8 ـ الأصل المثبت \ الفرق بين الأصل والأمارة 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 11756


ــ[181]ــ
 

التنبيه الثامن

 في البحث عن الأصل المثبت، وأ نّه هل تترتب بالاستصحاب الآثار الشرعية المترتبة على اللوازم العقلية أو العادية للمتيقن؟ ولا يخفى أنّ مورد البحث ما إذا كانت الملازمة بين المستصحب ولوازمه في البقاء فقط، لأ نّه لو كانت الملازمة بينهما حدوثاً وبقاءً، كان اللازم بنفسه متعلق اليقين والشك، فيجري الاستصحاب في نفسه بلا احتياج إلى الالتزام بالأصل المثبت.

 وأمّا إذا كانت الملازمة في البقاء فقط، فاللازم بنفسه لا يكون مجرىً للاستصحاب، لعدم كونه متيقناً سابقاً، فهذا هو محل الكلام في اعتبار الأصل المثبت وعدمه، وذلك كما إذا شككنا في وجود الحاجب وعدمه عند الغسل، فبناءً على الأصل المثبت يجري استصحاب عدم وجود الحاجب، ويترتب عليه وصول الماء إلى البشرة، فيحكم بصحة الغسل مع أنّ وصول الماء إلى البشرة لم يكن متيقناً سابقاً، وبناءً على عدم القول به، لا بدّ من إثبات وصول الماء إلى البشرة من طريق آخر غير الاستصحاب، وإلاّ لم يحكم بصحة الغسل. وحيث إنّ المشهور حجية مثبتات الأمارات دون مثبتات الاُصول، فلا بدّ من بيان الفرق بين الأصل والامارة، ثمّ بيان وجه حجية مثبتات الأمارة دون الأصل، فنقول:

 المشهور بينهم أنّ الفرق بين الاُصول والأمارات أنّ الجهل بالواقع والشك فيه مأخوذ في موضوع الاُصول دون الأمارات، بل الموضوع المأخوذ في لسان أدلة حجيتها هو نفس الذات بلا تقييد بالجهل والشك، كما في قوله تعالى: (إِن

ــ[182]ــ

 

جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا...)(1) فانّ الموضوع للحجية بمفاد المفهوم هو إتيان غير الفاسق بالنبأ من دون اعتبار الجهل فيه، وكذا قوله(عليه السلام): «لا عذر لأحد في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا»(2) فان موضوع الحجية فيه هو رواية الثقة بلا تقييد بأمر آخر، هذا هو المشهور بينهم.

 وللمناقشة فيه مجال واسع، لأنّ الأدلة الدالة على حجية الأمارات وإن كانت مطلقةً بحسب اللفظ، إلاّ أ نّها مقيدة بالجهل بالواقع بحسب اللب، وذلك لما ذكرناه غير مرة(3) من أنّ الاهمال بحسب مقام الثبوت غير معقول، فلا محالة تكون حجية الأمارات إمّا مطلقة بالنسبة إلى العالم والجاهل، أو مقيدة بالعالم، أو مختصة بالجاهل. ولا مجال للالتزام بالأوّل والثاني، فانّه لا يعقل كون العمل بالأمارة واجباً على العالم بالواقع، وكيف يعقل أن يجب على العالم بوجوب شيء أن يعمل بالأمارة الدالة على عدم الوجوب مثلاً، فبقي الوجه الأخير، وهو كون العمل بالأمارة مختصاً بالجاهل، وهو المطلوب.

 فدليل الحجية في مقام الاثبات وإن لم يكن مقيداً بالجهل، إلاّ أنّ الحجية مقيدة به بحسب اللب ومقام الثبوت، مضافاً إلى أ نّه في مقام الاثبات أيضاً مقيد به في لسان بعض الأدلة كقوله تعالى: (فَاسْـأَ لُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)(4) فقد استدل به على حجية الخبر تارةً، وعلى حجية فتوى المفتي اُخرى، وكلاهما من الأمارات وقيّد بعدم العلم بالواقع. فلا فرق بين الأمارات

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الحجرات 49: 6.

(2) الوسائل 27: 149 و 150 / أبواب صفات القاضي ب 11 ح 40 (باختلاف يسير).

(3) راجع على سبيل المثال محاضرات في اُصول الفقه 1: 534.

(4) النحل 16: 43 والأنبياء 21: 7.

ــ[183]ــ

والاُصول من هذه الجهة. فما ذكروه ـ من أنّ الجهل بالواقع مورد للعمل بالأمارة وموضوع للعمل بالأصل ـ مما لا أساس له.

 وذكر صاحب الكفاية (قدس سره)(1) وجهاً آخر: وهو أنّ الأدلة الدالة على اعتبار الأمارات تدل على حجيتها بالنسبة إلى مدلولها المطابقي ومدلولها الالتزامي، فلا قصور من ناحية المقتضي في باب الأمارات، بخلاف الاستصحاب فانّ مورد التعبد فيه هو المتيقن الذي شك في بقائه، وليس هذا إلاّ الملزوم دون لازمه، فلا يشمله دليل الاستصحاب، فاذا قُدّ رجل تحت اللحاف نصفين ولم يعلم أ نّه كان حياً، فباستصحاب الحياة لا يمكن إثبات القتل، لأن مورد التعبد الاستصحابي هو المتيقن الذي شك في بقائه وهو الحياة دون القتل. وكذا غيره من الأمثلة التي ذكرها الشيخ(2) (قدس سره).

 ولا يمكن الالتزام بترتب الآثار الشرعية المترتبة على اللوازم العقلية أو العادية، لأجل القاعـدة المعروفة، وهي أنّ أثر الأثر أثر على طريقـة قياس المساواة، لأن هذه الكلية مسلّمة فيما كانت الآثار الطولية من سنخ واحد، بأن كان كلّها آثاراً عقلية، أو آثاراً شرعية، كما في الحكم بنجاسة الملاقي للنجس ونجاسة ملاقي الملاقي وهكذا، فحيث إنّ لازم نجاسة الشيء نجاسة ملاقيه ولازم نجاسة الملاقي نجاسة ملاقي الملاقي وهكذا، فكل هذه اللوازم الطولية شرعية، فتجري قاعدة أنّ أثر الأثر أثر، بخلاف المقام فانّ الأثر الشرعي لشيء لا يكون أثراً شرعياً لما يستلزمه عقلاً أو عادةً، فلا يشمله دليل حجية الاستصحاب.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 414 ـ 416 / التنبيه السابع من تنبيهات الاستصحاب.

(2) فرائد الاُصول 2: 660 و 664.

ــ[184]ــ

 وفيه: أنّ عدم دلالة أدلة الاستصحاب على التعبد بالآثار الشرعية المترتبة على اللوازم العقلية أو العادية وإن كان مسلّماً، إلاّ أنّ دلالة أدلة حجية الخبر على حجيته حتى بالنسبة إلى اللازم غير مسلّم، لأنّ الأدلة تدل على حجية الخبر ـ والخبر والحكاية من العناوين القصدية ـ فلا يكون الاخبار عن الشيء إخباراً عن لازمه، إلاّ إذا كان اللازم لازماً بالمعنى الأخص، وهو الذي لا ينفك تصوّره عن تصور الملزوم، أو كان لازماً بالمعنى الأعم مع كون المخبر ملتفتاً إلى الملازمة، فحينئذ يكون الاخبار عن الشيء إخباراً عن لازمه.

 بخلاف ما إذا كان اللازم لازماً بالمعنى الأعم ولم يكن المخبر ملتفتاً إلى الملازمة، أو كان منكراً لها، فلا يكون الاخبار عن الشيء إخباراً عن لازمه، فلا يكون الخبر حجةً في مثل هذا اللازم، لعدم كونه خبراً بالنسبة إليه، فاذا أخبر أحد عن ملاقاة يد زيد للماء القليل مثلاً، مع كون زيد كافراً في الواقع، ولكنّ المخبر عن الملاقاة منكر لكفره، فهو مخبر عن الملزوم وهو الملاقاة، ولا يكون مخبراً عن اللازم وهو نجاسة الماء، لما ذكرناه من أنّ الاخبار من العناوين القصدية، فلا يصدق إلاّ مع الالتفات والقصد، ولذا ذكرنا في محلّه(1) وفاقاً للفقهاء أنّ الاخبار عن شيء يستلزم تكذيب النبي أو الإمام (عليهم السلام) لا يكون كفراً إلاّ مع التفات المخبر بالملازمة.

 وبالجملة: إنّ ما أفاده (قدس سره) في وجه عدم حجية المثبـت في باب الاستصحاب متين، إلاّ أنّ ما ذكره في وجه حجيته في باب الأمارات من أنّ الاخبار عن الملزوم إخبار عن لازمه فتشمله أدلة حجية الخبر غير سديد، لما عرفت.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) شرح العروة 3: 53.

ــ[185]ــ

 وذكر المحقق النائيني(1) (قدس سره) وجهاً ثالثاً: وهو أنّ المجعول في باب الأمارات هي الطريقية واعتبارها علماً بالتعبد، كما يظهر ذلك من الأخبار المعبّرة عمّن قامت عنده الأمارة بالعارف كقوله (عليه السلام): «من نظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا... »(2) فيكون مَن قامت عنده الأمارة عارفاً تعبدياً بالأحكام، فكما أنّ العلم الوجداني بالشيء يقتضي ترتب آثاره وآثار لوازمه، فكذلك العلم التعبدي الجعلي، بخلاف الاستصحاب، فانّ المجعول فيه هو الجري العملي على طبق اليقين السابق، وحيث إنّ اللازم لم يكن متيقناً، فلا وجه للتعبد به، فالفرق بين الأمارة والأصل من ناحية المجعول.

 وفيه أوّلاً: عدم صحة المبنى، فانّ المجعول في باب الاستصحاب أيضاً هو الطريقية واعتبار غير العالم عالماً بالتعبد، فانّه الظاهر من الأمر بابقاء اليقين وعدم نقضه بالشك، فلا فرق بين الأمارة والاستصحاب من هذه الجهة، بل التحقيق أنّ الاستصحاب أيضاً من الأمارات، ولا ينافي ذلك تقديم الأمارات عليه، لأن كونه من الأمارات لا يقتضي كونه في عرض سائر الأمارات، فانّ الأمارات الاُخر أيضاً بعضها مقدّم على بعض، فانّ البينة مقدّمة على اليد، وحكم الحاكم مقدّم على البينة، والاقرار مقدّم على حكم الحاكم. وسيأتي(3) وجه تقديم الأمارات على الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

 وثانياً: أ نّا ننقل الكلام إلى الأمارات، فانّه لا دليل على حجية مثبتاتها. وما ذكره من أنّ العلم الوجداني بشيء يقتضي ترتب جميع الآثار حتى ما كان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 4: 130، فوائد الاُصول 4: 487 ـ 489.

(2) الوسائل 27: 136 / أبواب صفات القاضي ب 11 ح 1.

(3) في ص 293.

ــ[186]ــ

منها بتوسط اللوازم العقلية أو العادية، فكذا العلم التعبدي، غير تام لأنّ العلم الوجداني إنّما يقتضي ذلك، لأ نّه من العلم بالملزوم يتولد العلم باللازم بعد الالتفات إلى الملازمة، فترتب آثار اللازم ليس من جهة العلم بالملزوم، بل من جهة العلم بنفس اللازم المتولد من العلم بالملزوم، ولذا يقولون: إنّ العلم بالنتيجة يتولد من العلم بالصغرى والعلم بالكبرى، فانّ العلم بالصغرى هو العلم بالملزوم، والعلم بالكبرى هو العلم بالملازمة، فيتولد من هذين العلمين العلم الوجداني باللازم وهو العلم بالنتيجة، بخلاف العلم التعبدي المجعول، فانّه لا يتولد منه العلم الوجداني باللازم وهو واضح، ولا العلم التعبدي به لأنّ العلم التعبدي تابع لدليل التعبد، وهو مختص بالملزوم دون لازمه لما عرفت من أنّ المخبر إنّما أخبر عنه لا عن لازمه.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net