الصحيح والأعم 

الكتاب : مصابيح الاُصول - الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 6564


ــ[102]ــ

الصحيح والأعم

هل ألفاظ العبادات أسام للصحيح منها بالخصوص ، أو للأعم منه ومن الفاسد ؟

والتحقيق يقع من جهات :

الاُولى : أنّ تصوير النزاع على القول بثبوت الحقيقة الشرعية واضح ، فإنّ الشارع المقدّس بعد أن وضع الألفاظ للمعاني المستحدثة ـ إمّا بالوضع التعييني وإمّا بالوضع التعيّني ـ يقع النزاع في وضعها لخصوص المنطبق منها على الأفراد الصحيحة ، أو المنطبق على الأعم منها ومن الفاسدة ، بحيث تحتاج إرادة كل واحد منها إلى القرينة .

وعلى القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية ، وأنّ الشارع استعمل الألفاظ في المعاني إمّا بطريق المجاز وإمّا بالمعنى اللغوي ، وقد دلّ على إرادة الأجزاء والشرائط دالّ آخر ـ كما ذهب إليه الباقلاني(1)ـ فالنزاع أيضاً يمكن جريانه ، وذلك بأن يقال  : إنّ هذه الألفاظ المعلومة قد أصبحت في وقت من الزمن حقيقة في هذه المعاني ـ ولو على سبيل الحقيقة المتشرّعية كما في زماننا هذا ـ ولكن الاستعمالات التي عند المتشرّعة إنّما هي بتبع استعمال الشارع المقدّس لتلك الألفاظ في المعاني ، فيقال : إنّه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) نسبه إليه المحقّق القمّي في حاشيته على قوانينه : 39 ، وراجع أيضاً الحاشية في ص38 .

ــ[103]ــ

بناءً على استعماله لها بنحو المجاز فهل استعملها في الجامع بين خصوص الأفراد الصحيحة ، أو في الأعم منها ومن الفاسدة ؟

وهكذا يمكن تصوير النزاع على مذهب الباقلاني ، فيقال : إنّ الألفاظ المذكورة وإن استعملت على لسانه في المعنى اللغوي ، إلاّ أنّ تلك القرينة التي دلّت على إرادة الأجزاء والشرائط هل دلّت على خصوص الصحيح من الأفراد ، أو الأعم منها ومن الفاسدة ؟.

الثانية : المراد من الصحة التي هي مقابل الفساد معناها اللغوي ، وهو تمامية الشيء من حيث الأجزاء والشرائط . والفساد معناه عدم التمامية.

وأمّا تفسيرها بما أسقط الإعادة والقضاء كما عن بعض الفقهاء ، وبموافقة الأمر في الشريعة كما عن المتكلّمين ، فهو تفسير باللازم ، لأنّ لازم كون المأتي به تامّ الأجزاء والشرائط عدم الإعادة عليه في الوقت ، وعدم القضاء خارجه ، ولازمه أيضاً موافقته للأمر الوارد في الشريعة المقدّسة . وهكذا معنى الفساد .

ثمّ إنّ الصحّة والفساد من الاُمور الإضافية ، فالحقيقة الواحدة كالصلاة عن جلوس ـ مثلا ـ هي بالإضافة إلى المضطر صحيحة ، وإلى القادر المختار غير صحيحة . وهكذا صلاة ركعتين في السفر ، هي للمسافر صحيحة ، وللحاضر غير صحيحة . وكذا الطهارة الترابية صحيحة لفاقد الماء ، وغير صحيحة لواجده و  و  ...  الخ . فالصحّة والفساد إذن من الاُمور الإضافية التي تختلف باختلاف الأشخاص ، والأحوال ، والأزمان ، إلى غير ذلك .

الثالثة : أنّ الصحّة التي فسّرت بتمامية العمل لا اختصاص لها بالأجزاء خاصّة ، بل تشمل حتّى الشرائط ، فيقال : هل الصلاة اسم لخصوص الأفراد الصحيحة بمعنى تامّة الأجزاء والشرائط ، أو للأعمّ من ذلك . إذن فالنزاع يشملهما .

وقد وقع النزاع في شمول معنى الصحّة للمعاني الآتية : كالصحّة بالإضافة إلى

ــ[104]ــ

عدم المزاحم ، المقابل لما كان فيه مزاحم ، كما إذا صلّى عند ابتلائه بنجاسة المسجد وقلنا بفسادها لأجل المزاحمة . وكالصحّة من جهة عدم النهي ، كما لو صادف وقوع صلاة شخص مقابل آخر على نحو تستلزم الهتك ، فلو أوقعها كانت فاسدة ، لكنّها صحيحة لولا النهي . وكالصحّة من جهة قصد التقرّب في مقابل من فقد قصد القربة وإن جاء بجميع الأجزاء والشرائط ، فإنّها تقع فاسدة .

فقد ذهب شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) إلى استحالة تعميم النزاع لهذه الجهات الثلاث ، باعتبار أنّ الصحّة من جهة عدم المزاحم أو عدم النهي أو لأجل التقرّب فرع وجود الأمر أو النهي ، وهما متأخّران رتبة عن المسمّى ، وكل ما هو متأخّر بحسب الرتبة لا يمكن أخذه في المتقدّم.

وهذا الوجه غير صحيح ، إذ لا مانع من ملاحظة المجموع المؤلّف من ذات المعنى وتوابعه ، ثمّ جعل اللفظ له وإن كان بحسب الرتبة متأخّراً أحدهما عن الآخر كما يصحّ تسمية المعلول والعلّة معاً باسم واحد ، مع اختلافهما في الرتبة . وعليه فلا مانع من أخذ الصحّة بهذا المعنى الجامع للجهات الثلاث .

نعم هذا النحو من التصوير في الصحّة غير واقع في الخارج ، إذ لم توضع الصلاة ـ مثلا ـ للصلاة الصحيحة من جميع الجهات حتّى من جهة عدم تعلّق النهي بها ، وعدم ابتلائها بالمزاحم الأهم ، ومن جهة قصد التقرّب بها ، وغير ذلك ممّا له مدخلية في صحّة الصلاة ، بل الصلاة وغيرها من أسامي العبادات إنّما وضعت لمعان قد يقصد بها التقرّب وقد لا يقصد ، وقد تبتلى بالمزاحم الأهم وقد لا تبتلى ، ويتعلّق بها النهي ولا يتعلّق ، وهكذا . فالمسمّى بتلك الأسامي والألفاظ هو المعنى السابق في الرتبة على هذه الاُمور . وعليه فالنزاع يختص بالأجزاء والشرائط فقط .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 1 : 51 .

ــ[105]ــ

الجهة الرابعة : لابدّ على كلا القولين ـ الصحيح والأعم ـ من تصوير جامع كلّي يكون قدراً مشتركاً بين الأفراد الصحيحة من الصلاة ـ مثلا ـ أو بين الأفراد الأعم من ذلك ، ويكون هو المسمّى بالصلاة ، سواء قلنا بأنّ الوضع والموضوع له عام ، أو قلنا بالوضع العام والموضوع له الخاص .

إذ على الأول ـ كما هو الحقّ ـ لابدّ من تصوّر مفهوم كلّي منطبق على أفراده الصحيحة بناءً على الصحيح ، أو الأعم بناءً عليه ، يوضع اللفظ بازائه .

وعلى الوجه الثاني أيضاً كذلك ، إذ الأفراد التي يكون اللفظ موضوعاً لها لابدّ من تصوّر عنوان كلّي يشير إليها ، وهذا العنوان الكلّي هل هو حاك عن خصوص الأفراد الصحيحة ، أو الأعم منها ومن الفاسدة ؟ وقد اتّضح من هذا الاحتياجُ إلى الجامع على كلا التقديرين .

وقد ذهب شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) إلى عدم الاحتياج إلى الجامع على كل تقدير ، مدّعياً أنّ لفظ الصلاة وضع لخصوص المرتبة العالية من الأفراد ، وهي المشتملة على تمام الأجزاء والشرائط ، وتستعمل في المراتب الدانية من تلك الأفراد على سبيل الادّعاء ، إمّا من حيث المشاركة في تحصيل الأثر كما في الأفراد الصحيحة مسامحة ، وإمّا من جهة المشابهة في الصورة ، أو تنزيل فاقد الشيء منزلة واجده كما في الأفراد الفاسدة . فلفظ الصلاة ـ مثلا ـ مستعمل في المعنى حقيقة ، إمّا واقعاً ، وإمّا ادّعاء على مذهب السكاكي .

ثمّ ادّعى (قدّس سرّه) أنّ وضع الأسماء للمركّبات ـ كأسماء المعاجين ـ من هذا القبيل ، فإنّ اللفظ وضع للمرتبة العالية الكاملة ، ويستعمل في الفاقد لبعض الأجزاء المؤثّر بعين ذلك الأثر من جهة الاشتراك في الأثر ، وأمّا في الفاقد للتأثير من باب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 1 : 52 وما بعدها .

ــ[106]ــ

تنزيل الفاقد منزلة الواجد ، أو المشابهة في الصورة .

ولا يخفى أوّلا : أنّنا لا نجد بالوجدان مسامحة عند استعمال اللفظ فيما عدا المرتبة العالية ، ولا نجد تنزيلا حينما يستعمل لفظ الصلاة في بقية الأفراد .

وثانياً : أنّ تلك المرتبة العالية التي فرض جعل اللفظ لها لابدّ وأن تكون معيّنة ، وهذا المعنى يمكن تصويره في المركّبات الخارجية ، وأمّا في مثل الصلاة التي هي محل البحث فالمرتبة العالية غير معلومة . فالوحدة المعيّنة في صلاة الصبح تختلف عن الوحدة في صلاة المغرب ، وهي تختلف عن الصلاة ذات الأربع ، وهي مختلفة عن صلاة الآيات . فإنّ الصلاة ذات الركعتين صحيحة في وقت ، وفاسدة في وقت آخر . أو أنّها صحيحة من المسافر ، وفاسدة من غيره ، وهكذا .

وإذ اختلفت الوحدة في المقام فكيف يمكن تصوير مرتبة واحدة من المراتب العالية ليكون اللفظ موضوعاً لها . إذن لابدّ من تصوير جامع في المقام على كلا القولين .

هذا كلّه في مرحلة الثبوت ، وأمّا مرحلة الإثبات فالواجب مراجعة الأدلّة والنظر إلى ما هو الموضوع له اللفظ .

أمّا من لا يعترف بأنّ تصوير الجامع ـ على كلا القولين ـ ممكن ثبوتاً ، بل ممكن على تقدير أحدهما دون الآخر ، فلابدّ من تبعية عالم الإثبات لعالم الثبوت في خصوص ذلك التقدير .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net