2 ـ اعتبار اليقين والشك الفعليين في الاستصحاب 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4925


ــ[109]ــ
 

التنبيه الثاني

 لا ينبغي الاشكال في أن مقتضى أدلة الاستصحاب هو اعتبار اليقين والشك الفعلي، فانّ الأدلة المتكفلة لبيان الأحكام الواقعية أو الظاهرية واردة بنحو القضية الحقيقية التي يحكم فيها على تقدير وجود الموضوع، فلو دل دليل على أنّ الخمر حرام، مفاده أنّ الحرمة ثابتة للخمر الفعلي، ولا يدل على حرمة شيء لا يكون خمراً بالفعل وإن كان إذا غلا يكون خمراً.

 وكذا لو دل دليل على وجوب تقليد العالم مثلاً، فمعناه وجوب تقليد العالم بالفعل لا تقليد من يكون له استعداد العلم بحيث لو تعلّم يصير عالماً كما هو واضح، فلا بدّ في جريان الاستصحاب من اليقين والشك الفعلي، إذ لو اُجري الاستصحاب مع الشك التقديري لكان جارياً مع عدم الشك، وهو خلف، لكون موضوعه اليقين والشك.

 وفرّع الشيخ(1) (قدس سره) على اعتبار اليقين والشك الفعلي في جريان الاستصحاب فرعين، وتبعه صاحب الكفاية (قدس سره)(2).

 الفرع الأوّل: أ نّه لو كان أحد محدثاً فغفل وصلّى ثمّ شك في أ نّه تطهّر قبل الصلاة أم لا، فيجري استصحاب الحدث بالنسبة إلى الأعمال الآتية، وأمّا بالنسبة إلى الصلاة التي أتى بها فلا يجري استصحاب الحدث، لأ نّه كان غافلاً قبل الصلاة ولم يكن له الشك الفعلي حتى تكون صلاته واقعة مع الحدث

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 547 و 548.

(2) كفاية الاُصول: 404.

ــ[110]ــ

الاستصحابي، وبعد الصلاة وإن كان الشك موجوداً، إلاّ أنّ قاعدة الفراغ حاكمة على الاستصحاب أو مخصصة له، على ما يأتي في أواخر التنبيهات(1) إن شاء الله تعالى، فيحكم بعدم وجوب الاعادة عليه.

 الفرع الثاني: أ نّه لو التفت قبل الصلاة ثمّ غفل وصلى، فتكون صلاته باطلة، لتحقق الشك الفعلي قبل الصلاة، فقد وقعت مع الحدث الاستصحابي.

 وفي كلا الفرعين نظر:

 أمّا الفرع الأوّل: فلأنّ قاعدة الفراغ لا تخلو من أمرين: فامّا أن تكون من الاُصول التعبدية الشرعية، وإمّا أن تكون من الأمارات العقلائية كما هو الظاهر، لأن ترك الجزء أو الشرط عمداً لا يتصور بالنسبة إلى من هو في مقام الامتثال، فان تُركا لا يستند تركهما إلاّ إلى الغفلة والنسيان، وهو خلاف الأصل، فان مقتضى طبيعة الانسان هو الذكر في حال العمل، لا السهو والنسيان كما في الاُمور العادية، فالفراغ عن العمل أمارة كاشفة نوعاً عن عدم وقوع الغفلة والسهو.

 ويؤيد هذا المعنى: قوله (عليه السلام): «هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك»(2) وكذا قوله (عليه السلام): في صحيحة محمّد بن مسلم الواردة في الشك في عدد ركعات الصلاة بعد الفراغ: «وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك»(3).

 فعلى القول بكون قاعدة الفراغ أمارة نوعية على عدم وقوع الغفلة والسهو،

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 315 ـ 318.

(2) الوسائل 1: 471 / أبواب الوضوء ب 42 ح 7.

(3) الوسائل 8: 246 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 27 ح 3.

ــ[111]ــ

لا مجال للأخذ بها مع العلم بالغفلة كما هو المفروض في المقام، فعدم جريان الاستصحاب في حال الغفلة مسلّم، لعدم الشك الفعلي، إلاّ أ نّه لا مانع من جريانه بعد الصلاة حتى بالنسبة إلى الصلاة التي أتى بها، لاختصاص قاعدة الفراغ بصورة عدم العلم بالغفلة، فلا تجري في المقام حتى تكون حاكمةً على الاستصحاب أو مخصصة له.

 ولما ذكرنا من اختصاص قاعدة الفراغ بموارد عدم العلم بالغفلة، لا تجري فيما لو شك في صحة العمل بعد الفراغ عنه مع العلم بكيفية وقوع العمل والشك في انطباقه على الواقع، كما إذا شك بعد الوضوء في أ نّه توضأ بالماء أو بمائع آخر مع علمه بأ نّه توضأ بهذا المائع الموجود، لكنّه لا يدري أ نّه ماء أو مائع آخر، فلا مجال للحكم بصحة الوضوء لقاعدة الفراغ، لعدم كون احتمال البطلان مستنداً إلى الغفلة بل إلى عدم المصادفة الاتفاقية للواقع.

 وأمّا على القول بكون قاعدة الفراغ من الاُصول التعبدية الشرعية وعدم اختصاصها بموارد احتمال الغفلة لاطلاق بعض النصوص الدالة على أنّ «ما مضى فأمضه كما هو»(1) فتكون قاعدة الفراغ حاكمةً على الاستصحاب ولو قلنا بعدم اعتبار الشك الفعلي في الاستصحاب، إذ لا اختصاص لحكومة القاعدة على الاستصحاب الجاري بعد الصلاة، بل تكون حاكمةً على الاستصحاب الجاري قبلها أيضاً.

 وأمّا الفرع الثاني: ففيه أنّ بطلان الصلاة في الفرض مسلّم، إلاّ أ نّه ليس مستنداً إلى جريان الاستصحاب قبل الصلاة، بل إلى عدم جريان قاعدة الفراغ في نفسها، لاختصاصها بما إذا حدث الشك بعد الفراغ، وهذا الشك

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 8: 237 و 238 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 23 ح 3.

ــ[112]ــ

الموجود بعد الفراغ كان قبل الصلاة، فانّ هذا الشك متحد عرفاً مع الشك الذي كان قبل الصلاة، وإن كان غيره بالدقة العقلية، ومع قطع النظر عما ذكرناه فالاستصحاب الجاري قبل الصلاة لايقتضي البطلان، لأ نّه بعد الالتفات وتحقق الشك عرضت له الغفلة ثانياً على الفرض، وبمجرد عروض الغفلة لا يجري الاستصحاب، لأ نّه كما يعتبر في الاستصحاب اليقين والشك حدوثاً، كذا يعتبران بقاءً، فما دام شاكاً يكون محدثاً بالحدث الاستصحابي، وبمجرد طروء الغفلة يسقط الاستصحاب، فلا يكون محدثاً بالحدث الاستصحابي، والمفروض أ نّه بعد الشك غفل ودخل في الصلاة.

 فظهر بما ذكرناه ما في الكفاية من تعليل البطلان بأ نّه دخل في الصلاة محدثاً بالحدث الاستصحابي، فانّه لا استصحاب حين الدخول في الصلاة لغفلته، فينتفي الاستصحاب بانتفاء موضوعه وهو الشك الفعلي.

 نعم، لو عرض له شك آخر بعد الصلاة يمكن القول بصحة صلاته لقاعدة الفراغ، كما لو شك في المثال المذكور بعد الصلاة في أ نّه هل تطهر بعد الشك في الطهارة قبل الصلاة أم لا، بأن كان محدثاً والتفت فشك في الطهارة قبل الصلاة، ثمّ غفل وصلّى، وبعد الفراغ شك في أ نّه هل تطهر بعد الشك في الطهارة قبل الصلاة أم لا، فيحكم بصحة صلاته لقاعدة الفراغ، لكون الشك الحادث بعد الصلاة غير الشك قبلها، فيكون هذا الشك الحادث بعد الفراغ مورداً لقاعدة الفراغ، ولا يكون الحدث الاستصحابي قبل الصلاة أولى من الحدث اليقيني قبلها، فلو كان محدثاً قبل الصلاة يقيناً فغفل وصلى وشك بعد الصلاة في أ نّه توضأ بعد الحدث المتيقن أم لا، يحكم بصحة صلاته لقاعدة الفراغ، والحكم بصحة الصلاة في المقام أولى، لعدم كونه متيقناً بالحدث، بل محكوم به للاستصحاب قبل الصلاة.

ــ[113]ــ

 فتحصّل مما ذكرناه: أنّ اعتبار اليقين والشك الفعلي وإن كان مسلّماً، إلاّ أ نّه لا يتفرّع عليه الفرعان المذكوران، بل الحكم بالصحة أو البطلان في المثالين تابع لجريان قاعدة الفراغ وعدمه.

 ففي الفرع الأوّل لو قلنا بكون القاعدة من الأمارات وعدم جريانها في المقام لاختصاصها بموارد احتمال الغفلة يحكـم ببطـلان الصلاة ولو لم نقل بجريان استصحاب الحدث قبل الصلاة لعدم الشك الفعلي، فانّ استصحاب الحدث الجاري بعد الصلاة كاف في الحكم ببطلانها. ولو قلنا بجريان قاعدة الفراغ يحكم بصحة الصلاة ولو قلنا بجريان استصحاب الحدث قبل الصلاة، لعدم اعتبار الشك الفعلي، لكونه محكوماً بالقاعدة.

 وفي الفرع الثاني إن كانت قاعدة الفراغ جاريةً، كما إذا كان الشك الحادث بعد الفراغ غير الشك الذي كان قبل الصلاة، كانت الصلاة صحيحةً حتى مع جريان استصحاب الحدث قبل الصلاة. ولو لم تكن القاعدة جاريةً، كما إذا كان الشك الحادث بعد الصلاة هو الشك الذي كان قبلها، كانت الصلاة باطلةً ولو لم يكن الاستصحاب قبل الصلاة جارياً لاعتبار الشك حدوثاً وبقاءً، فالحكم بالصحة دائر مدار جريان قاعدة الفراغ في كلا الفرعين.
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net