الاستدلال بروايات الحل والطهارة 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5803


 ومن جملة ما استدل به على حجية الاستصحاب: روايات تدل على الحلية ما لم تعلم الحرمة وعلى الطهارة ما لم تعلم النجاسة، وهي طوائف ثلاث:

 منها: ما يدل على حلية كل شيء ما لم تعلم الحرمة، كقوله (عليه السلام): «كل شيء حلال حتى تعرف أنّه حرام»(3).

 ـــــــــــــ
(3) الوسائل 17: 87 و 89 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 1 و 4 (باختلاف يسير).

ــ[82]ــ

 ومنها: ما يدل على طهارة كل شيء ما لم تعلم النجاسة، كقوله (عليه السلام): «كل شيء نظيف حتى تعلم أ نّه قذر»(1).

 ومنها: ما يدل على طهارة خصوص الماء ما لم تعلم نجاسته، كقوله (عليه السلام): «الماء كلّه طاهر حتى تعلم أ نّه نجس»(2)، والاحتمالات المتصورة في مثل هذه الأخبار سبعة:

 الأوّل: أن يكون المـراد منها الحكم بالطهارة الواقعية للأشياء بعناوينها الأوّلية، بأن يكون العلم المأخوذ غاية طريقياً محضاً، والغاية في الحقيقة هو عروض النجاسة، فيكون المراد أنّ كل شيء بعنوانه الأوّلي طاهر حتى تعرضه النجاسة، وأخذ العلم غاية لكونه طريقاً إلى الواقع ليس بعزيز، كما في قوله تعالى: (وَكُلُوْا وَاشْرَبُوْا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ ا لاَْبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ ا لاَْسْوَدِ مِنَ ا لْفَجْرِ)(3) فانّ المراد منه بيان الحكم الواقعي وجواز الأكل والشرب إلى طلوع الفجر، وذكر التبين بناءً على كونه بمعنى الانكشاف إنّما هو لمجرد الطريقية، وإن أمكن حمل التبين على معنى آخر مذكور في محلّه.

 الثاني: أن يكون المراد منها هو الحكم بالطهارة الظاهرية للشيء المشكوك كما عليه المشهور، بأن يكون العلم قيداً للموضوع دون المحمول، فيكون المعنى أن كل شيء لم تعلم نجاسته طاهر.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3: 467 / أبواب النجاسات ب 37 ح 4.

(2) الوسائل 1: 134 / أبواب الماء المطلق ب 1 ح 5 وفيه «حتى يعلم أ نّه قذر».

(3) البقرة 2: 187.

ــ[83]ــ

 الثالث: أن يكون المراد بها قاعدة الاستصحاب، بأن يكون المعنى أنّ كل شيء طهارته مستمرة إلى زمان العلم بالنجاسة، أي كل شيء ثبتت طهارته الواقعية أو الظاهرية فطهارته مستمرة إلى زمان العلم بالنجاسة.

 الرابع: أن يكون المراد بها الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية، بأن يكون المعنى أنّ كل شيء معلوم العنوان أو مشكوكه طاهر بالطهارة الواقعية في الأوّل، وبالطهارة الظاهرية في الثاني إلى زمان العلم بالنجاسة.

الخامس: أن يكون المراد منها الطهارة الظاهرية والاستصحاب، كما عليه صاحب الفصول(1)، بأن يكون المعنى أن كل شيء مشكوك العنوان طاهر ظاهراً وطهارته مستمرة إلى زمان العلم بالنجاسة، فيكون المغيّى وهو قوله (عليه السلام): «طاهر» إشارة إلى الطهارة الظاهرية، والغاية إشارة إلى استصحاب تلك الطهارة إلى زمان العلم بالنجاسة.

 السادس: أن يكون المراد بها الطهارة الواقعية والاستصحاب كما في الكفاية(2)، بأن يكون المغيّى إشارة إلى الطهارة الواقعية، وأنّ كل شيء بعنوانه الأوّلي طاهر وقوله (عليه السلام): «حتى تعلم» إشارة إلى استمرار الحكم إلى زمان العلم بالنجاسة.

  السابع: أن يكون المراد منها الطهارة الواقعية والظاهرية والاستصحاب، كما اختاره صاحب الكفاية في هامش الرسائل(3)، ويجري جميع ما ذكرنا من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الفصول الغروية: 373.

(2) كفاية الاُصول: 398.

(3) دُرر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 312.

ــ[84]ــ

الصور والاحتمالات في قوله (عليه السلام): «كل شيء حلال حتى تعرف أ نّه حرام» ويقع الكلام أوّلاً في صحة هذا الوجه الأخير وعدمها.

 وملخّص ما ذكر في وجهه: أنّ كلمة «كل شيء» شاملة لما هو معلوم العنوان كالحجر والماء مثلاً ولما هو مشكوك العنوان كالمائع المردد بين الماء والبول مثلاً، فحكم الإمام (عليه السلام) بالطهارة في الجميع، فلا محالة تكون الطهارة بالنسبة إلى الأوّل واقعية، وبالنسبة إلى الثاني ظاهرية، ويكون قوله (عليه السلام): «حتى تعلم» إشارة إلى استمرار الطهارة إلى زمان العلم بالنجاسة.

 وأورد عليه المحقق النائيني(1) باشكالات:

 الأوّل: أنّ الحكم الواقعي والظاهري لا يمكن اجتماعهما في جعل واحد، لأنّ الحكم الظاهري متأخر عن الحكم الواقعي بمرتبتين، لأن موضوع الحكم الظاهري هو الشك في الحكم الواقعي، والشك في الحكم الواقعي متأخر عن الحكم الواقعي، كما أنّ موضوع الحكم الظاهري متأخر عن موضوع الحكم الواقعي بمرتبتين، فانّ موضوع الحكم الظاهري هو الشك في الحكم الواقعي، والشك في الحكم الواقعي متأخر عن الحكم الواقعي، وهو متأخر عن موضوعه الواقعي، وبعد كون الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي لا يمكن تحققهما بجعل واحد، وإلاّ يلزم كون المتأخر عن الشيء بمرتبتين معه في رتبته، وهو خلف.

 وهذا الاشكال لا دافع له على مسلك صاحب الكفاية والمحقق النائيني (قدس سرهما) ومن وافقهما في أنّ الانشـاء إيجاد المعنى باللفظ، فانّه لا يمكن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 4: 59 ـ 61، فوائد الاُصول 4: 367.

ــ[85]ــ

إيجاد شيئين يكون أحدهما في طول الآخر بجعل واحد وإنشاء فارد. وأمّا على ما سلكناه من أنّ الانشاء ليس بمعنى إيجاد المعنى باللفظ، إذ ليس اللفظ إلاّ وجوداً لنفسه والمعنى اعتبار نفساني لا يكون اللفظ موجداً له بل هو مبرز له ولا فرق بين الخبر والانشاء من هذه الجهة، فكما أنّ الخبر مبرز لأمر نفساني فكذا الانشاء، إنّما الفرق بينهما في المبرز ـ بالفتح ـ فانّ المبرز في الانشاء مجرد اعتبار نفساني، وليس وراءه شيء ليتصف بالصدق والكذب، وهذا بخلاف الجملة الخبرية، فانّ المبرز بها هو قصد الحكاية عن شيء في الخارج، فهنا شيء وراء القصد وهو المحكي عنه، وباعتباره يكون الخبر محتملاً للصدق والكذب. وقد ذكرنا تفصيل ذلك في مقام الفرق بين الخبر والانشاء(1)، فلا مانع من أن يبرز حكمين يكون أحدهما في طول الآخر بلفظ واحد، بأن يعتبر أوّلاً الحكم الواقعي لموضـوعه، ثمّ يفرض الشك فيه فيعتبر الحكم الظاهري، وبعد هذين الاعتبارين يبرز كليهما بلفظ واحد، ولا يلزم منه محذور.

 الاشكال الثاني: أ نّه لا يمكن إرادة الحكم الواقعي والظاهري معاً، نظراً إلى الغاية وهي قوله (عليه السلام): «حتى تعلم أ نّه قذر» لأ نّه إن كان المراد هو الحكم الواقعي، يكون العلم المأخوذ في الغاية طريقياً كما ذكرناه في أوّل الاحتمالات، فانّ الحكم الواقعي لا يرفع بالعلم، ولا فرق فيه بين العالم والجاهل كما عليه أهل الحق خلافاً لأهل التصويب، ولا يرتفع الحكم الواقعي في غير موارد النسخ إلاّ بتبدل موضوعه بأن يلاقي الجسم الطاهر نجساً، أو يرتدّ مسلم نعوذ بالله، أو يصير ماء العنب خمراً مثلاً، وإن كان المراد هو الحكم الظاهري يكون العلم المأخوذ في الغاية قيداً للموضوع وغاية له، لأنّ موضوع الحكم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 92.

ــ[86]ــ

الظاهري هو الشك وغايته العلم، إذ الشك يرتفع بالعلم، فيكون العلم ملحوظاً بنحو الاستقلال والموضوعية، ولا يمكن اجتماع الطريقية والموضوعية في العلم، لأن معنى الموضوعية ارتفاع الحكم بالعلم، ومعنى الطريقية عدم ارتفاعه به، فيكون الجمع بينهما كالجمع بين المتناقضين.

 وهذا الاشكال مندفع بما ذكرناه في تقريب هذا الوجه من أنّ العلم ليس غايةً للحكم الواقعي ولا للحكم الظاهري، بل غاية للحكم بالبقاء والاستمرار، فيكون دالاً على استصحاب الحكم السابق سواء كان واقعياً أو ظاهرياً، فبقوله (عليه السلام): «كل شيء نظيف» تمّت إفادة الحكم الواقعي والظاهري لشمول الشيء للشيء المعلوم والشيء المجهول على ما ذكرنا، ويكون قوله (عليه السلام): «حتى تعلم» إشارة إلى الحكم ببقاء الحكم الثابت سابقاً واستمراره إلى زمان العلم بالنجاسة، فيكون العلم موضوعياً وقيداً للاستصحاب، لأ نّه بالعلم يرتفع الشك، وبارتفاعه لم يبق موضوع للاستصحاب كما هو ظاهر.

 الاشكال الثالث: أ نّه لا يمكن اجتماع الحكم الواقعي والظاهري في نفسه مع قطع النظر عن الغايـة، وذلك لأ نّه إذا استند الحكم إلى العام الشامل للخصوصيات الصنفية والخصوصيات الفردية، فلا محالة يكون الحكم مستنداً إلى الجامع بين الخصوصيات لا إلى الأفراد بخصوصياتها، فانّه إذا قيل أكرم كل إنسان، فهذا الحكم وإن كان شاملاً لجميع أصناف الانسان وأفراده، إلاّ أ نّه مستند إلى الجامع لا إلى الخصوصيات الصنفية أو الفردية، فانّه يقال: هذا يجب إكرامه لأ نّه إنسان لا لأ نّه عربي أو لأ نّه زيد مثلاً، فلا دخل للخصوصيات في الحكم، فقوله (عليه السلام): «كل شيء نظيف» وإن كان شاملاً للشيء المشكوك، إلاّ أ نّه بعنوان أ نّه شيء لا بعنوان أ نّه مشكوك، إذ كونه مشكوكاً

ــ[87]ــ

من الخصوصيات الصنفية، وقد ذكرنا عدم دخلها في الحكم المستند إلى العام، فلا يكون هناك حكم ظاهـري، لأن موضـوعه الشيء بما هو مشكوك فيه، فلا يكون في المقام إلاّ الحكم الواقعي الوارد على جميع الأشياء المعلومة أو المشكوك فيها.

 بل يمكن أن يقال: إنّ الحكم المذكور في قوله (عليه السلام): «كل شيء نظيف» لايكون شاملاً للشيء المشكوك فيه أصلاً، لأن عموم قوله (عليه السلام): «كل شيء» قد خصص بمخصصات كثيرة دالة على نجاسة بعض الأشياء كالكلب والكافر والبول وسائر النجاسات، والمائع المردد بين الماء والبول مثلاً لا يمكن التمسك لطهارته بعموم قوله (عليه السلام): «كل شيء نظيف» لكونه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فالشيء المشكوك فيه لا يكون داخلاً في عموم قوله (عليه السلام): «كل شيء نظيف» لا من حيث الحكم الظاهري، لأنّ الموضوع هو الشيء لا المشكوك فيه، ولا من حيث الحكم الواقعي، لكونه مشكوكاً بالشبهة المصداقية.

 وهذا الاشكال متين جداً ولا دافع له، وظهر منه عدم صحة الاحتمال الرابع، وهو أن يكون المراد الطهارة الواقعية للأشياء بعناوينها الأوّلية، والطهارة الظاهرية للأشياء المشكوك فيها، لعدم إمكان الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري على ما تقدّم.

 وأمّا الاحتمال السادس الذي اختاره في الكفاية، وهو أن يكون المراد الطهارة الواقعية والاستصحاب على ما تقدّم بيانه وأيّده بقوله (عليه السلام) في موثقة عمار: «فاذا علمت فقد قذر» بدعوى ظهوره في أ نّه متفرّع على الغاية وحدها، فيكون بياناً لمفهومها وأنّ الحكم باستمرار الطهارة ينتفي بعد العلم

ــ[88]ــ

بالنجاسة(1)، ففيه: أ نّه لا يمكن الجمع بين الطهارة الواقعية والاستصحاب في الاستفادة من الأخبار المذكورة، لأن قوله (عليه السلام): «حتى تعلم» إمّا أن يكون قيداً للموضوع أو للمحمول، ولا تستفاد الطهارة الواقعية والاستصحاب على كلا الوجهين.

 أمّا إن كان قيداً للموضوع كما في قوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ا لْمَرَافِقِ...)(2) فانّ الغاية قيد للموضوع وهو اليد وتحديد للمغسول، لأنّ اليد قد تطلق على جميع العضو إلى المنكب، وقد تطلق عليه إلى المرفق، وقد تطلق على الزند كما في آية التيمم(3)، وقد تطلق على الأصابع كما في آية السرقة(4)، فقيدها في هذه الآية الشريفة لتعيين المراد من اليد، فالغاية تحديد للموضوع لا غاية للغسل. فيكون المراد من قوله (عليه السلام): «كل شيء نظيف حتى تعلم أ نّه نجس» أنّ كل شيء لم تعلم نجاسته فهو طاهر، فيكون المراد قاعدة الطهارة الظاهرية للأشياء المشكوك فيها، فانّ الشيء الذي لم تعلم نجاسته عبارة اُخرى عن الشيء المشكوك فيه.

 وكذلك إن كان قيداً للمحمول، لأنّ المراد حينئذ أنّ الأشياء طاهرة ما لم تعلم نجاستها ـ أي ما دام مشكوكاً فيها ـ فيكون مفاد الرواية هو الحكم بالطهارة الظاهرية للأشياء المشكوك فيها على التقديرين، ولا ربط لها بالطهارة الواقعية ولا الاستصحاب. نعم، لو كان في الكلام تقدير وكان قوله (عليه السلام):

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 399.

(2) المائدة 5: 6.

(3) النساء 4: 43، المائدة 5: 6.

(4) المائدة 5: 38.

ــ[89]ــ

«حتى تعلم» متعلقاً به وقيداً له، وكان التقدير هكذا: كل شيء طاهر وطهارته مستمرة حتى تعلم أ نّه نجس، كان الكلام دالاً على الطهارة الواقعية والاستصحاب، ولكنّ التقدير خلاف الأصل ولا موجب للالتزام به.

 وظهر بما ذكرناه من بطلان الجمع بين الطهارة الواقعية والاستصحاب بطلان الاحتمال الأوّل، وهو أن يكـون المراد الطهارة الواقعـية فقط فلا حاجة إلى التعرض له.

 وأمّا الاحتمال الخامس الذي ذكره صاحب الفصول من الجمع بين الطهارة الظاهرية والاستصحاب بالبيان المتقدم، ففيه: أنّ الحكم بالطهارة الظاهرية للشيء المشكوك فيه باق ببقاء موضوعه وهو الشك، بلا احتياج إلى الاستصحاب، فانّ المستفاد من الأخبار هو جعل الحكم المستمر ـ أي الطهارة الظاهرية للشيء المشكوك فيه ما دام مشكوكاً فيه ـ لا استمرار الحكم المجعول، إذ ليس الحكم بالطهارة في الخبر بملاحظة الطهارة السابقة وبعناية الطهارة الثابتة حتى يكون استصحاباً، فليس مفاد الخبر إلاّ الطهارة الظاهرية المجعولة بلحاظ الشك.

 وظهر بطلان الاحتمال الثالث أيضاً، وهو أن يكون المراد الاستصحاب فقط. فتحصل أنّ الأخبار المذكورة متمحضة لقاعدة الطهارة الظاهرية للأشياء المشكوك فيها.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net