بقي الكلام في جهات من البحث \ الاُولى - الثانية 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4274


ــ[573]ــ

 بقي الكلام في جهات لا بدّ لنا من التعرّض لها:

 الجهة الاُولى: في مقدار الفحص، فهل يجب الفحص بمقدار يحصل العلم بعدم الدليل، أو يكفي الاطمئنان، أو يكفي مجرد الظن بالعدم ؟ وجوه خيرها أوسطها.

 أمّا عدم وجوب تحصيل العلم فلعدم الدليل عليه. مضافاً إلى كونه مستلزماً للعسر والحرج، بل موجب لسدّ باب الاستنباط، لعدم حصول القطع بعدم الدليل عادةً وإن أصرّ في الفحص. وأمّا عدم اعتبار الظن فلعدم الدليل على اعتباره، فهو لا يغني عن الحق شيئاً.

 فتعيّن الوسط وهو كفاية الاطمئنان لكونه حجّة ببناء العقلاء، ولم يردع عنه الشارع. وأمّا تحقق الصغرى لهذه الكبرى، أي حصول الاطمئنان بعدم الدليل، فهو سهل لمن تصدّى لاستنباط الأحكام الشرعية فعلاً، فانّ المتقدمين من العلماء أتعبوا أنفسهم الشريفة ورتّبوا الأخبار وبوّبوها، فبالرجوع إلى أخبار باب وبعض الأبواب الاُخرى المناسبة لهذا الباب يحصل الاطمئنان. ولولا هذا الترتيب والتبويب لكان اللاّزم هو الفحص في كتب الأخبار من أوّلها إلى آخرها لتحصيل الاطمئنان في مسألة واحدة.

 الجهة الثانية: بعد ما عرفت وجوب تعلّم الأحكام الشرعية والفحص عنها، وقع الاشكال في أنّ وجوبه طريقي لا يترتب العقاب عند تركه إلاّ على مخالفة الواقع كما هو المشهور، أو نفسي يعاقب العبد على تركه ولو لم يخالف الواقع، كما عن المحقق الأردبيلي(1)(قدس سره) وصاحب المدارك(2) ومال إليه صاحب الكفاية (3) (قدس سره) في آخر كلامه. وقبل الشروع في تحقيق المقام وبيان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1)، (2) مجمع الفائدة والبرهان 2: 110 ومدارك الأحكام 3: 219، ولمزيد الاطّلاع راجع فرائد الاُصول 2: 513.

(3) كفاية الاُصول: 377.

ــ[574]ــ

المختار فيه لا بدّ من التنبيه على اُمور:

 الأوّل: أنّ محل الكلام هو العلم بالأحكام الفرعية، وأمّا العلم بالاُصـول الاعتقادية كالعلم بالتوحيد والنبوّة وسائر ما يجب تحصيله والاعتقاد به، فهو خارج عن محل الكلام. ولا إشكال في وجوب تحصيله والتعلّم نفسياً لا طريقياً، عينياً لا كفائياً.

 الثاني: أنّ وجوب تعلّم الأحكام الشرعية مقدّمة للعمل مختص بالواجبات والمحرّمات، وما يرجع إليهما من الأحكام الوضعية كالنجاسة والطهارة والزوجية والملكية ونحوها، إذ لايجب تعلّم المستحبات والمكروهات، لا نفسياً ولا طريقياً.

 الثالث: أنّ محل الكلام إنّما هو وجوب التعلّم والفحص عن الحكم الخاص المتعلق بهذا المكلف نفسه بالوجوب العيني. والمراد من التعلّم هو الأعم من المعرفة بالاجتهاد أو بالرجوع إلى الرسالة إن كان مقلّداً. وأمّا تعلّم كل الأحكام الشرعية بالاجتهاد حتّى الأحـكام المتعلقة بغيره كمسائل الحيض والنفاس وغيرهما، فلا إشكال في وجوبه كفائياً، فهذا أيضاً خارج عن محل الكلام، فلا وجه للاستدلال على وجوب الفحص في المقام بآية النفر (1) كما ارتكبه شيخنا الأنصاري(2) (قدس سره) فانّها دليل على وجوب تعلّم الأحكام الشرعية كفائياً ولا كلام لنا فيه، إنّما الكلام في وجوب التعلّم والفحص بالوجوب العيني عمّا يجب على نفس هذا المكلف.

 إذا عرفت هذه الاُمور فنقول: إنّ الصحيح هو الوجوب الطريقي، وتظهر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) التوبة 9: 122.

(2) فرائد الاُصول 2: 510.

ــ[575]ــ

صحّته بذكر دليل القول بالوجوب النفسي وجوابه، وهو أنّ الأوامر المتعلقة بالتعلّم والسؤال ظاهرة في الوجوب النفسي.

 والجواب: أنّ كون الأمر ظاهراً في الوجوب النفسي العيني التعييني وإن كان مسلّماً كما تقدّم في مبحث الأوامر (1)، إلاّ أنّ في المقام خصوصية داخلية وقرينة خارجية توجب ظهور الأوامر المتعلقة بالتعلّم في الوجوب الطريقي مقدّمةً للعمل.

 أمّا الخصوصية الداخلية: فهي أنّ نفس السؤال عن شيء وتعلّمه طريق إلى العمل بهذا الشيء، فالأمر بالسؤال بنفسه ظاهر في الوجوب الطريقي بحسب الارتكاز العرفي، فانّ السؤال عن الطريق إلى كربلاء مثلاً إنّما هو للمشي من هذا الطريق، فالأمر بالسؤال عن طريق كربلاء ظاهر في الوجوب الطريقي، لا الوجوب النفسي، بأن يكون مجرد السؤال عن الطريق مطلوباً نفسياً، فكذا الحال في قوله تعالى: (فَاسْأَ لُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)(2) فانّ الأمر بالسؤال فيه ظاهر في الوجوب الطريقي وأنّ السؤال من أهل الذكر إنّما هو للعمل، لا لكونه مطلوباً بنفسه. ولعل ظهور الأمر بالسؤال في الوجوب الطريقي ظاهر غير قابل للانكار.

 وأمّا القرينة الخارجية: فروايتان إحداهما: ما ورد في تفسير قوله تعالى: (فَلِللّهِ الْحُجَّةُ ا لْبَالِغَةُ) وقد تقدّم ذكره (3)، فانّ قوله «فهلاّ تعلّمت حتّى تعمل»

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 2: 3 ـ 11.

(2) النحل 16: 43.

(3) في ص 571.

ــ[576]ــ

صريح في أنّ وجوب التعلّم إنّما هو للعمل. الثانية: ما ورد في مجدور صار جنباً فغسلوه فمات، فقال (عليه السلام): «قتلوه قتلهم الله ألا سألوا ألا يمموه»(1) فانّ عتاب الإمام (عليه السلام) ودعاءه عليهم لم يكن لمجرد ترك السؤال، بل لترك التيمم أيضاً، إذ من الواضح أنّ مجرد السؤال والتعلّم لم يكن موجباً لنجاته من القتل الذي نسبه الإمام (عليه السلام) إليهم وعيّرهم به، وإنّما الموجب لنجاته العمل بالتيمم، فكان الأمر بالسؤال والتعلّم إنّما هو للعمل لا محالة.

 هذا، مضافاً إلى أ نّه على تقدير ترك التعلّم والفحص لو صادف خلاف الواقع بارتكاب الحرام أو ترك الواجب، فالقول باستحقاق العقاب لأجل ترك التعلّم دون مخالفة الواقع بعيد، لأنّ وجوب الفحص والتعلّم إنّما هو لتنجّز الواقع قبله فكيف يمكن الالتزام بعدم استحقاق العقاب على مخالفة الواقع، واستحقاقه على ترك الفحص عنه فانّه خلف. والالتزام باستحقاق عقابين أبعد، ولم يقل به أحد. فتعيّن القول باستحقاق عقاب واحد لأجل مخالفة الواقع، دون ترك الفحص والتعلّم. وهذا هو معنى الوجوب الطريقي. وأمّا لو ترك الفحص ولكنّه صادف الواقع من باب الاتفاق، فلا يستحقّ العقاب إلاّ على القول باستحقاق المتجري للعقاب. وقد تقدّم (2) الكلام فيه مفصّلاً في بحث القطع.

 ثمّ إنّه ربّما يستشكل في الوجوب الطريقي فيما إذا كان الواجب مشروطاً بشرط غير حاصل كالموقت قبل وقته، ولم يكن المكلف متمكناً من الاتيان به في ظرفه لتركه التعلّم قبل حصول الشرط، باعتبار أ نّه قبل حصول الشرط لم يثبت وجوب الواجب حتّى يجب تعلّمه وتحصيل سائر مقدّماته، وبعد حصوله

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3: 346 و 347 / أبواب التيمم ب 5 ح 1 و 6.

(2) في ص 17.

ــ[577]ــ

لا يكون قادراً على الامتثال، فالتكليف ساقط للعجز، فيلزم عدم وجوب التعلّم لا قبل حصول الشرط ولا بعده. ولعلّه لأجل هذا الاشكال التزم صاحب الكفاية (قدس سره) وغيره بالوجوب النفسي.

 وتحقيق الحال حول هذا الاشكال يقتضي البسط في المقال فنقول وعلى الله الاتكال:

 قد يكون الواجب فعلياً مع اتّساع الوقت لتعلّمه والاتيان به، فلا إشكال في عدم وجوب التعلّم عليه قبل الوقت، لعدم فعلية وجوب الواجب، فانّه بعد الوقت مُخيّر بين التعلّم والامتثال التفصيلي، والأخذ بالاحتياط والاكتفاء بالامتثال الاجمالي، سواء كان الاحتياط مستلزماً للتكرار أم لا، بناءً على ما تقدّم بيانه(1) من أنّ الصحيح جواز الاكتفاء بالامتثال الاجمالي ولو كان مستلزماً للتكرار مع التمكن من الامتثال التفصيلي.

 وقد يكون الواجب فعلياً مع عدم اتّساع الوقت للتعلّم وللاتيان به، ولكن المكلف يتمكن من الاحتياط والامتثال الاجمالي، ولا إشـكال أيضاً في عدم وجوب التعلم عليه قبل الوقت، لعدم فعلية وجوب الواجب، ولا بعد الوقت لعدم اتّساع الوقت له وللاتيان بالواجب على الفرض، فله أن يتعلّم قبل الوقت، وله أن يحتاط بعد دخوله. وتوهّم أنّ الامتثال الاجمالي إنّما هو في طول الامتثال التفصيلي، فمع القدرة على الثاني لا يجوز الاكتفاء بالأوّل، غير جار في هذا الفرض، لعدم التمكن من الامتثال التفصيلي في ظرف العمل، نعم هو متمكن من التعلّم قبل الوقت، إلاّ أ نّه لا يجب عليه حفظ القدرة على العمل قبل الوقت ولم يقل بوجوبه أحد.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 92.

ــ[578]ــ

 وقد يكون الواجب فعلياً مع عدم اتّساع الوقت للتعلّم وللإتيـان به، ولا يكون المكلف متمكناً من الاحتياط، ولكنّه متمكن من الامتثال الاحتمالي فقط، كما إذا شكّ في الركوع حال الهوي إلى السجود، مع عدم تعلّمه لحكم ذلك قبل العمل، فانّه لا يتمكن من الاحتياط وإحراز الامتثال، إذ في الرجوع والاتيان بالركوع احتمال زيادة الركن وهو مبطل للصلاة، وفي المضي في الصلاة وعدم الاعتناء بالشك احتمال نقصان الركن وهو أيضاً مبطل للصلاة، فلا يتمكن من الاحتياط. وفي كل من الرجوع والاتيان بالركوع والمضي في الصلاة احتمال الامتثال، هذا إذا كان الشك متعلقاً بالأركان كما مثّلناه.

 وأمّا إن كان متعـلقاً بغير الأركان، فهو متمكن من الاحتياط والاتيان بالمشكوك فيه رجاءً، وهو خارج عن هذا الفرض، ففي هذا الفرض وجب عليه التعلّم قبل الابتلاء بالشك بحكم العقل بملاك دفع العقاب المحتمل عند فعلية الشك وتشمله أدلة وجوب التعلّم أيضاً، فانّه لو لم يتعلّم قبل الابتلاء واكتفى بالامتثال الاحتمالي فلم يصادف الواقع كانت صلاته باطلةً وصحّ عقابه، ولا يصح اعتذاره بأ نّي ما علمت، لأ نّه يقال له: «هلاّ تعلّمت حتّى عملت» كما في الرواية (1). ومن هذا الباب فتوى الأصحاب بوجوب تعلّم مسائل الشك والسهو قبل الابتلاء، حتّى أفتوا بفسق من لم يتعلّم. وأنت ترى أنّ الاشكال المذكور من ناحية وجوب التعلّم غير جار في هذه الصورة يقيناً فلاحظ.

 وقد لا يكون الواجب فعلياً بعد دخول الوقت لكونه غافلاً ـ ولو كانت غفلته مستندة إلى ترك التعلم ـ أو لكونه غير قادر، ولو كان عجزه مستنداً إلى ترك التعلم قبل الوقت، مع عدم اتّساع الوقت للتعلّم وللاتيان بالواجب، والاشكال المذكور مختص بهذه الصورة.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّمت في ص 571.

ــ[579]ــ

 والذي ينبغي أن يقال: إنّه إن كانت القدرة المعـتبرة في مثل هذا الواجب معتبرة عقلاً من باب قبح التكليف بغير المقدور وغير دخيلة في الملاك، كما إذا ألقى أحد نفسه من شاهق إلى الأرض، فانّه أثناء الهبوط إلى الأرض وإن لم يكن مكلفاً بحفظ نفسه، لعدم قدرته عليه، إلاّ أنّ قدرته ليست دخيلة في الملاك، ومبغوضية الفعل للمولى باقية بحالها، ففي مثل ذلك لا ينبغي الشك في وجوب التعلّم قبل الوقت للتحفظ على الملاك الملزم في ظرفه، وإن لم يكن التكليف فعليّاً في الوقت، لما تقدّم سابقاً(1) من أنّ العقل يحكم بقبح تفويت الملاك الملزم، كما يحكم بقبح مخالفة التكليف الفعلي.

 وإن كانت القدرة معتبرة شرعاً ودخيلة في الملاك، فلا يجب التعلّم قبل الوقت حينئذ، بلا فرق بين القول بوجوبه طريقياً والقول بوجوبه نفسياً. أمّا على القول بالوجوب الطريقي فالأمر واضح، إذ لا يترتب على ترك التعلّم فوات واجب فعلي ولا ملاك ملزم. وأمّا على القول بالوجوب النفسي، فلأنّ الواجب إنّما هو تعلّم الأحكام المتوجهة إلى شخص المكلف، والمفروض أ نّه لم يتوجّه إليه تكليف ولو لعجزه، ولا يجب على المكلف تعلّم الأحكام المتوجهة إلى غيره، وهو القادر، ولذا لا يجب على الرجل تعلم أحكام الحيض.

 وظهر بما ذكرناه: أ نّه لا ثمرة عملية بيننا وبين المحقق الأردبيلي (قدس سره) إذ قد عرفت عدم وجوب التعلّم في هذا الفرض على كلا القولين، فلا يجدي الالتزام بالوجوب النفسي في دفع الاشكال المذكور، بل الحق هو الالتزام بالاشكال وعدم وجوب التعلّم، ولا يلزم منه محذور.
ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 530.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net