التعارض بين الدليلين بالعموم من وجه \ تعارض الخبر مع الكتاب أو السنّة القطعية 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5360


 المقام الثاني: فيما إذا كان التعارض بين دليلين بالعموم من وجه، ولم يتعرض له الأصحاب إلاّ بعض المتأخرين. فقد يقال بأ نّه يؤخذ بالدليلين في مادتي الافتراق، ويتساقطان في مادة الاجتماع. وقد يقال بأ نّه يرجع في مادة الاجتماع إلى مرجحات جهة الصدور والمضمون دون مرجحات الصدور، فانّ الرجوع إليها يوجب طرح أحدهما رأساً حتى في مادة الافتراق، أو التبعيض في السند والالتزام بصدوره في مادة الافتراق دون مادة الاجتماع، وكلا الأمرين مما لا يمكن الذهاب إليه، أمّا الأوّل فلأنّ طرح أحدهما في مادة الافتراق طرح للحجة بلا معارض. وأمّا الثاني فلأ نّه لايعقل التعبد بصدور كلام واحد بالنسبة إلى بعض مدلوله دون البعض الآخر. وأمّا التفكيك في جهة الصدور أو المضمون فلا مانع منه، بأن يقال: صدور هذا الخبر بالنسبة إلى بعض مدلوله لبيان الحكم الواقعي، وبالنسبة إلى البعض الآخر للتقية. وكذا التفكيك في المضمون، بأن يقال: بعض مدلول هذا الخبر متعلق للارادة الجدية دول البعض الآخر للتخصيص أو التقييد.

 أقول: إذا كانت النسبة بين المتعارضين هي العموم من وجه، فامّا أن يكون العموم في كل منهما مستفاداً من الوضع، أو من الاطلاق، أو في أحدهما من الوضع، وفي الآخر من الاطلاق. أمّا القسم الأخير فقد سبق الكلام فيه(1) عند

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 453 ـ 454.

ــ[514]ــ

البحث عن دوران الأمر بين التخصيص والتقييد.

 وأمّا القسمان الأوّلان فتحقيق الحال فيهما يحتاج إلى بيان مقدمة وهي: أنّ الحكم الشرعي المتعلق بالكلام قد يتعدد بتعدد الدال دون المدلول، بأن تكون وحدة الحكم وتعدده دائراً مدار وحدة الدال وتعدده من دون أن يكون لوحدة المدلول وتعدده دخل فيهما، كما في حرمة الكذب، فانّ الكذب لا يتعدد بتعدد المدلول، فاذا أخبر زيد بأنّ عندي درهماً، وأخبر عمرو بأنّ عندي عشرة دراهم، ولم يكن عندهما شيء من الدرهم، فقد صدر من كل منهما كذب واحد، وارتكب كل منهما حراماً واحداً، وإن كان مدلول كلام عمرو متعدداً، والسر فيه: أنّ الكذب عبارة عن كلام خبري لا يكون مطابقاً للواقع، ومن الظاهر أنّ وحدة الكلام لا تنثلم بتعدد المدلول.

 وقد يتعدد الحكم بتعدد المدلول من دون تعدد الدال كما في الغيبة، فاذا قال زيد: إنّ عمراً فاسق، فقد اغتاب غيبة واحدة، ولو قال: إنّ عمراً وخالداً فاسقان، فقد اغتاب غيبتين وارتكب حرامين، فانّ الغيبة عبارة عن كشف ما ستره الله من عيوب المؤمن، وهو كشف عيب مؤمنين ولو بكلام واحد.

 والفرق بين القسمين: أ نّه لا يمكن التبعيض باعتبار المدلول في الأوّل، فاذا قال زيد: عندي درهمان، وكان عنده درهم واحد، لا يصح القول بأن إخباره صدق وكذب، بل كذب ليس إلاّ، بخلاف القسم الثاني، فانّه لا مانع من التفكيك فيه باعتبار المدلول، فاذا قال زيد: إنّ عمراً وخالداً فاسقان، يمكن أن يقال: إن هذا الكلام غيبة ومحرّمة بالنسبة إلى عمرو لا بالنسبة إلى خالد، لكونه متجاهراً.

 إذا عرفت ذلك فهل حجية الكلام من قبيل الأوّل حتى لا يمكن التفكيك

ــ[515]ــ

باعتبار المدلول، أو من قبيل الثاني ليمكن التفكيك؟ الظاهر هو الثاني، ألا ترى أ نّه لو قامت بينة على أنّ ما في يد زيد ـ وهي عشرة دراهم ـ لعمرو، ثمّ قامت بينة اُخرى على أنّ خمسة منها لبكر، لا إشكال في أ نّه يؤخذ بالبيّنة الاُولى، ويحكم بأنّ خمسة دراهم مما في يد زيد لعمرو، وتتعارض مع البينة الثانية في الخمسة الباقية. وكذلك لو قامت بيّنة على أنّ هذين المالين لزيد وأقرّ زيد بأن أحدهما ليس له، يؤخذ بالبينة في غير ما أقرّ به من المالين.

 وبالجملة: لا وجه بعد سقوط بعض المدلول عن الاعتبار لسقوط بعضه الآخر، وليس هذا تفكيكاً في المدلول من حيث الصدور، بل تفكيك في المدلول من حيث الحجية. ولا يقاس المقام ـ أي الدلالة التضمنية ـ على الدلالة الالتزامية التي ذكرنا سابقاً أ نّها تسقط عن الحجية عند سقوط الدلالة المطابقية، وذلك لأنّ الدلالة الالتزامية فرع للدلالة المطابقية وتابعة لها ثبوتاً وإثباتاً تبعية المعلول لعلته، بخلاف المقام فانّ دلالة اللفظ على بعض مدلوله ليست تابعة لدلالته على بعضه الآخر لا ثبوتاً ولا إثباتاً، فلو قامت بيّنة على كون قباء وعباء لزيد، واعترف زيد بعدم كون القباء له، لا يلزم منه عدم كون العباء أيضاً له، لعدم كون ملكية العباء تابعة لملكية القباء لا ثبوتاً ولا إثباتاً. وعلى هذا ففيما إذا كان التعارض بين الدليلين بالعموم من وجه يؤخذ بكل منهما في مادة الافتراق، ويرجع إلى المرجّحات المنصوصة في مادة الاجتماع ويؤخذ بما فيه الترجيح على الآخر. والقول بعدم إمكان الرجوع إلى مرجّحات الصدور لأنّ السند لا يتبعض فاسد، لما عرفت من أ نّه ليس تفكيكاً في الصدور، بل تفكيك في الحجية باعتبار المدلول.

 وبعبارة اُخرى: نتعبد بصدوره دون عمومه، لامكان أن يكون الكلام صادراً عن الإمام (عليه السلام) على غير وجه العموم بقرينة لم تصل إلينا، هذا فيما إذا

ــ[516]ــ

كان العموم في كل منهما بالوضع.

 وأمّا إذا كان العموم في كل منهما مستفاداً من الاطلاق، فتسقط الروايتان في مادة الاجتماع من الأوّل، بلا حاجة إلى الرجوع إلى المرجحات، وذلك لأنّ الاطلاق بمعنى اللا بشرط القسمي المقابل للتقييد غير داخل في مدلول اللفظ، إذ اللفظ موضوع للماهية المهملة التي يعبّر عنها باللا بشرط المقسمي، فلا يروي الراوي عن الإمام (عليه السلام) إلاّ بثبوت الحكم للطبيعة المهملة. وأمّا إطلاقه فهو خارج عن مدلول اللفظ، ويثبت بحكم العقل بعد تمامية مقدمات الحكمة. وعلى هذا فلا تعارض بين الخبرين باعتبار نفس مدلوليهما، فانّه لا تنافي بين الحكم بوجوب إكرام العالم على نحو الاهمال، وحرمة إكرام الفاسق كذلك ليقع التعارض بين الخبرين الدالين عليهما. ولا سبيل للعقل إلى الحكم بأنّ المراد منهما وجوب إكرام العالم ولو كان فاسقاً، وحرمة إكرام الفاسق ولو كان عالماً، فانّه حكم بالجمع بين الضدين. والحكم بالاطلاق في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح، فيسقط الدليلان معاً في مادة الاجتماع، ويرجع إلى دليل آخر من عموم أو إطلاق، ومع فقده يكون المرجع هو الأصل العملي.

تنبيه:

 قد عرفت من مباحثنا السابقة أنّ الخبر الواحد إذا كان مخالفاً لظاهر الكتاب أو السنّة القطعية وكانت النسبة بينهما التباين، يطرح الخبر ولو لم يعارضه خبر آخر بمقتضى الأخبار الكثيرة الدالة على عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنّة وأ نّه زخرف وباطل(1). وأمّا إن كانت النسبة بينهما العموم المطلق، فلا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قد تقدّم ذلك في ص 484.

ــ[517]ــ

ينبغي الاشكال في تخصيص الكتاب والسنّة به ما لم يكن خبر آخر معارضاً له، وإلاّ فيطرح ويؤخذ بالخبر الموافق للكتاب والسنّة بمقتضى أخبار الترجيح.

 وأمّا إن كانت النسبة بينهما العموم من وجه فإن كان العموم في كل منهما بالوضع، يؤخذ بظاهر الكتاب والسنّة، ويطرح الخبر بالنسبة إلى مورد الاجتماع، لأ نّه زخرف وباطل بالنسبة إلى مورد الاجتماع بمقتضى ما ذكرناه من التفكيك في الحجية باعتبار مدلول الكلام، وإن كان العموم في كل منهما بالاطلاق، يسقط الاطلاقان في مورد الاجتماع، لما ذكرناه من أنّ الاطلاق غير داخل في مدلول اللفظ، بل الحاكم عليه هو العقل ببركة مقدمات الحكمة التي لا يمكن جريانها في هذه الصورة، وذكرنا أنّ المستفاد من الكتاب ذات المطلق لا إطلاقه كي يقال: إنّ مخالف إطلاق الكتاب زخرف وباطل.

 ومن هنا يظهر أ نّه لو كان العموم في الخبر وضعياً، وفي الكتاب أو السنّة إطلاقياً، يقدّم عموم الخبر في مورد الاجتماع، بعد ما ذكرناه سابقاً من عدم تمامية الاطلاق مع وجود العموم الوضعي في قباله.

 والحمد لله أوّلاً وآخراً، فانّه المبدأ وإليه المعاد.

ــ[518]ــ




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net