاء بالملاك لا لانطباق المأتي به على المأمور به، نظراً إلى أنّ الناسي إن التفت إلى كونه ناسياً انقلب إلى الذاكر، فلا يكون الحكم الثابت لعنوان الناسي فعلياً في حقّه، وإن لم يلتفت إلى نسيانه، فلا يعقل انبعاثه عنه، وما لم يمكن الانبعاث لم يمكن البعث بالضرورة، فعلى تقديري الالتفات وعدمه يستحيل فعلية التكليف في حقّه، ومع استحالة الفعلية يمتنع الجعل بالضرورة.

 واختار صاحب الكفاية (2) (قدس سره) إمكان ذلك بوجهين:

 الوجه الأوّل: أن يوجّه الخطاب إلى الناسي لا بعنوانه، بل بعنوان آخر ملازم له واقعاً، وإن لم يكن الناسي ملتفتاً إلى الملازمة ليعود المحذور.

 وفيه: أنّ هذا مجـرد فرض وهمي لا واقـع له، ولا سيّما أنّ النسيان ليس له ميزان مضبوط ليفرض له عنوان ملازم، فانّه يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان، واختلاف متعلقه من الأجزاء والشرائط، فكيف يمكن فرض عنوان يكون ملازماً للنسيان أينما تحقق ولا سيّما إذا اعتبر فيه عدم كون الناسي ملتفتاً إلى الملازمة بينهما.

 الوجه الثاني: أنّ يوجّه التكليف إلى عامّة المكلفين بما يتقوّم به العمل ثمّ يكلف خصوص الذاكر ببقية الأجزاء والشرائط، فتختص جزئيتها وشرطيتها بحال الذكر.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 539.

(2) كفاية الاُصول: 368.

ــ[534]ــ

 وهذا الوجه ممّا لا بأس به في مقام الثبوت، إلاّ أ نّه يحتاج في مقام الاثبات إلى الدليل، وقد ثبت ذلك في الصلاة، فانّ الأمر بالأركان فيها مطلق بالنسبة إلى عامّة المكلفين، وأمّا بقية الأجزاء والشرائط فالأمر بها مختص بحال الذكر بمقتضى حديث «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة» (1) وغيره من النصوص الواردة في موارد خاصّة. وعليه فالناسي وإن كان غير ملتفت إلى نسيانه إلاّ أ نّه ملتفت إلى أنّ ما يأتي به هو المأمور به، فيأتي به بما أ نّه المأمور به غاية الأمر أ نّه يتخيّل أنّ ما يأتي به مماثل لما يأتي به غيره من الذاكرين، وأنّ الأمر المتوجه إليه هو الأمر المتوجه إليهم. وهذا التخيّل ممّا لا يضر بصحّة العمل بعد وجود الأمر الفعلي في حقّه ومطابقة المأتي به للمأمور به، وإن لم يكن الناسي ملتفتاً إلى كيفية الأمر. ولعل هذا هو مراد الشيخ (2) (قدس سره) فيما أفاده في المقام من إمكان توجيه الخطاب إلى الناسي والحكم بصحّة عمله، وإن كان مخطئاً في التطبيق، فلا يرد عليه ما ذكره المحقق النائيني (3) (قدس سره) من أنّ الخطأ في التطبيق إنّما يعقل فيما إذا أمكن جعل كل من الحكمين في نفسه، وكان الواقع أحدهما وتخيّل المكلف أ نّه الآخر، كما إذا أتى المكلف بعمل باعتقاد أ نّه واجب فبان كونه مستحباً أو بالعكس. وهذا بخلاف المقام لأنّ تكليف الناسي مستحيل في مقام الثبوت، فكيف يمكن إدراجه في كبرى الخطأ في التطبيق. فتحصّل: أنّ الصحيح إمكان توجيه التكليف إلى الناسي في مقام الثبوت وإثباته يحتاج إلى دليل.

 إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى أصل البحث ونقول: إنّ الكلام تارةً يكون فيما

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1: 371 و 372 / أبواب الوضوء ب 3 ح 8.

(2) حكاه المحقق النائيني عنه (قدس سرهما).

(3) أجود التقريرات 3: 518، فوائد الاُصول 4: 211 و 212.

ــ[535]ــ

تقتضيه الاُصول اللفظية. واُخرى فيما تقتضيه الاُصول العملية، فيقع الكلام في مقامين:

 أمّا المقام الأوّل فملخص الكلام فيه: أنّ دليل الجزئية أو الشرطية إمّا أن يكون له إطلاق يشمل حال النسيان أيضاً، كقوله (عليه السلام): «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» (1) وقوله (عليه السلام): «لا صلاة لمن لم يقم صلبه» (2) أو لايكون له إطلاق، كما في الاستقرار المعتبر في الصلاة، فانّ عمدة دليله الاجماع، وهو دليل لبّي لا إطلاق له، والقدر المتيقن منه حال الذكر والالتفات. وعلى كل من التقديرين إمّا أن يكون لدليل أصل الواجب كالصلاة إطلاق يشمل جميع الحالات، أو لا يكون له إطلاق، هذه هي صور أربع:

 الصورة الاُولى: ما إذا كان لكل من دليل الجزئية أو الشرطية ودليل أصل الواجب إطلاق، وحكمها أنّه يتقدّم إطلاق دليل الجزئية على إطلاق دليل الواجب، ويحكم بالجزئية أو الشرطية المطلقة الشاملة لجميع الحالات، وذلك لأنّ إطلاق دليل المقيد يتقدّم على إطلاق دليل المطلق على ما ذكر في محلّه (3). وفيها لا مجال للرجوع إلى البراءة ورفع الجزئية أو الشرطية في حال النسيان، إذ الاطلاق دليل لا يمكن معه الرجوع إلى الأصل كما هو ظاهر. ويعلم منه حكم:

 الصورة الثانية: وهي ما إذا كان لدليل الجزئية أو الشرطية إطلاق فقط، من دون أن يكون لدليل الواجب إطلاق، فانّه يؤخذ باطلاق دليل الجزئية أو الشرطية ويحكم بالجزئية المطلقة أو الشرطية المطلقة الشاملة لجميع الحالات

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المستدرك 4: 158 / أبواب القراءة في الصلاة ب 1 ح 5 و 8.

(2) الوسائل 4: 312 و 313 / أبواب القبلة ب 9 ح 3 (باختلاف يسير).

(3) محاضرات في اُصول الفقه 4: 542 وما بعدها.

ــ[536]ــ

بلا شبهة وإشكال.

 وتوهّم أ نّه لا يعقل الاطلاق في دليل الجزئية أو الشرطية لأ نّهما تنتزعان من الأمر بالمركب والأمر بالمقيد، ومن الظاهر أنّ الأمر بما هو مركب من المنسي أو مقيّد به مستحيل، لأ نّه تكليف بغير المقدور، فلا يعقل الجزئية أو الشرطية المطلقة مدفوع بأ نّه ليس المراد باطلاق دليل الجزئية أو الشرطية ثبوت الجزئية والشرطية حال النسيان ليقال إنّه مستحيل، بل المراد ثبوتهما في جميع حالات الأمر بالمركب والمقيّد، ولازم الاطلاق المذكور سقوط الأمر بالمركب أو المقيد عند نسيان الجزء أو الشرط لا ثبوته متعلقاً بما يشتمل على المنسي من الجزء أو الشرط، فيكون العمل الفاقد لبعض الأجـزاء أو الشرائط حال النسيان باطلاً من هذه الجهة.

 إن قلت: إنّ حديث الرفع رافع لجزئية المنسي أو شرطيته، لما عرفت سابقاً (1) من أنّ الرفع بالاضافة إلى غير ما لا يعلمون واقعي، فيكون الحديث حاكماً على إطلاقات الأدلة المثبتة للأحكام في ظرف الخطأ والنسيان وغيرهما ممّا هو في الحديث الشريف، وبذلك تثبت صحّة العمل المأتي به حال النسيان، وكونه مطابقاً لما اُمر به فعلاً. نعم، الرفع بالنسبة إلى ما لايعلمون ظاهري بشهادة نفس ما لا يعلمون، فانّه يدل على أنّ هناك شيئاً لا يعلمه المكلف، فرفع عنه ظاهراً لجهله به.

 قلت: رفع الخطأ والنسيان لا يترتب عليه فيما نحن فيه إلاّ نفي الالزام عن المركب من المنسي أو المقيد به، ضرورة أنّ نفي الجزئية أو الشرطية لا يكون إلاّ برفع منشأ انتزاعهما من الأمر بالمركب أو المقيّد، ولا يترتب عليه ثبوت الأمر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 307.

ــ[537]ــ

بغير المنسي كما هو المدعى. مضافاً إلى ما ذكرناه عند البحث عن حديث الرفع من أنّ نسيان جزء أو شرط في فرد من أفراد الواجب لا يكون مشمولاً لحديث الرفع أصلاً فراجع(1). وممّا ذكرناه ظهر الحال فيما إذا اُكره أو اضطر إلى ترك جزء أو شرط، فانّه يوجب سقوط الأمر بالمركب أو المقيد في ظرف الاكراه أو الاضطرار، لا الأمر ببقية الأجزاء والشرائط ممّا لا يكون مكرهاً أو مضطراً إلى تركه. هذا فيما إذا لم يدل دليل بالخصوص، وإلاّ فلا إشكال في عدم سقوط الأمر ووجوب الاتيان بما يتمكن منه، كما في باب الصلاة على ما يأتي الكلام فيه مفصلاً (2) إن شاء الله تعالى.

 وأمّا الصورة الثالثة: وهي ما إذا لم يكن لدليل الجزئية أو الشرطية إطلاق وكان لدليل الواجب إطلاق، فيؤخذ به ويحكم بصحّة العمل الفاقد للجزء أو الشرط المنسي، والوجه فيه ظاهر.

 وأمّا الصورة الرابعة: وهي ما إذا لم يكن لدليل الجزئية أو الشرطية إطلاق، ولا لدليل الواجب إطلاق، فتصل النوبة فيها إلى البحث عن الاُصول العملية. ويقع الكلام فيها في المقام الثاني.

 ثمّ إنّه قد يقال بأن كل ما ثبتت جزئيته أو شرطيته بورود الأمر به بنفسه، فلا إطلاق له ليشمل حال النسـيان، لاشتراط التكليف بالقدرة والمنسي غير مقدور، فلو كان لدليل الواجب إطلاق حينئذ يرجع إليه لاثبات التكليف بغير المنسي من الأجزاء والشرائط.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ص 308 ـ 309.

(2) في ص 561.

ــ[538]ــ

 وفيه: ما ذكرناه في محلّه (1) من أنّ الأوامر المتعلقة بالأجـزاء والشرائط ليست أوامر مولوية، بل هي إرشاد إلى الجزئية أو الشرطية حسب اختلاف المقامات، كما أنّ النهي عن الاتيان بشيء في الواجب إرشاد إلى المانعية لا زجر مولوي عنه، وعليه فلا مانع من التمسك باطلاق الأمر المتعلق بالجزء أو الشرط لاثبات الجزئية أو الشرطية المطلقة، فتكون النتيجة سقوط الأمر بالمركب أو المقيد عند نسيان الجزء أو الشرط على ما تقدّم بيانه.

 المقام الثاني: فيما إذا لم يكن لدليل الجزئية أو الشرطية إطلاق ولا لدليل الواجب إطلاق، فلا بدّ فيه من البحث عن مقتضى الاُصول العملية، وتحقيق الكلام في هذا المقام يقتضي البحث في موردين: المورد الأوّل: ما إذا لم يتمكن المكلف من الاتيان بالعمل مستجمعاً لجميع الأجزاء والشرائط بعد نسيان جزء أو شرط منه. المورد الثاني: ما إذا تمكن من ذلك.

 أمّا المورد الأوّل: فالشك في الجزئية أو الشرطية المطلقة فيه ملازم للشك في وجوب غير المنسي من الأجـزاء والشرائط، فانّه إذا أمر المولى عبده بالوقوف في يوم معيّن من طلوع الشمس إلى الزوال مثلاً، ونسي المكلف فلم يقف ساعة من أوّل النهار، وشكّ في أنّ جزئية الوقوف في هذه الساعة مطلقة ليترتب عليها سقوط الأمر بالوقوف في الساعات المتأخرة أو أ نّها مقيّدة بحال الذكر ليكون الأمر متعلقاً بالوقوف في الساعات المتأخرة، فلا محالة يكون الشك في الاطلاق والتقييد شكاً في التكليف بغير المنسي من الأجزاء والشرائط فيكون المرجع هو البراءة، ويحكم بعدم وجوب الاتيان بغير المنسي من الأجزاء والشرائط. وهذا واضح.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 3: 350 ـ 351.

ــ[539]ــ

 وأمّا المورد الثاني: فيكون الشك في إطلاق الجزئية أو الشرطية أو تقييدهما بحال الذكر شكاً في جواز الاكتفاء بما أتى به من الأجزاء والشرائط وعدمه، فانّه إذا نسي المكلف جزءاً من الصـلاة وتذكر بعد تجاوز محلّـه، فان كانت الجزئية مطلقة لزمه إعادتها والاتيان بها مستجمعةً لجميع الأجزاء والشرائط. وإن كانت الجزئية مقيّدة بحال الذكر اكتفى بما أتى به، ولا تجب عليه الاعادة، لأنّ العمل المأتي به حينئذ لم يكن فاقداً لشيء من الأجزاء والشرائط، فينطبق المأمور به على المأتي به. وعليه فيكون المرجع أيضاً هو البراءة عن وجوب الجزء أو الشرط حال النسـيان، بعد ما عرفت (1) من إمكان تكليف الناسي بغير ما نسيه من الأجزاء والشرائط.

 وبعبارة اُخرى: بعد العلم بوجوب الصلاة وبجزئية التشهد مثلاً المرددة بين الاطلاق والتقييد بحال الذكر، تردد الواجب بين خصوص المشتمل على التشهّد أو الجامع بينه وبين الفاقد له حال النسيان، فيكون القدر الجامع معلوماً إنّما الشك في خصوص المشتمل على التشهد على الاطلاق، فيؤخذ بالقدر المتيقن، وهو وجوب التشهّد حال الذكر، ويرجع إلى البراءة في المشكوك فيه وهو التشهّد حال النسيان. هذا بناءً على ما هو الصحيح من إمكان تكليف الناسي على ما تقدّم بيانه. وأمّا بناءً على استحالته، فما صدر من الناسي غير مأمور به يقيناً، فالشك في صحّته وفساده يكون ناشئاً من الشك في وفائه بغرض المولى وعدمه، فلا مناص من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال، والحكم بوجوب الاتيان بالعمل مستجمعاً لجميع الأجزاء والشرائط، لأنّ سقوط الأمر بالاتيان بغير المأمور به يحتاج إلى دليل مفقود في المقام على الفرض. وهذه هي الثمرة التي أشرنا إليها (2)

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 533 ـ 534.

(2) في ص 532 ـ 533.

ــ[540]ــ

عند التكلم في إمكان تكليف الناسي.

 وممّا ذكرناه ظهر الحال من حيث جريان البراءة وعدمه فيما إذا استند ترك الجزء أو الشرط إلى الاضطرار أو الاكراه ونحوهما، فلا حاجة إلى الاعادة.
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net