تقليد الأعلم - الافتاء بجواز تقليد غير الأعلم 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5882


 المسألة الثانية: في وجوب تقليد الأعلم وعدمه، ويقع الكلام فيها في مقامين:

 المقام الأوّل: في بيان تكليف العامي في نفسه من حيث إنّه يتعين عليه تقليد الأعلم، أو أ نّه يتخير بينه وبين تقليد غيره.

 المقام الثاني: في بيان تكليف المجتهد من حيث إنّه يجوز له الافتاء بجواز تقليد غير الأعلم أو لا.

 أمّا المقام الأوّل: فلا ينبغي الاشكال في عدم جواز تقليد غير الأعلم للعامي، لكونه عالماً بحجية فتوى الأعلم وشاكاً في حجية فتوى غيره، والشك

ــ[542]ــ

في الحجية كاف في الحكم بعدمها، وقد ذكرنا مراراً (1): أ نّه في مقام دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجية، يكون مقتضى الأصل هو الحكم بالتعيين. وكذا لو أفتى غير الأعلم بجواز تقليد غير الأعلم، لا يجوز تقليد غير الأعلم استناداً إلى فتواه، لعدم ثبوت حجية نفس هذه الفتوى، أي الفتوى بجواز تقليد غير الأعلم. نعم، لو أفتى الأعلم بجواز تقليد غير الأعلم، جاز للعامي تقليد غير الأعلم استناداً إلى فتوى الأعلم، إذ المفروض أنّ فتوى الأعلم حجة في حقه، وقد قامت الحجة على اعتبار فتوى غير الأعلم.

 وما عن السيد(2) (قدس سره) في العروة من الاستشكال في ذلك لا نعرف له وجهاً، ضرورة أنّ فتواه بجواز تقليد غير الأعلم كفتواه بجواز الرجوع إلى البينة في إثبات الطهارة أو النجاسة مثلاً. نعم، لو حصل للعامي يقين بعدم جواز تقليد غير الأعلم، كما إذا استقل عقله بأنّ نسبة المفضول إلى الفاضل هي نسبة الجاهل إلى العالم، لا يجوز له تقليد غير الأعلم ولو مع فتوى الأعلم بجواز تقليد غير الأعلم، لكونه عالماً بخطأ الأعلم في هذه المسألة، فلا يجوز اتباعه فيها. ولكن هذا الفرض خارج عن محل الكلام، فانّ الكلام فيما إذا كان العامي شاكاً في جواز تقليد غير الأعلم.

 وأمّا المقام الثاني: وهو جواز الافتاء بجواز تقليد غير الأعلم فيقع الكلام فيه في موردين: المورد الأوّل: فيما إذا علم الاختلاف بين الأعلم وغيره في الفتوى تفصيلاً أو إجمالاً، وكان فتوى الأعلم موافقاً للاحتياط. المورد الثاني: فيما إذا لم يعلم اختلافهما أصلاً، أو علم الاختلاف ولكن كان فتوى غير الأعلم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع على سبيل المثال الجزء الثاني من هذا الكتاب ص 529.

(2) العروة الوثقى 1: 24 المسألة 46.

ــ[543]ــ

موافقاً للاحتياط، كما إذا رأى الأعلم استحباب السورة في الصلاة، وغيره يرى وجوبها فيها.

 أمّا المورد الأوّل: فالظاهر فيه عدم جواز تقليد غير الأعلم، والوجه فيه: أنّ أدلة حجية الفتوى ـ من الآيات والروايات ـ لا تشمل الفتويين المتخالفين، لما تقدّم(1) في بحث التعادل والترجيح من سقوط المتعارضين عن الاعتبار، وأنّ دليل الاعتبار لا يشمل شيئاً منهما، فلا بدّ في إثبات اعتبار أحدهما من التماس دليل آخر. ولا دليل في المقام إلاّ السيرة العقلائية، ولا ينبغي الريب في قيام السيرة على الرجوع إلى الأعلم في مورد الاختلاف بينه وبين غيره، ومع الغض عن ذلك تصل النوبة إلى الأصل، ومقتضاه أيضاً وجوب تقليد الأعلم، لكون المورد من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجية، وقد تقدّم(2) أنّ مقتضى الأصل فيه هو الحكم بالتعيين.

 وأمّا المورد الثاني: فالتحقيق فيه أ نّه إذا علم الاختلاف بينهما، وكان فتوى المفضول مطابقاً للاحتياط، جاز للعامي الرجوع إلى الأعلم، لما تقدّم من قيام السيرة على اتباع الأعلم عند الاختلاف بينه وبين غيره، كما جاز له العمل بفتوى المفضول فانّه لا يقصر عن الاحتياط في بقية موارد الطرق والأمارات، وقد قرّر في محلّه(3) أنّ حجية الطريق لا تنافي حسن الاحتياط وجوازه.

 وأمّا إذا لم يعلم الاختلاف بينهما أصلاً، فقد يقال فيه بوجوب تقليد الأعلم،

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 440 ـ 441.

(2) في ص 542.

(3) راجع المجلّد الثاني من هذا الكتاب ص 376 التنبيه الخامس.

ــ[544]ــ

ويستدل عليه باُمور:

 منها: أنّ فتوى الأعلم متيقن الاعتبار، وفتوى غيره مشكوك الاعتبار، وذكرنا مراراً أنّ مقتضى حكم العقل ـ عند دوران الحجة بين التعيين والتخيير ـ هو التعيين.

 وهذا الوجه إنّما ينفع فيما لم يثبت التخيير بدليل، وإلاّ فلا تصل النوبة إلى العمل بالأصل مع وجود الدليل.

 ومنها: قوله (عليه السلام) في مقبولة عمر بن حنظلة: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما حكم به الآخر»(1) حيث جعل (عليه السلام) الاعتبار بقول الأفقه دون غيره.

 وفيه أوّلاً: ضعف المقبولة من حيث السند كما تقدّم(2). وثانياً: أ نّها واردة في مورد الاختلاف كما يفصح عنه قول السائل: «فاختلفا فيما حكما» فموردها خارج عن محل الكلام، وهو صورة عدم العلم بالاختلاف. وثالثاً: أنّ موردها الحكومة وفصل الخصومة، ولا وجه للتعدي منه إلى الافتاء، بل قوله (عليه السلام): «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما...» إلخ يدل على الاختصاص من وجهين:

 الأوّل: أنّ الإمام (عليه السلام) أمر بالأخذ بما يقوله أفقه الحكمين، وهذا مختص بباب القضاء، وأمّا في مقام الافتاء فلا بدّ من الرجوع إلى أفقه جميع المجتهدين لا إلى أفقه الشخصين.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 27: 106 / أبواب صفات القاضي ب 9 ح 1.

(2) في ص 491.

ــ[545]ــ

 الثاني: أنّ المقبولة دلت على وجوب الأخذ بما يقوله أورع الحكمين وأصدقهما في الحديث، ومن الظاهر أنّ الترجيح بهما يختص بباب القضاء.

 ومما ذكرناه يظهر الحال في الاستدلال بما روي عن مولانا أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام) في عهده الطويل إلى مالك الأشتر من قوله (عليه السلام): «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك»(1) ونهيه (عليه السلام) عن إيكال القضاء إلى أحد مع وجود الأفضل منه في البلد، فانّ مورده الحكم لا الافتاء كما هو ظاهر، ولا سيّما مع ملاحظة أنّ الافتاء موكول إلى أفضل الجميع كما تقدّم، لا إلى أفضل الرعية وأهل البلد. وكذا الحال في الاستدلال بالروايات(2) الدالة على ذم من يحكم مع العلم بوجود من هو أعلم منه، فانّها أيضاً واردة في الحكومة دون الفتوى.

 ومنها: أنّ فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع من فتوى غيره، فيجب الأخذ به.

 وفيه: منع الصغرى والكبرى. أمّا الصغرى: فلمنع كون فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع من فتوى غيره دائماً، بل ربّما تكون فتوى غيره أقرب إلى الواقع من فتوى الأعلم، كما إذا كان فتوى غير الأعلم مطابقاً للمشهور، أو مطابقاً لفتوى ميت كان أعلم من الأفضل الحي. وأمّا الكبرى: فلأ نّه لم يدل دليل على تعين الأخذ بما هو أقرب، إذ ليس مناط الحجية هو الأقربية، ولذا لو وقع التعارض بين البينتـين وكانت إحداهما أقرب إلى الواقع من الاُخرى، لا يمكن القول بوجوب الأخذ بالأقرب وطرح الاُخرى.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 27: 159 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 18.

(2) منها ما روي في البحار 2: 110، 50: 100.

ــ[546]ــ

 فتحصّل من جميع ما ذكرناه: أ نّه لا دليل على وجوب الأخذ بفتوى الأعلم في مفروض الكلام. نعم، لو لم يثبت التخيير كان هو المتعـيّن بمقتضى الأصل على ما تقدّم، إلاّ أنّ السيرة قائمة على الرجوع إلى كل من الأفضل والمفضول عند عدم العلم باختلافهما فهي الدليل على التخيير، ألا ترى أنّ الطبيب المفضول لا يبقى عاطلاً في بلد مع وجود الأفضل منه فيه، فانّ العقلاء يراجعون المفضول كما يراجعون الأفضل. نعم، لو اُحرز الاختلاف بينهما لا يراجعون المفضول كما ذكرناه سابقاً (1)، هذا.

 ويمكن الاستدلال على جواز الرجوع إلى غير الأعلم باطلاق مثل قوله تعالى: (فَاسْأَ لُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)(2) وتوهّم أ نّه لا يمكن التمسك باطلاق آية السؤال ونحوها في المقام، لأن صورة مخالفة فتوى الأعلم مع فتوى غيره خارجة عن الاطـلاقات، لما تقدّم من أنّ أدلة الحجية من الآيات والروايات لا تشمل شيئاً من المتعارضين، وحيث إنّا نحتمل في الفرض مخالفة فتوى الأعلم لفتوى غيره، كان التمسك بالاطلاقات من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، مدفوع بأ نّه يحرز عدم الاختلاف بين الفتويين باستصحاب عدمه الأزلي، أو النعتي على ما ذكرناه غير مرّة(3).
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net