الرابع : حكومة لا ضرر على العمومات الأوّلية 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4082

 

التنبيه الرابع

 قد ذكرنا (1) أنّ دليل لا ضرر ناظر إلى العمومات والاطلاقات المثبتة للتكاليف ويقيّدها بصورة عدم الضرر، إلاّ أنّ النسبة بين دليل لا ضرر وبين كل واحد من الأدلة المثبتة للتكليف عموم من وجه، فانّ مقتضى إطلاق دليل وجوب الوضوء مثلاً وجوبه حتّى في حال الضرر، وإطلاق دليل لا ضرر ينفي وجوبه حال الضرر، فالوضوء الضرري يكون مورد الاجتماع، فيقع التعارض بينهما فيه، فوقع الكلام بينهم في وجه تقديم دليل لا ضرر على الدليل المثبت للتكليف. وقد ذكروا للتقديم وجوهاً لا محصّل لها، فلا نتعرّض لها وللكلام عليها فانّه بلا طائل.

 والتحقيق في وجه التقديم: أنّ دليل لا ضرر حاكم على الأدلة المثبتة للتكاليف، والدليل الحاكم يقدّم على الدليل المحكوم بلا ملاحظة النسبة بينهما وبلا ملاحظة الترجيحات الدلالية والسندية، بل الدليل الحاكم بعد إحراز حجّيته يقدّم على المحكوم، وإن كان أضعف منه دلالةً وسنداً، فلنا في المقام دعويان، الاُولى: صغرويّة، وهي أنّ دليل لا ضرر حاكم على العمومات

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في التنبيه السابق.

ــ[628]ــ

والاطلاقات المثبتة للتكاليف. والثانية: كبروية، وهي أنّ كل دليل حاكم يقدّم على المحكوم بلا ملاحظة النسبة والترجيح بينهما.

 أمّا الدعوى الاُولى: فبيانها أنّ كل دليلين يكون بينهما تناف إن لم يكن أحدهما ناظراً إلى الآخر، بل كان التنافي بينهما لعدم إمكان الجمع بين مدلوليهما للتضاد أو التناقض، والأوّل كما في أكرم العلماء ولا تكرم الفساق، والثاني كما في أكرم العلماء ولا يجب إكرام الفساق، بالنسبة إلى مادة الاجتماع، فهذا هو التعارض، فلا بدّ فيه من الرجوع إلى قاعدة التعارض من تقديم الأقوى منهما دلالةً أو سنداً، أو التخيير أو التساقط على اختلاف الموارد والمسالك، والتفصيل موكول إلى محلّه، وهو بحث التعادل والترجيح. وأمّا إن كان أحدهما ناظراً إلى الآخر فهو حاكم عليه ومبيّن للمراد منه.

 ثمّ إنّ النظر إلى الآخر قد يكون بمدلوله المطابقي وبمفاد أعني وأردت، وقد يكون بمدلوله الالتزامي.

 والأوّل: إمّا أن يكون ناظراً إلى ظهور الدليل الآخر وجهة دلالته على المراد الجدي. وهذا القسم من الحكومة في الروايات نادر جداً، حتّى ادّعى المحقق النائيني(قدس سره) عدم وجوده(1). لكن الحق وجوده في الروايات مع الندرة، ومن ذلك قوله (عليه السلام): إنّما عنيت بذلك الشك بين الثلاث والأربع(2) بعد ما سئل عن قوله (عليه السلام) «الفقيه لا يعيد الصلاة». وإمّا أن يكون ناظراً إلى جهة صدور الدليل الآخر، كما إذا ورد دليل ظاهر في بيان الحكم الواقعي، ثمّ ورد دليل آخر على أنّ الدليل الأوّل إنّما صدر عن تقية لا لبيان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 2: 506، فوائد الاُصول 4: 710.

(2) الوسائل 8: 188 و 215 / أبواب الخلل ب 1 ح 5 و ب 9 ح 3 وفيهما «إنّما ذلك في الثلاث والأربع».

ــ[629]ــ

الحكم الواقعي، وهذا القسم من الحكومة كثير في الروايات كما يظهر عند المراجعة.

 والثاني: أي ما يكون ناظراً إلى الدليل الآخر بمدلوله الالتزامي تارةً يكون ناظراً إلى عقد الوضع إمّا بالاثبات والتوسعة كما في النبوي «الطواف بالبيت صلاة» (1) أو بالنفي والتضييق كما في قوله (عليه السلام): «لا رِبا بين الوالد والولد» (2) ففي الأوّل يجري جميع أحكام الصلاة في الطواف، وفي الثاني لا يجري حكم الرِّبا في الرِّبا بين الوالد والولد. واُخرى يكون ناظراً إلى عقد الحمل، كدليل لا حرج بالنسبة إلى الأدلة المثبتة للتكاليف. وكذا دليل لا ضرر بالنسبة إلى الأدلة المثبتة للتكاليف، فانّ دليل لا ضرر لا يكون ناظراً إلى عقد الوضع، وأنّ الوضوء الضرري مثلاً ليس بوضوء، بل ناظر إلى عقد الحمل، وأنّ الوضوء الضرري ليس بواجب. وقد ظهر بما ذكرناه أنّ الدليل الحاكم من حيث كونه ناظراً إلى الدليل المحكوم ومفسّراً له يكون متأخراً عنه رتبة، سواء كان من حيث الزمان متقدماً عليه أو متأخراً عنه.

 هذه هي أقسام الحكومة، والجامع بينها أنّ الدليل الحاكم الناظر إلى الدليل المحكوم هو الذي لو لم يكن الدليل المحكوم مجعولاً كان الحاكم لغواً، فانّه منطبق على جميع الأقسام المذكورة فلاحظ.

 وأمّا الدعوى الثانية: وهي أنّ كل حاكم يقدّم على المحكوم بلا ملاحظة النسبة والترجيح بينهما، فبيانها: أنّ الدليل الحاكم إن كان ناظراً إلى عقد الوضع بالتوسعة أو التضييق، فالوجه في تقديمه ظاهر، لأنّ كل دليل مثبت للحكم لا يتكفل لبيان موضوعه، فإذا ورد دليل كان مدلوله وجود الموضوع أو نفيه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المستدرك 9: 410 / أبواب الطواف ب 38 ح 2.

(2) تقدّم في ص 609.

ــ[630]ــ

لايكون بينهما تناف وتعارض أصلاً، فانّ دليل حرمة الرِّبا مثلاً لا يكون متكفلاً لبيان تحقق الرِّبا، بل مفاده حرمة الرِّبا على نحو القضيّة الحقيقية، فاذا ورد في دليل آخر أ نّه لا ربا بين الوالد والولد فلا منافاة بينهما، فانّه ينفي ما لا يثبتـه الدليل الأوّل، فيجب العمل بهما والحكم بحرمة الرِّبا، وأ نّه لا ربا بين الوالد والولد. وكذا الحال في التوسعة. ولا حاجة إلى إعادة الكلام.

 وأمّا إن كان الدليل الحاكم ناظراً إلى جهة الصدور في الدليل المحكوم أو إلى عقد الحمل فيه، فالوجه في تقديمه عليه أنّ حجّية الظهور وحجّية جهة الصدور ثابتتان بسيرة العقلاء، فانّ بناء العقلاء قد استقرّ على كون الظاهر هو المراد الجدي، وكون الداعي إلى التكلم هو بيان الحكم الواقعي، ومورد هذا البناء وموضوعه هو الشك في المراد والشك في جهة الصدور، وبعد ورود الدليل الدال على بيان المراد وجهة الصدور لا يبقى شكّ حتّى يعمل بالظهور أو جهة الصدور، فيكون الدليل الحاكم مبيّناً للمراد من الدليل المحكوم، ومبيّناً لجهة صدوره، وبه يرتفع الشك ولم يبق مورد للعمل بأصالة الظهور أو بأصالة الجهة. وهذا هو السر في تقديم الحاكم على المحكوم، من دون ملاحظة النسبة والترجيح بينهما بعد إحراز حجّية الحاكم. وهذا الكلام جار في كل قرينة متصلة أو منفصلة مع ذيها فانّه تقدّم القرينة بعد إحراز قرينيتها على ظهور ذي القرينة وإن كان أقوى من ظهور القرينة.
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net