الخامس : كون الضرر في القاعدة الضرر الواقعي 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4897


التنبيه الخامس

 أنّ لفظ الضرر المذكور في أدلة نفي الضرر موضوع للضرر الواقعي، كما هو الحال في جميع الألفاظ، ولهذا قلنا في محلّه إنّ مقتضى الأدلة ثبوت الأحكام للموضوعات الواقعية من دون تقييد بالعلم والجهل، غاية الأمر أنّ الجاهل

ــ[631]ــ

المستند في مخالفتها إلى الأمارة أو الأصل معذور غير مستحق للعقاب. وأمّا الأحكام فهي مشتركة بين العالم والجاهل(1)، وعليه فيكون الميزان في رفع الحكم كونه ضررياً في الواقع، سواء علم به المكلف أم لا. وقد استشكل بذلك في موردين:

 الأوّل: تقييد الفقهاء خيار الغبن والعيب بما إذا جهل المغبون. وأمّا مع العلم بهما فلا يحكم بالخيار، فيقال ما وجه هذا التقييد مع أنّ دليل لا ضرر ناظر إلى الضرر الواقعي، بلا فرق بين العلم والجهل. ودعوى أ نّه مع العلم هو أقدم على الضرر مدفوعة بأنّ إقدامه على الضرر غير مؤثر في لزوم البيع بعد كون الحكم الضرري منفياً في الشريعة، وبعد كون اللزوم منفياً شرعاً لا فائدة في إقدامه على الضرر.

 الثاني: تسالم الفقهاء على صحّة الطهارة المائيـة مع جهل المكلف بكونها ضررية، مع أنّ مقتضى دليل لا ضرر عدم وجوبها حينئذ، وكون الوظيفة هي الطهارة الترابية، فيلزم الحكم ببطلان الطهارة المائية مع جهل المكلف بكونها ضررية، ووجوب إعادة الصلاة الواقعة معها.

 والجواب أمّا عن المورد الأوّل: فهو أنّ الاشكال فيه مبني على أنّ الدليل لثبوت خيار الغبن والعيب هو دليل نفي الضرر. وقد ذكرنا (2) أنّ الدليل على ثبوت خيار الغبن تخلف الشرط الارتكازي، باعتبار أنّ بناء العقلاء على التحفظ بالمالية عند تبديل الصور الشخصية، فهذا شرط ضمني ارتكازي، وبتخلّفه يثبت خيار تخلّف الشرط. وعليه فيكون الاقدام من المغبون مع علمه بالغبن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّم في ص 307.

(2) في ص 622.

ــ[632]ــ

إسقاطاً للشرط المذكور فلا إشكال فيه. وأمّا خيار العيب فان كان الدليل عليه هو تخلّف الشرط الضمني، بتقريب أنّ المعاملات العقلائية مبنية على أصالة السلامة في العوضين، فإذا ظهر العيب كان له خيار تخلّف الشرط، فيجري فيه الكلام السابق في خيار الغبن ولا حاجة إلى الاعادة. وإن كان الدليل عليه الأخبار الخاصّة (1) كما أنّ الأمر كذلك، غاية الأمر أنّ الأخبار مشتملة على أمر آخر زائداً على الخيار وهو الأرش، فهو مخيّر بين الفسخ والامضاء مع الأرش، فالأمر أوضح لتقييد الخيار في الأخبار بصورة الجهل بالعيب.

 وأمّا الجواب عن الاشكال في المورد الثاني: فذكر المحقق النائيني (2)(قدس سره) أنّ مفاد حديث لا ضرر هو نفي الحكم الضرري في عالم التشريع. والضرر الواقع في موارد الجهل لم ينشأ من الحكم الشرعي ليرفع بدليل لا ضرر، وإنّما نشأ من جهل المكلف به خارجاً، ومن ثمّ لو لم يكن الحكم ثابتاً في الواقع لوقع في الضرر أيضاً.

 وفيه: أنّ الاعتبار في دليل نفي الضرر إنّما هو بكون الحكم بنفسه أو بمتعلقه ضررياً، ولا ينظر إلى الضرر المتحقق في الخارج وأ نّه نشأ من أيّ سبب. ومن الظاهر أنّ الطهارة المائية مع كونها ضرريةً لو كانت واجبةً في الشريعة يصدق أنّ الحكم الضرري مجعول فيها من قبل الشارع، وعليه فدليل نفي الضرر ينفي وجوبها.

 والصحيح في الجواب أن يقال: إنّ دليل لا ضرر ورد في مقام الامتنان على الاُمّة الاسلامية، فكل مورد يكون نفي الحكم فيه منافياً للامتنان لا يكون

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 18: 29 / أبواب الخيار ب 16.

(2) منية الطالب 3: 410.

ــ[633]ــ

مشمولاً لدليل لا ضرر، ومن المعلوم أنّ الحكم ببطلان الطهارة المائية الضررية الصادرة حال الجهل بكونها ضررية والأمر بالتيمم وباعادة العبادات الواقعة معها مخالف للامتنان، فلا يشمله دليل لا ضرر، بل الحكم بصحّة الطهارة المائية المذكورة وبصحّة العبادات الواقعة معها هو المطابق للامتنان.

 ثمّ إنّ مجرد كون الوضوء الضرري مثلاً الصادر حال الجهل غير مشمول لدليل لا ضرر لا يكفي في الحكم بصحّته، بل إثبات صحّته يحتاج إلى دليل من عموم أو إطلاق يشمله، لأنّ عدم كونه مشمولاً لدليل لا ضرر عبارة عن عدم المانع من صحّته، وعدم المانع لا يكفي في الحكم بالصحّة، بل لا بدّ من إحراز المقتضي وشمول الأدلة، وهذا يتوقف على أحد أمرين على سبيل منع الخلو، الأوّل: أن لا يكون الاضرار بالنفس حراماً ما لم يبلغ حدّ التهلكة، ولم يكن ممّا علم مبغوضيته في الشريعة المقدّسة كقطع بعض الأعضاء ونحوه. الثاني: أن لا يكون النهي المتعلق بالعنوان التوليدي سارياً إلى ما يتولد منه، فانّ الاضرار بالنفس وإن فرض حرمته، إلاّ أنّ حرمته لا تسري بناءً على ذلك إلى الطهارة المائية التي يتولد منها الاضرار، فلا مانع من الحكم بصحّتها وإن كان الاضرار المتولد منها حراماً. وأمّا إذا لم نقل بأحد الأمرين، بأن قلنا بحرمة الاضرار بالنفس وبسراية الحرمة من الاضرار المسبّب من الطهارة المائية إلى السبب فتكون الطهارة المائية حينئذ حراماً، وحرمتها مانعة عن اتصافها بالصحّة، ولا يكون الجهل موجباً للتقرّب بما هو مبغوض واقعاً.

 ولذا ذكرنا في بحث اجتماع الأمر والنهي أ نّه بناءً على الامتناع وتقديم جانب النهي يحكم بفساد العبادة ولو في حال الجهل (1) وما ذكره الفقهاء من الحكم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 3: 435، الدراسات 2: 113.

ــ[634]ــ

بالصحّة في حال الجهل فهو إمّا مبني على جواز اجتماع الأمر والنهي، فيكون المقام من باب التزاحم لا من باب التعارض، ولا مانع من الحكم بصحّة أحد المتزاحمين في صورة عدم وصول الآخر إلى المكلف وجهله به (1)، وإمّا ناشئ من الاشتباه في التطبيق والغفلة عن كون العمل مورداً لاجتماع الأمر والنهي (2). ومن العجيب ما صدر عن المحقق النائيني (قدس سره) في رسالته العملية (3) من الفتوى بصحّة الوضوء بماء مغصوب حال الجهل بالغصبية مع كونه ملتفتاً إلى كونه مورداً لاجتماع الأمر والنهي على ما تعرّض له في الاُصول. والاجماع المدّعى في مفتاح الكرامة على صحّة الوضوء مع الجهل بالغصبية (4) ممّا لا مجال للاعتماد عليه، فانّه إجماع منقول معلوم المدرك.

 وربّما يتوهّم في المقام: أ نّه لا يمكن الحكم بصحّة الطهارة المائية ولو لم نقل بسراية الحرمة من المسبب إلى السبب، إذ مع حرمة المسبب لا يمكن القول بوجوب السبب، ولو لم نقل بحرمته لعدم إمكان اختلاف السبب والمسبب في الوجوب والحرمة، بأن يكون السبب واجباً والمسبب حراماً، فلا يمكن القول بوجوب الطهارة المائية الضررية مع حرمة الاضرار بالنفس.

 ويدفعه: أنّ عدم إمكان اختلاف السبب والمسبب في الوجوب والحرمة ليس إلاّ من جهة استلزامه التكليف بما لا يطاق لعدم إمكان امتثال أحدهما إلاّ بمخالفة الآخر، ولا مانع من أن يكون في السبب ملاك الوجوب، وفي المسبب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 3: 438 ـ 439.

(2) ذهب إليه في حاشيته على أجود التقريرات 2: 164.

(3) العروة الوثقى (المحشّاة) 1: 405 المسألة 4.

(4) مفتاح الكرامة 1: 303.

ــ[635]ــ

ملاك الحرمة، غاية الأمر عدم فعلية كلا الحكمين، لعدم قدرة المكلف على امتثالهما، فيكون من باب التزاحم، كما إذا توقف إنقاذ غريق على التصرف في ملك الغير، فانّه يكون المسبب واجباً والسبب حراماً ـ عكس ما نحن فيه ـ ولا إشكال في تنجّز وجوب الانقاذ مع الجهل بحرمة التصرف حكماً أو موضوعاً، كما لا إشكال في تنجّز حرمة التصرف مع الجهل بوجوب الانقاذ حكماً أو موضوعاً، فكذلك الحال في المقام لا مانع من وجوب الطهارة المائية مع الجهل بالضرر.

 وليس المقام من قبيل اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ليكون المورد من باب التعارض على القول بامتناع الاجتماع، لأنّ التعارض على القول بامتناع الاجتماع إنّما هو فيما إذا لم يمكن الاجتماع في نفسه مع قطع النظر عن عدم قدرة المكلف على الامتثال، وحينئذ فعلى القول بتقديم جانب الحرمة يكون العمل مبغوضاً في الواقع، فلايمكن التقرّب به، وبعد كونه غير مأمور به لا يمكن كشف وجود الملاك فيه كي يمكن القول بالصحّة لأجل وجود الملاك، وإن لم يكن مأموراً به، لأ نّا لا نعلم وجود الملاك إلاّ بالأمر المفقود على الفرض. والمقام ليس من هذا القبيل، بل من باب التزاحم على التقريب المتقدم. فالصحيح أنّ الالتزام بأحد الأمرين المذكورين كاف في الحكم بصحّة الطهارة المائية مع الجهل بالضرر.

 ولنقدّم الكلام في الأمر الثاني لكون البحث فيه مختصراً بالنسبة إلى الأمر الأوّل فنقول:

 أمّا الكلام فيه من حيث الكُبرى: فقد تقدّم في بحث مقدّمة الواجب (1)

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الهداية في الاُصول 2: 77، الدراسات 1: 361.

ــ[636]ــ

وملخّص ما ذكرناه هناك: أنّ العنوان التوليدي إن كان ينطبق على نفس ما يتولّد منه في نظر العرف، فالحكم المتعلق بالعنوان التوليدي يتعلق بما يتولد منه، لوحدة الوجود خارجاً. ولا عبرة بتعدد العنوان مع اتحاد الوجود خارجاً، كالفعل الذي يتولّد منه الهتك مثلاً، فانّ الهتك ينطبق على نفس هذا الفعل، وهو فرد منه، فلو كان الهتك حراماً تسري حرمته إلى الفعل لا محالة، بل حرمته عين حرمة الفعل لاتحادهما خارجاً في نظر العرف.

 وأمّا إن كان الفعل التوليدي مغايراً في الوجود مع ما يتولّد منه، كالاحراق المتولد من الالقاء، حيث إنّهما موجودان بوجودين، ضرورة أنّ اللقاء مغاير للاحتراق وجوداً، فايجاد اللقاء أي الالقاء مغاير لايجاد الاحتراق أي الاحراق، لأنّ الايجاد والوجود متحدان ذاتاً ومختلفان اعتباراً، فلا تسري حرمة الفعل التوليدي إلى ما يتولد منه، والوجه فيه ظاهر بعد كونهما متغايرين من حيث الوجود.

 وأمّا الكلام من حيث الصغرى: فهو أ نّا قد ذكرنا في الدورة السابقة أنّ الضرر المتولد من الطهارة المائية من قبيل الأوّل، ولكن التحقيق أ نّه من قبيل الثاني، لأنّ الضرر هو النقصان على ما ذكرناه سابقاً (1)، كحدوث الحمى مثلاً، وهو غير الطهارة المائيـة في الوجود، وعليه فلا تسري حرمة الاضرار إلى الطهارة المائية، وصحّ الحكم بصحّتها بلا احتياج إلى البحث عن الأمر الأوّل، إلاّ أ نّا نتكلّم فيه أيضاً تتميماً للبحث فنقول:

 ذكر شيخنا الأنصاري (قدس سره) في رسالته المعمولة في قاعدة لا ضرر أنّ الاضرار بالنفس كالاضرار بالغير محرّم بالأدلة العقلية والنقلية (2). ولكن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 605.

(2) رسائل فقهية: 116.

ــ[637]ــ

التحقيق عدم ثبوت ذلك على إطلاقه، أي في غير التهلكة وما هو مبغوض في الشريعة المقدّسة كقطع الأعضاء ونحوه، فانّ العقل لا يرى محذوراً في إضرار الانسان بماله بأن يصرفه كيف يشاء بداع من الدواعي العقلائية ما لم يبلغ حدّ الاسراف والتبذير، ولا بنفسه بأن يتحمّل ما يضر ببدنه فيما إذا كان له غرض عقلائي، بل جرت عليه سيرة العقلاء، فانّهم يسافرون للتجارة مع تضررهم من الحرارة والبرودة بمقدار لو كان الحكم الشرعي موجباً لهذا المقدار من الضرر لكان الحكم المذكور مرفوعاً بقاعدة لا ضرر. وكذا النقل لم يدل على حرمة الاضرار بالنفس، فانّ أقصى ما يمكن أن يستدل به لحرمة الاضرار بالنفس روايات نتكلّم فيها:

 منها: الروايات الدالة على نفي الضرر والضرار. وقد عرفت الحال فيها، فانّ الفقرة الاُولى منها لا تدل على حرمة الاضرار بالغير فضلاً عن الاضرار بالنفس، بل هي ناظرة إلى نفي الأحكام الضررية في عالم التشريع. والفقرة الثانية منها تدل على حرمة الاضرار بالغير بالأولوية على ما عرفت وجهها ولا تدل على حرمة الاضرار بالنفس بوجه كما تقدّم (1).

 ومنها: ما رواه الكليني (قدس سره) في الكافي عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث طويل من قوله (عليه السلام): «إنّ الله تعالى لم يحرّم ذلك على عباده وأحلّ لهم ما سواه رغبةً منه فيما حرّم عليهم ولا زهداً فيما أحلّ لهم، ولكنّه خلق الخلق فعلم ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم، فأحلّه لهم وأباحه تفضّلاً منه عليهم به لمصلحتهم، وعلم ما يضرّهم فنهاهم عنه وحرّمه عليهم ـ إلى أن قال (عليه السلام) ـ أمّا الميتـة فانّه لا يُدمنها أحد إلاّ ضعف بدنه ونحل جسمه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 620.

ــ[638]ــ

وذهبت قوّته... » (1) فربّما يستدل بها لحرمة الاضرار بالنفس، لكون الظاهر منها أنّ علّة حرمة المحرمات هي إضرارها، فالحرمة تدور مداره.

 ولكن التأمّل فيها يشهد بعدم دلالتها على حرمة الاضرار بالنفس، فانّ المستفاد منها أنّ الحكمة في تحريم جملة من الأشياء كونها مضرةً بنوعها، لا انّ الضرر موضوع للتحريم. والذي يدلّنا على هذا اُمور:

 الأوّل: أنّ الضرر لو كان علّةً للتحريم يستفاد عدم حرمة الميتة من نفس هذه الرواية، لأنّ المذكور فيها ترتب الضرر على إدمانها، فلزم عدم حرمة الميتة من غير الادمان، لأنّ العلّة المنصوصة كما توجب توسعة الحكم توجب تضييقه أيضاً، فإذا ورد أنّ الخمر حرام لكونه مسكراً، فالتعليل المذكور كما يدل على حرمة غير الخمر من المسكرات، يدل على عدم حرمة الخمر إن لم يكن فيه سكر. وهذا من حيث القاعدة مع قطع النظر عن النص الخاص الدال على حرمة الخمر قليله وكثيره.

 الثاني: أ نّه لو كان الضرر علّةً للتحريم كانت الحرمة دائرة مدار الضرر، فاذا انتفى الضرر في مورد انتفت الحرمة، ولازم ذلك أن لا يحرم قليل من الميتة مثلاً بمقدار نقطع بعدم ترتب الضرر عليه، مع أنّ ذلك خلاف الضرورة من الدين.

 الثالث: أ نّا نقطع بعدم كون الميتة بجميع أقسامها مضرّة للبدن، فاذا ذبح حيوان إلى غير جهة القبلة، فهل يحتمل أن يكون أكله مضرّاً بالبدن مع التعمّد في ذبحه إلى غير جهة القبلة، وغير مضرّ مع عدم التعمد في ذلك، أو يحتمل أن يكون مضرّاً في حال التمكن من الاستقبال وغير مضرّ في حال العجز عنه.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الكافي 6: 242 / 1، الوسائل 24: 99 / أبواب الأطعمة المحرمة ب 1 ح 1.

ــ[639]ــ

الرابع: ما ورد في الروايات من ترتب الضرر على أكل جملة من الأشياء، كتناول الجبن في النهار وإدمان أكل السمك وأكل التفاح الحامض إلى غير ذلك ممّا ورد في الأطعمة والأشربة، فراجع أبواب الأطعمة والأشربة من الوسائل، مع أ نّه لا خلاف ولا إشكال في جواز أكلها.

 ومن الروايات التي يمكن أن يستدل بها للمقام ما رواه في الوسائل في باب الأطعمة والأشربة عن تحف العقول (1)، عن جعفر بن محمّد (عليهما السلام)، بعد تقسيم ما أخرجته الأرض إلى ثلاثة أصناف، من قوله (عليه السلام): «فكل شيء من هذه الأشياء فيه غذاء للانسان ومنفعة وقوّة، فحلال أكله، وما كان منها فيه المضرة فحرام أكله إلاّ في حال التداوي... » وفي باب الأطعمة والأشربة من المستدرك عن دعائم الاسلام مثله (2)، وفي المستدرك أيضاً عن فقه الرضا (عليه السلام) قريب منه مع الاختلاف في العبارة (3).

 والجواب عنها: أنّ ظاهرها تقسيم الحبوب والثمار والبقول إلى قسمين، فما كان منها مضرّاً للانسان بنوعه فهو حرام إلاّ في حال التداوي، وما كان منها نافعاً للانسان بنوعه فهو حلال، أي أنّ الحكمة في حرمة بعض الأشياء هي كونه مضرّاً بحسب النوع، والحكمة في حلية بعض الأشياء هي كونه ذا منفعة ومصلحة نوعية، فلا دلالة لها على كون الحرمة دائرةً مدار الضرر. هذا مضافاً إلى ضعف الروايات المذكورة من حيث السند، فانّا قد تعرّضنا في بحث

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 25: 84 / أبواب الأطعمة المباحة ب 42 ح 1، تحف العقول: 337.

(2) المستدرك 16: 361 / أبواب الأطعمة المباحة ب 32 ح 1، دعائم الاسلام 2: 122 / 418.

(3) المستدرك 16: 333 / أبواب الأطعمة المباحة ب 1 ح 2، فقه الرضا: 34.

ــ[640]ــ

المكاسب(1) لعدم صحّة الاعتماد على روايات كتاب تحف العقول وروايات دعائم الاسلام. وأمّا فقه الرضا (عليه السلام) فلم يثبت كون ما فيه رواية فضلاً عن صحّة سنده، ويحتمل كونه كتاب فتوى كما يظهر عند المراجعة.

 فتحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام: عدم حرمة الاضرار بالنفس، وصحّة ما ذهب إليه المشهور من الحكم بصحّة الطهارة المائية مع كون المكلف جاهلاً بكونها موجبةً للضرر. هذا كلّه فيما إذا كان المكلف جاهلاً بالضرر.

 وأمّا مع العلم به فهل يحكم بصحّة الطهارة المائية أم بفسادها؟ أفتى السيّد (قدس سره) في العروة بالفساد، وفصّل بين العلم بالضرر والعلم بالحرج، فحكم بالفساد في الأوّل وبالصحّة في الثاني(2). والمحشّون كذلك فيما رأيناه من الحواشي، إلاّ المحقق النائيني (3) (قدس سره) فاختار عدم الصحّة في المقامين، وسنذكر الوجه لما ذكره والكلام فيه. فالأقوال في المسألة ثلاثة:

 الأوّل: هو الحكم بصحّة الطهارة المائية مع العلم بالضرر والعلم بالحرج.

 الثاني: هو الحكم بالفساد في المقامين كما اختاره المحقق النائيني (قدس سره).

 الثالث: هو التفصيل بين العلم بالضرر فيحكم بالفساد، وبين العلم بالحرج فيحكم بالصحّة، كما اختاره في العروة، ولعلّه المشهور بين المتأخرين.

 والأقوى هو القول الأوّل والحكم بالصحّة في المقامين، لكن في خصوص الغسل والوضوء دون غيرهما من العبادات وأجزائها، فانّه يحكم بالفساد في غير الوضوء والغسل، مع العلم بالضرر والعلم بالحرج، على ما سنشير إليه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الفقاهة 1: 5، 12، 18.

(2) العروة الوثقى 1: 337 المسألة 18 [ 1076 ].

(3) العروة الوثقى (المحشّاة) 2: 171 المسألة 18.

 
 

ــ[641]ــ

قريباً إن شاء الله تعالى.

 والوجه في ذلك: أنّ الغسل مستحب لنفسه وكذا الوضوء، وقد تقدّم (1) أنّ دليل لا ضرر حاكم على الأدلة الدالة على الأحكام الالزامية دون الأدلة الدالة على الأحكام غير الالزامية كالاستحباب والاباحة، باعتبار أنّ دليل لا ضرر ناظر إلى نفي الضرر من قبل الشارع. والضرر في موارد الاباحة والاستحباب مستند إلى اختيار المكلف وإرادته لا إلى الشارع، فالأحكام غير الالزامية باقية بحالها، وإن كانت متعلقاتها ضررية، فالوضوء الضرري وإن كان وجوبه مرفوعاً بأدلة نفي الضرر، إلاّ أنّ استحبابه باق بحاله، فصحّ الاتيان بالوضوء الضرري بداعي استحبابه النفسي أو لغاية مستحبّة، وتحصل له الطهارة من الحدث، وبعد حصولها لا مانع من الصلاة معها لحصول شرطها وهي الطهارة. وكذا الحال في الغسل الضرري فيجري فيه ما ذكرناه في الوضوء بلا حاجة إلى الاعادة.

 نعم، لا نقول بالصحّة في غير الوضوء والغسل، كما إذا كان القيام حال القراءة ضررياً أو حرجياً، فانّه تجب الصلاة جالساً، فلو قام في الصلاة مع العلم بالضرر أو الحرج نحكم ببطلان الصلاة في كلا المقامين، لعدم الأمر بالقيام حينئذ وإن لم نقل بحرمة الاضرار بالنفس. وعدم الأمر كاف في الحكم بالبطلان، ولذا نحكم بالبطلان مع العلم بالحرج أيضاً كالعلم بالضرر، لعدم الأمر في كليهما بدليل لا ضرر ولا حرج، فلا يبقى مقتض للصحّة بعد عدم تعلّق الأمر. ووجود الملاك أيضاً غير محرز، لما ذكرناه سابقاً (2) من أ نّه لا سبيل لنا إلى إحراز الملاك

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 618.

(2) في ص 635.

ــ[642]ــ

إلاّ الأمر، فمع عدمه لا يحرز وجود الملاك أصلاً.

وأمّا ما ذكره المحقق النائيني(قدس سره) من الحكم بالفساد مع العلم بالضرر والعلم بالحرج(1)، فهو مبني على ما ذكره في بحث الترتب من أنّ المكلف منقسم بحسب الأدلة إلى واجد الماء فيتوضأ وإلى فاقده فيتيمم، والتقسيم قاطع للشركة، فلا يمكن الحكم بصحّة الطهارة المائية في ظرف الحكم بصحّة الطهارة الترابية على ما هو المفروض، فانّ الحكم بصحّة الوضوء عند الحكم بصحّة التيمم يستلزم تخيير المكلف بينهما، وهو يشبه الجمع بين النقيضين، لأنّ الأمر بالتيمم مشروط بعدم وجدان الماء على ما في الآية الشريفة، والأمر بالوضوء ـ بقرينة المقابلة ـ مشروط بالوجدان، فالحكم بصحّة الوضوء والتيمم يستلزم كون المكلف واجداً للماء وفاقداً له، وهو محال (2). وحيث إنّ الحكم بصحّة الطهارة الترابية في محل الكلام مفروغ عنه وليس محلاًّ للاشكال، فلا مناص من الحكم ببطلان الطهارة المائية، بلا فرق بين العلم بالضرر والعلم بالحرج.

 وفيه: أنّ المعلّق على عدم وجدان الماء في الآية الشريفة (3) هو وجوب التيمم تعييناً، وكذلك المعلّق على وجدان الماء هو وجوب الوضوء تعييناً، وليس فيها دلالة على انحصار مشروعية التيمم بموارد فقدان الماء، فبعد رفع وجوب الوضوء لأدلة نفي الضرر أو أدلة نفي الحرج يبقى استحبابه بحاله، لما تقدّم من عدم حكومة أدلة نفي الضرر ونفي الحرج إلاّ على الأحكام الالزامية.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) منية الطالب 3: 410.

(2) فوائد الاُصول 2: 367، راجع أيضاً أجود التقريرات 2: 90.

(3) المائدة 5: 6.

ــ[643]ــ

 والمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ هذا النوع من الواجد أي الذي يكون الوضوء ضرراً أو حرجاً عليه، يجوز له التيمم إرفاقاً له من قبل الشارع وامتناناً عليه، ويجوز له الوضوء أيضاً نظراً إلى استحبابه النفسي، فتكون النتيجة هي التخيير بين الوضوء والتيمم، ولا نقول إنّ هذا المكلف واجد للماء وفاقد له حتّى يلزم اجتماع النقيضين، بل نقول هو واجد للماء ولكن أجاز له الشارع أن يتيمم إرفاقاً له من جهة كون الوضوء ضرراً أو حرجاً عليه، فانّ جواز التيمم مع كون المكلف واجداً للماء قد ثبت في بعض الموارد.

 منها: ما إذا آوى إلى فراشه فذكر أ نّه غير متوضئ، فيجوز له التيمم مع كونه واجداً للماء.

 ومنها: ما إذا أراد أن يصلّي على الميت فيجوز له التيمم مع وجدان الماء، وإن وقع الخلاف بينهم من حيث إنّه مختص بما إذا خاف عدم إدراك الصلاة أو يعم غيره أيضاً.

 ومنها: صاحب القرح والجرح فيما إذا لم تكن عليهما جبيرة وكانا عاريين، فانّه إن كانت عليهما جبيرة لا إشكال في وجوب المسح عليها، وأمّا إن كانا عاريين فقد تعارضت في حكمه الأخبار، ففي بعضها أ نّه يغتسل ويغسل ما حول القرح والجرح، كما ذكره في الوسائل في باب الجبيرة (1)، وفي بعضها أنّ عليه التيمم كما ذكره في الوسائل أيضاً في باب التيمم (2) ومقتضى الجمع بينها هو الحكم بالتخيير بين الغسل والتيمم، فيجوز له التيمم مع كونه واجداً للماء.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1: 464 / أبواب الوضوء ب 39 ح 3.

(2) الوسائل 3: 347 / أبواب التيمم ب 5 ح 5 و 7 وغيرهما.

ــ[644]ــ

 وأمّا ما ذكره السيّد (قدس سره) في العروة من التفصيل بين العلم بالضرر والعلم بالحرج، والحكم بالفساد في الأوّل وبالصحّة في الثاني، فهو مبني على ما هو المشهور بين المتأخرين من حرمة الاضرار بالنفس، فيكون المكلف غير قادر على استعمال الماء شرعاً، والممنوع شرعاً كالممتنع عقلاً، فتكون الطهارة المائية مبغوضة باطلة، ويجب عليه التيمم. وهذا هو الوجه في التفكيك بين الضرر والحرج. ولا يمكن تصحيح الطهارة المائية على القول بحرمة الاضرار بالنفس، سواء قلنا بسراية الحرمة من المسبب ـ وهو الاضرار ـ إلى السبب وهو الطهارة المائية، أم لم نقل بها.

 أمّا على الأوّل فواضح، لكون الطهارة المائية حينئذ محرّمة لا يمكن التقرّب بها.

 وأمّا على الثاني فلأنّ حرمة المعلول وإن لم تكن مسرية إلى العلّة، إلاّ أ نّه لا يمكن كون العلّة واجباً بالفعل مع حرمة المعلول، للزوم التكليف بما لا يطاق، لعدم قدرة المكلف على امتثال كليهما، فيكون من قبيل التزاحم. ومن المعلوم عدم كون كلا التكليفين فعلياً في باب التزاحم، ومحل الكلام إنّما هو صورة العلم بالضرر لا صورة الجهل به حتّى نحكم بصحّة أحد المتزاحمين مع الجهل بالآخر كما تقدّم، فلا يمكن القول بوجوب الطهارة المائية فعلاً مع حرمة الاضرار بالنفس، لما يلزم من التكليف بما لا يطاق، فلا أمر بالطهارة المائية فتكون باطلة لا محالة. ولا يمكن تصحيحها على القول بالترتب أيضاً لوجهين:

 الأوّل: أنّ الترتب إنّما يتصور فيما إذا كان المتزاحمان عرضيين، بحيث يمكن الالتزام بفعلية أحدهما في ظرف عصيان الآخر كوجوب الازالة والصلاة، والمقام ليس كذلك فانّه بعد وقوع التزاحم بين وجوب الطهارة المائية وحرمة

ــ[645]ــ

الاضرار بالنفس لا يمكن الالتزام بوجوب الطهارة المائية بعد تحقق عصيان حرمة الاضرار، لأنّ العصيان والاضرار إنّما يتحققان بنفس الطهارة المائية، لكونها علّةً للاضرار، فكيف يمكن الالتزام بوجوب الطهارة المائية بعد عصيان حرمة الاضرار.

 الثاني: أنّ الترتب إنّما هو فيما إذا كان الملاك تامّاً في كلا الحكمين، والمانع عن فعلية كليهما إنّما هو عجز المكلف عن امتثالهما معاً، وعليه لا يصحّ الترتب في باب الطهارات لكونها مشروطةً بالقدرة الشرعية، فمع حرمة الاضرار بالنفس لا يمكن القول بصحّة الطهارة المائية لفقدان الشرط وهو عدم المنع الشرعي، وقد تقدّم تفصيل ذلك في بحث الترتب (1).

 فتحصّل: أ نّه على القول بحرمة الاضرار بالنفس لا مـناص من الالـتزام ببطلان الطهارة المائية مع العلم بالضرر. ولكن التحقيق عدم حرمة الاضرار بالنفس، وقد تقدّم الكلام فيه (2) بما لا مزيد عليه.

 فالصحيح ما ذكرناه من عدم الفرق بين الضرر والحرج والحكم بصحّة الطهارة المائية مع العلم بالضرر كما في صورة العلم بالحرج.
 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 2: 389 [ ولكن يظهر منه خلاف ما ذكر هنا فلاحظ ].

(2) في ص 636 وما بعدها.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net