التنبيه على اُمور 

الكتاب : مصابيح الاُصول - الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4400


ــ[299]ــ

التنبيه على اُمور

الأمر الأول : أنّه ذهب صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(1) إلى أنّ القول بالإجزاء على تقدير السببية إنّما يصحّ بالإضافة إلى متعلّقات التكاليف ، وأمّا بالإضافة إلى نفس التكليف فلا إجزاء حتّى على القول بالسببية ، لأنّ الحكم الذي قامت الأمارة عليه وإن اشتمل على مصلحة ملزمة ، إلاّ أنّه لا دخل لذلك بمصلحة الواقع ، ولا معنى لبحث الإجزاء عن ذلك . وقد مثّل (قدّس سرّه) لهذه المسألة بالظهر والجمعة ، وأفاد : أنّ اشتمال الاُولى على المصلحة لا ينافي بقاء الاُخرى على ملاكها الملزم ، فإذا انكشف الخلاف وجبت الإعادة .

وغير خفي أنّ الأمارة القائمة على حكم تارةً ليس لها نظر إلى تعيين الواقع بل تفيد ثبوت ما أدّت إليه ، وهذا خارج عن النزاع . فلو قامت الأمارة على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، فانكشف بعد ذلك عدم وجوبه ، ووجوب فعل آخر أجنبي عنه ، فإنّه لا وجه في مثله للقول بالإجزاء . غاية الأمر أن يكون الدعاء في نفسه من جهة قيام الأمارة ذا مصلحة ملزمة ، مع بقاء الواجب الواقعي على مصلحته .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 87 .

ــ[300]ــ

واُخرى تكون الأمارة بحسب مؤدّاها ناظرة إلى الواقع ، وتفيد أنّ ما جاءت به هو الذي ثبت في الواقع . فإذا قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة ، أفادت أنّ المأمور به فعلا هو الجمعة لا الظهر ، وفي مثله كيف يدعى عدم الإجزاء ، لأنّه لابدّ من الالتزام باشتمال المؤدّى على المصلحة الملزمة الوافية بالواقع ، لا مصلحة اُخرى غير مرتبطة به ، وإلاّ فيجري مثل هذا الكلام في متعلّقات التكليف أيضاً ، فلابدّ فيها من الالتزام بعدم الإجزاء ، وهو لا يلتزم به .

الأمر الثاني : ذكر صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(1) أنّ جريان النزاع يتأتّى في الموارد التي يكون المأتي به من الفعل متعلّقاً للأمر الاضطراري أو الظاهري واقعاً بحيث يقطع وجداناً أو تعبّداً بأنّ المورد ممّا تعلّق به الأمر الاضطراري أو الظاهري أمّا لو كان قطعه خيالياً أو توهّماً صرفاً بأنّ المقام من مصاديق الأمر الاضطراري أو الظاهري ، فهو أجنبي عن النزاع .

وهذا متين جدّاً ، ومنه تبدّل رأي المجتهد حيث يظهر له ضعف السند بعد أن قطع بأنّ الراوي ثقة .

الأمر الثالث : قد عرفت ممّا ذكرناه عدم الإجزاء فيما إذا انكشف مخالفة الحجّة للحكم الواقعي ، ولا فرق في ذلك بين الأحكام الكلّية والموضوعات الخارجية ، إلاّ أنّ القول بعدم الإجزاء في الأحكام الكلّية أوضح ، لأنّ الإجزاء ـ كما عرفت ـ مستلزم للتصويب ، وهو في الأحكام الكلّية ، مع أنّه مجمع على بطلانه ، قد دلّت الروايات الشريفة على خلافه .

وأمّا الموضوعات الخارجية فالتصويب فيها من جهة تعلّق نفس العلم أو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 88 .

 
 

ــ[301]ــ

الأمارة بالموضوع الخارجي واضح البطلان ، ولم يقل به عاقل . وأمّا التصويب من جهة الحكم الشرعي فما دلّ على بطلانه من الإجماع والروايات الدالّة على اشتراك العالم والجاهل(1) يختصّ بالأحكام الكلّية ، ولا يعمّ الموارد الجزئية ، فيمكن دعوى اختصاص الحكم الشرعي بالعالم بالموضوع الخارجي ، بأن يكون العلم به مأخوذاً في موضوع الحكم الشرعي ، ولذا ذهب بعض الفقهاء إلى اختصاص الحكم بالنجاسة بما علم بوليته مثلا .

ومن هنا يمكن القول بالإجزاء في موارد مخالفة الأمارة للواقع في الشبهات الموضوعية ، إلاّ أنّ هذا أيضاً لا يمكن الالتزام به ، من جهة أنّ إطلاق الأدلّة المثبتة للأحكام على موضوعاتها الخارجية يقتضي ثبوت الحكم لذات الموضوع من دون تقييده بالعلم به ، فمثل قوله (عليه السلام) « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه  »(2) يدلّ على نجاسة البول في نفسه ، علم المكلّف أم لم يعلم به ، غاية الأمر أنّه حال الجهل يكون معذوراً ، لا أنّ البول لا يكون محكوماً بالنجاسة واقعاً . وعليه فلا موجب للقول بالإجزاء في موارد الشبهات الموضوعية .

فإن قلت : نعم الأدلّة المثبتة للأحكام وإن كانت مطلقة ، إلاّ أنّه يمكن الالتزام بتقييد موضوعاتها بعدم قيام الأمارة على الخلاف ، وذلك من جهة إطلاق دليل حجّيتها لمورد الإصابة وعدمها . فالعمل على طبق الأمارة إذا كان مأموراً به على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ذكر (قدّس سرّه) في محاضرات في اُصول الفقه 2 (موسوعة الإمام الخوئي 44) : 87 ما نصّه : لعلّه أراد منها ـ الروايات الدالّة على الاشتراك ـ الروايات الدالّة على ثبوت الأحكام مطلقاً ، أو أراد أخبار الاحتياط ...

(2) الوسائل 3 : 405 / أبواب النجاسات ب8 ح2 .

ــ[302]ــ

كلا التقديرين لزمه القول بالسببية لا محالة ، لكن القول بالسببية في الأمارات القائمة على الأحكام الواقعية غير ممكن ، من جهة الإجماع على بطلان التصويب وأدلّة الاشتراك . وأمّا الموضوعات الخارجية فحيث لا دليل فيها على بطلان التصويب من جهة الأحكام ـ كما مرّ ـ فلا مانع من الأخذ بظهور أدلّة حجّية الأمارات والقول بالسببية فيها ، ونتيجة ذلك هو القول بالإجزاء .

قلت : لو سلّم أنّ ظاهر جعل الحجّية لشيء هو وجوب العمل على طبقه ، كي يترتّب عليه لزوم القول بالسببية ما لم يدلّ دليل على بطلانه ، فهو إنّما يتم فيما إذا كانت الحجّية مجعولة شرعاً ابتداءً . ومن الظاهر أنّه ليس شيء من الحجج الشرعية كذلك ، بل إنّها حجج عقلائية قد أمضاها الشارع المقدّس .

الأمر الرابع : لا فرق في انكشاف الخلاف وجريان بحث الإجزاء بين المجتهد والمقلّد ، فالأمارة القائمة على حكم لدى المجتهد لو ظهر خلافها يبحث عن إجزاء المأتي به ، كما أنّ المقلّد لو عمل على طبق فتوى المجتهد الأول ثمّ عدل عنه ، أو مات ـ  مثلا ـ فقلّد آخر ، واتّفق مخالفة فتوى الثاني للأول ، جرى النزاع في ذلك أيضاً . والحقّ في المقامين عدم الإجزاء .

لا يقال : إنّ في الأخذ بكلام المجتهد السابق مصلحة يتدارك بها ما فات من الواقع ، فلا معنى للبحث عن الإجزاء .

والجواب عنه : أنّ حكم فتوى المجتهد هو حكم الأمارة التي يعتمد عليها في مرحلة الإفتاء ، فكما لا نقول بالنسبة لها لا نقول بها بالنسبة إلى فتواه .

الأمر الخامس : أنّ قيام الأمر الظاهري عند شخص هل ينفذ في حقّ الغير ؟ فلو قامت الأمارة عند إمام جماعة على أنّ المائع الخارجي ماء فتوضّأ به ، وقد علم غيره الخلاف بأنّه ليس بماء ، فهل يصحّ لذلك الغير الاقتداء به ؟

ــ[303]ــ

الظاهر عدم نفوذ ذلك الحكم في حقّ الغير ، وذلك لاطّلاعه على الواقع وعلمه بأنّ إمام الجماعة ـ مثلا ـ إنّما يعمل على خلاف الواقع من حيث لا يدري ومعه كيف يكون معذوراً في مقام العمل .

نعم يستثنى من ذلك مورد خاص وهو النكاح ، فمن عقد على امرأة باللغة الفارسية ـ مثلا ـ حيث يرى صحّة العقد بذلك ، تحرم تلك المرأة على ابن العاقد وإن كان الابن يرى اعتبار العربية في صحّة العقد ، وكذلك ليس له أن يحرم الزوجة من الميراث مدّعياً أنّ العقد غير صحيح بحسب نظره ، بل يجب عليه ترتيب جميع لوازم النكاح وآثاره ، لما ورد عنهم (عليهم السلام) : « لكل قوم نكاح »(1).

وربما قيل باستثناء بابي الطهارة والنجاسة عن ذلك ـ كالنكاح ـ لأنّنا كثيراً ما نخالط العامّة وغيرهم الذين لا يعتبرون في زوال عين النجاسة ما نعتبره من الشرائط ، بل وأكثر من هذا ، نرى مخالطتنا مع من لا يعتني بالنجاسة ، مع سكوت الأئمّة (عليهم السلام) عن ذلك ، وهذا كاشف عن استثناء موردي الطهارة والنجاسة عن الحكم المتقدّم .

والصحيح أن يقال : إنّ جواز المخالطة وعدم وجوب الاجتناب عن الأشخاص المذكورين ليس من جهة نفوذ الحكم الظاهري الثابت لأحد في حقّ الآخرين ، وذلك لعدم وجوب الاجتناب عمّن لم يثبت له حكم ظاهري أيضاً كالعصاة وغير المبالين بالنجاسة ، فينحصر تصحيح ذلك بأحد وجهين :

الوجه الأول : الاكتفاء بغيبة المسلم في الحكم بالطهارة ، فإذا فارقناه وقتاً ما واحتملنا أنّه قد تطهّر ، كفى هذا القدر في الحكم بطهارته .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 21 : 199 / أبواب نكاح العبيد والإماء ب83 ح2 .

ــ[304]ــ

الوجه الثاني : العلم الإجمالي بطروء حالتين متعاقبتين عليه ، إذ كما نعلم بنجاسة يده نعلم بطهارته أيضاً ، ومع الشكّ في المتقدّم والمتأخّر لا يجري الاستصحاب في شيء منهما ، للمعارضة أو لوجه آخر على الخلاف .

وأمّا فيما إذا فرض عدم الغيبة أو لم يحتمل التطهير ، ولم يكن المورد من موارد تعاقب الحالتين ، فلا موجب للحكم بالطهارة ولو فرضنا ثبوت الحكم الظاهري في حقّ ذلك المسلم . مثلا : إذا غسل مسلم يده من البول مرّة ، لاجتهاد أو تقليد صحيح ، ثمّ لاقت يده ماءً قليلا ، فليس لمن يرى لزوم الغسل مرّتين ترتيب آثار الطهارة على ذلك ، لعدم الدليل على ذلك أصلا .

الأمر السادس : أنّه ذكر شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) قيام الإجماع على إجزاء من كان سائراً على طبق الاجتهاد الأول في الجملة ، وقسّمه إلى ثلاثة أقسام  :

القسم الأول : في الأحكام التكليفية العبادية ، ومثاله واضح .

القسم الثاني : في الأحكام الوضعية مع بقاء الموضوع ، وذلك كما لو عقد على امرأة بالعقد الفارسي وكانت محلا لابتلائه ، أو ذبح بغير الحديد والذبيحة موجودة ثمّ انكشف الخلاف وظهر عدم الصحّة .

القسم الثالث : في الأحكام الوضعية مع عدم بقاء الموضوع ، وذلك كما لو اجتهد شخص ، أو قلّد من يقول بصحّة البيع المعاطاتي ، أو باللغة الفارسية وأجرى بيعاً على طبق ذلك ، ثمّ انكشف له الخلاف مع تلف المال المنقول إليه بتلك المعاملة .

وقد ادّعى (قدّس سرّه) قيام الإجماع على الإجزاء في القسم الأول ، لأنّه المتيقّن ، ومقتضاه صحّة ما جاء به سابقاً . بخلاف القسم الثاني ، فلم يدّع قيام

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 1 : 299 .

ــ[305]ــ

الإجماع على ذلك ، ومقتضاه عدم الإجزاء . وأمّا القسم الثالث فقد تردّد (قدّس سرّه) في دعوى الإجماع عليه وتأمّل .

وغير خفي أنّ عدم القول بجريان الإجماع في القسم الثاني متين جدّاً ، وأمّا التردّد في القسم الثالث فلا وجه له ، إذ الموضوع وإن لم يكن باقياً ، إلاّ أنّ دفع بدله لصاحبه ممكن ، فيتعيّن القول بالضمان ، فالمال التالف يجب دفع بدله إن قلنا بعدم جريان الإجماع على الإجزاء في القسم الثالث . فكان الأحرى به أن يلحق هذا القسم بالقسم الثاني ، ويدّعي عدم الجريان فيه ، وإذا اتّحد القسمان في عدم جريان الإجماع على الإجزاء كان الحكم هو عدم الإجزاء .

وأمّا ما ذهب إليه (قدّس سرّه) من دعوى قيام الإجماع على الإجزاء في القسم الأول فمشكل جدّاً ، لا سيما وأنّ مسألة الإجزاء من المسائل الاُصولية المستحدثة وأين هذا من اتّفاق أقوال الفقهاء على ذلك . فالإجماع المحصّل غير معقول ، والمنقول منه غير مقبول . فما جاء به (قدّس سرّه) غير تامّ .

نعم الصحيح هو القول بالإجزاء في خصوص باب الصلاة ، بناءً على ما اخترناه من عدم اختصاص حديث لا تعاد بالناسي ، وشموله للجاهل القاصر ـ  والمجتهد والمقلّد سواء من ناحية الحكم لا عن تقصير ـ وهو ما ورد عن زرارة عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنّه قال (عليه السلام) : « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة : الطهور ، والوقت ، والقبلة ، والركوع ، والسجود . ثمّ قال : القراءة سنّة ، والتشهّد سنّة ، ولا تنقض السنّة الفريضة »(1).

فإنّ المستفاد منها أنّ الموارد الخمسة ـ مضافاً إليها التكبير في من كبّر قائماً

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 5 : 470 / أبواب أفعال الصلاة ب1 ح14 .

ــ[306]ــ

وحقّه التكبير جالساً ، وبالعكس ـ تعاد الصلاة من أجلها لو ظهر الخلل فيها ، أمّا غيرها ممّا عدا الموارد الخمسة فالصلاة لا تعاد من أجل الخلل الواقع فيها ـ كمن ركع عن غير سورة ـ لدخولها في عقد المستثنى منه .

نعم لو قامت الأمارة على أنّ المائع الخارجي ماء فتوضّأ به المكلّف ، ثمّ ظهر له الخلاف لزمه الإعادة قطعاً . وكذا الأمر في الشبهات الحكمية في من أدّى نظره إلى الوضوء جبيرة ، ثمّ انكشف له الخلاف بعد الوضوء فعدل عن الجبيرة ، لزمه إعادة الوضوء أيضاً .

والحاصل : أنّ القول بالإجزاء في هذه الموارد في الصلاة متعيّن ، لكنّه لا للإجماع ، بل لحديث لا تعاد ، بعد فرض شموله للجاهل القاصر .

هذا تمام الكلام في الإجزاء .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net