تقدّم التخصيص على النسخ - الصحيح في وجه تقدّم التخصيص على النسخ 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4801


 ومنها: دوران الأمر بين النسخ والتخصيص، فقالوا بتقديم التخصيص على النسخ. ثمّ إن دوران الأمر بين النسخ والتخصيص تارةً يكون بالنسبة إلى دليل واحد، فيدور الأمر بين كونه ناسخاً أو مخصصاً، كما إذا ورد الخاص بعد العام فيدور الأمر بين كون الخاص ناسخاً للعام بأن يكون حكم العام شاملاً لجميع الأفراد من أوّل الأمر، لكنّه نسخ بالنسبة إلى بعض الأفراد بعد ورود الخاص، وبين كونه مخصصاً له بأن يكون حكم العام مختصاً بغير أفراد الخاص من أوّل الأمر. واُخرى يكون بالنسبة إلى دليلين، أي يدور الأمر بين كون دليل مخصصاً لدليل آخر وبين كون الدليل الآخر ناسخاً له، كما إذا ورد العام بعد الخاص فيدور الأمر بين كون الخاص مخصصاً للعام وكون العام ناسخاً للخاص.

ــ[459]ــ

 أمّا الصورة الاُولى: فليس البحث عنها مثمراً بالنسبة إلينا، فانّ العمل بالخاص متعيّن، سواء كان مخصصاً أو ناسخاً، فاذا ورد عن الباقر (عليه السلام) أنّ الله سبحانه خلق الماء طاهراً لم ينجسه شيء ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة(1)، ثمّ ورد عن الصادق (عليه السلام) أنّ الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شيء(2)، المستفاد منه انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة، لا يجوز لنا الوضوء بالماء القليل الملاقي للنجاسة، وإن لم نعلم كونه ناسخاً أو مخصصاً لما صدر عن الباقر (عليه السلام) نعم من عمل بالعام وتوضأ بالماء القليل الملاقي للنجاسة، وبقي إلى زمان ورود الخاص، يثمر هذا البحث بالنسبة إليه، فانّه على القول بكون الخاص ناسخاً تصح أعماله السابقة، وعلى القول بكونه مخصصاً ينكشف بطلانها، لوقوع وضوئه بالماء النجس.

 وبالجملة: لا تترتب ثمرة عملية على هذا البحث بالنسبة إلينا فينبغي الاضراب عنه.

 وأمّا الصورة الثانية: فتترتب عليها الثمرة بالنسبة إلينا، إذ لو ورد العام المذكور في المثال بعد الخاص، لا يجوز لنا التوضي بالماء القليل الملاقي للنجاسة على القول بكون الخاص مخصصاً للعام، ويجوز التوضي به على القول بكون العام ناسخاً للخاص، وكذا ترتيب سائر آثار الطهارة. وتوهم عدم إمكان النسخ بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) لانقطاع الوحي، مدفوع بما ذكرناه في محله: من أنّ النسخ في الحكم الشرعي هو بيان أمد الحكم(3)، وهو ممكن بعد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1: 135 / أبواب الماء المطلق ب 1 ح 9.

(2) الوسائل 1: 158 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 1 وغيره.

(3) راجع ص 177 من هذا الكتاب وراجع محاضرات في اُصول الفقه 4: 491.

ــ[460]ــ

انقطاع الوحي، بأن كان النبي (صلّى الله عليه وآله) أخبر الإمام (عليه السلام) بأنّ أمد الحكم الفلاني إلى زمان كذا، فيبيّنه الإمام (عليه السلام) ولا نعني بالنسخ في الأحكام الشرعية إلاّ هذا المعنى، ففي مثل ذلك يدور الأمر بين الأخذ بظاهر الخاص وهو استمرار الحكم الثابت به، فتكون النتيجة التخصيص، وبين الأخذ بظاهر العام وهو شمول الحكم لجميع الأفـراد، فتكون النتيجة النسخ. فذكروا في ذلك أنّ التخصيص مقدّم على النسخ لكثرته حتى قيل: ما من عام إلاّ وقد خص.

 واُورد عليه بأن كثرة التخصيص لا توجب إلاّ الظن به، ومجرد الظن لا يكفي ما لم تكن قرينة على التخصيص بحسب متفاهم العرف.

 ولذا غيّر صاحب الكفاية(1) اُسلوب الكلام، وقال: إنّ كثرة التخصيص توجب أقوائية ظهور الخاص من ظهور العام، فتقديم التخصيص على النسخ إنّما هو لأجل الأخذ بأقوى الظهورين، لا لمجرد الكثرة.

 وأورد عليه المحقق النائيني(2) (قدس سره) بأنّ الخاص في نفسه لا يدل على الاستمرار، إذ الدليل على ثبوت الحكم لا يكون متكفلاً لبيان استمراره، لأنّ الدليل على ثبوت حكم لا يدل على عدم نسخه واستمراره، ضرورة أن جعل الحكم ـ بأيّ كيفية كان ـ قابل للنسخ فيما بعد، فلا يمكن إثبات استمراره بالدليل الأوّل عند الشك في نسخه، بل لا بدّ من التمسك باستصحاب عدم النسخ، فيدور الأمر بين العمل بالاستصحاب والعمل بعموم العام، والمتعين

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 451.

(2) أجود التقريرات 4: 295 ـ 296، راجع أيضاً فوائد الاُصول 4: 739 ـ 740.

 
 

ــ[461]ــ

حينئذ هو العمل بالعام، لكونه دليلاً اجتهادياً، والاستصحاب أصلاً عملياً، فتكون النتيجة تقديم النسخ على التخصيص.

 والانصاف عدم ورود هذا الاشكال على صاحب الكفاية (قدس سره) لما ذكرناه في البحث عن استصحاب بقاء أحكام الشرائع السابقة(1) من أنّ النسخ الحقيقي في الأحكام الشرعية غير متصور، لاستلزامه البداء المستحيل في حقه تعالى، فالشك في النسخ راجع إلى الشك في تخصيص الحكم المجعول من جهة الزمان، فلا مانع من التمسك باطلاق دليله، بلا احتياج إلى الاستصحاب، إذ الدليل يثبت الحكم للطبيعة، فيشمل أفرادها العرضية والطولية، وليس استمرار الحكم إلاّ عبارة عن ثبوته للأفراد الطولية للطبيعة.

 نعم، يرد عليه إشكال آخر، وهو أن شمول الحكم للأفراد الطولية إنّما هو بالاطلاق المتوقف على جريان مقدمات الحكمة، وشمول العام لجميع الأفراد إنّما هو بالوضع، وقد تقدّم(2) أ نّه إذا دار الأمر بين العموم والاطلاق يقدّم العموم على الاطلاق، ولازمه في المقام تقديم النسخ على التخصيص.

 وذكر المحقق النائيني(3) (قدس سره) وجهاً آخر لتقديم التخصيص على النسخ، وهو أن دلالة ألفاظ العموم على شمول الحكم لجميع الأفراد متوقفة على جريان مقدمات الحكمة في مدخولها، والخاص مانع عنها لكونه بياناً. وهذا الكلام مأخوذ مما ذكره صاحب الكفاية في بحث العام والخاص(4) من أن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع ص 175.

(2) في ص 453.

(3) أجود التقريرات 4: 294، راجع أيضاً فوائد الاُصول 4: 738 و 740.

(4) كفاية الاُصول: 217.

ــ[462]ــ

لفظ كل في قولنا: أكرم كل عالم مثلاً، لا يدل على شمول الحكم لجميع أفراد العالم إلاّ بجريان مقدمات الحكمة في مدخوله، فانّ كلمة «كل» إنّما تفيد شمول الحكم لجميع أفراد ما اُريد من المدخول، فإن كان المراد منه في المثال خصوص العالم العادل، فلا يدل لفظ الكل إلاّ على شمول الحكم لجميع أفراد العالم العادل، وإن كان المراد منه هو العالم باطلاقه، فيدل لفظ «كل» على ثبوت الحكم لجميع أفراد العالم مطلقاً.

 ويرد عليه ما ذكرناه في ذلك البحث(1) من أن ألفاظ العموم بنفسها متكفلة لبيان شمول الحكم لجميع الأفراد بلا احتياج إلى جريان مقدمات الحكمة، فان كلمة «كل» بوضعها تدل على سريان الحكم لجميع أفراد مدخولها، فمفاد قولنا: أكرم كل عالم، هو وجوب إكرام جميع أفراد العالم من العادل وغيره، بلا احتياج إلى مقدمات الحكمة.

 والمتحصّل مما ذكرناه: أنّ جميع الوجوه التي ذكروها لتقديم التخصيص على النسخ غير تام.

 والصحيح في وجهه أمران:

 الأوّل: أنّ الخاص المقدّم على العام على ما هو محل الكلام مانع عن انعقاد الظهور للعام من أوّل الأمر، فيكون الخاص بياناً للمراد من العام بحسب فهم العرف، فانّه إذا قال المولى: لا تكرم زيداً ثمّ قال: أكرم العلماء، يكون قوله: لا تكرم زيداً قرينةً على المراد من قوله: أكرم العلماء، ومانعاً من انعقاد ظهوره بالنسبة إلى زيد من أوّل الأمر، وليس فيه إلاّ تقديم البيان على وقت الحاجة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 4: 305 وما بعدها.

ــ[463]ــ

ولا قبح فيه أصلاً، بخلاف تأخيره عنه، فانّه محل خلاف بينهم، ولذا اختلفوا فيما إذا ورد الخاص بعد العام فذهب بعضهم إلى كونه مخصصاً مطلقاً، واختار آخرون كونه مخصصاً إن كان وروده قبل وقت العمل، وناسخاً إن كان بعده لقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة.

 الثاني: وهو الأوضح من سابقه، أنّ كون العام ناسخاً متوقف على دلالته على ثبوت حكمه من حين وروده، إذ لو دل على ثبوته في أوّل الاسلام لا يكون ناسخاً البتة، فلا يحتمل النسخ في الأخبار التي بأيدينا الواردة عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) لأن ظاهرها بيان الأحكام التي كانت مجعولة في زمان النبي (صلّى الله عليه وآله)، إذ الأئمة (عليهم السلام) مبيّنون لتلك الأحكام لا مشرّعون، إلاّ أن تنصب قرينة على أنّ هذا الحكم مجعول من الآن، فاذا ورد عن الباقر (عليه السلام): أنّ الطحال مثلاً حرام، و ورد عن الصادق (عليه السلام): أنّ جميع أجزاء الذبيحة حلال، لا يحتمل كونه ناسخاً للخاص المتقدم، لأن ظاهره أن أجزاء الذبيحة حلال في دين الاسلام من زمن النبي (صلى الله عليه وآله) لا أ نّها حلال من الآن ليكون ناسخاً لما ورد عن الباقر (عليه السلام). ولا فرق في ذلك بين الخاص والعام، فلا يحتمل النسخ في الخاص الوارد بعد العام، لعين ما ذكرناه في العام الوارد بعد الخاص.

 وبالجملة: الحكم المذكور في الأخبار المروية عن الأئمة (عليهم السلام) مقدّم بحسب مقام الثبوت وإن كان مؤخراً بحسب مقام الاثبات، فتكون الأحكام الصادرة عن الأئمة سابقهم ولاحقهم (عليهم السلام) بمنزلة الأحكام الصادرة عن شخص واحد، فلا يكون الحكم الصادر عن اللاحق ناسخاً لما صدر عن السابق، لكون الجميع حاكياً عن ثبوت الحكم في زمان النبي (صلّى

ــ[464]ــ

الله عليه وآله). نعم، لو ورد خاص عن النبي (صلّى الله عليه وآله) ثمّ ورد عام منه (صلّى الله عليه وآله) يحتمل كونه ناسخاً للخاص، لكنّه لم يتحقق. ولعله لما ذكرناه من عدم احتمال النسخ في الأخبار المروية عن الأئمة (عليهم السلام) لم يلتزم أحد من الفقهاء فيما نعلم بكون العام فيها ناسخاً للخاص أو الخاص فيها ناسخاً للعام، هذا تمام الكلام في التعارض بين الدليلين.
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net