دليل الشيخ الأنصاري على رجوع القيد إلى المادّة - تردّد القيد بين رجوعه إلى الهيئة أو المادّة 

الكتاب : مصابيح الاُصول - الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4490


لزوم عود القيد إلى المادّة

وأمّا البحث عن الجهة الثانية : فقد استدلّ الشيخ (قدّس سرّه)(1) على لزوم عود القيد إلى المادّة بما حاصله : أنّ كل إنسان إذا توجّه نحو شيء فامّا أن يطلبه أو لا  . لا كلام لنا على الثاني ، وعلى الأول فامّا أن يطلبه مطلقاً ، أو مقيّداً بنحو خاص  . ولا كلام لنا على الأول ، لعدم وجود قيد يتنازع في رجوعه إلى أحد الأمرين . وعلى الثاني فامّا أن يكون القيد اختيارياً ، أو غير اختياري ، كزوال

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع مطارح الأنظار : 52 .

ــ[330]ــ

الشمس بالإضافة إلى وجوب صلاة الظهرين . وعلى الأول فقد يكون القيد الاختياري داخلا تحت الطلب ، كالطهارة بالإضافة إلى الصلاة . وقد يكون خارجاً عنه ، اُخذ مفروض الوجود ، كالاستطاعة بالإضافة إلى الحجّ . وعلى جميع التقادير يكون الطلب فعلياً والمطلوب مقيّداً ، وهذا أمر وجداني لا مناقشة فيه ، ولهذه الجهة كان القيد راجعاً إلى المادّة دون الهيئة .

وغير خفي أنّه لابدّ لنا من معرفة ما يريده الشيخ (قدّس سرّه) من الطلب الذي اعتبره سليماً من تعلّق القيود .

فإن اُريد به الشوق النفساني ـ أي الشوق المؤكّد  ـ فما جاء به متين جدّاً لأنّ كل إنسان إذا التفت نحو شيء وبدا له شوقه ورغبته ، فالمشتاق إليه قد يكون مطلقاً ، وقد يكون مقيّداً ، والقيد قد يصير اختيارياً ، وقد لا يكون كذلك ، وما هو اختياري قد يكون داخلا تحت الطلب ، وقد يكون خارجاً عنه ، إلى ما شاكل هذه التقسيمات المذكورة ، التي هي في الحقيقة عائدة إلى نفس المشتاق إليه ، دون نفس الشوق والرغبة ، فإنّهما فعليان . إلاّ أنّ البحث في الحقيقة راجع إلى الحكم المجعول وهو الوجوب ، والشوق ليس من سنخ الأحكام الشرعية ، وإنّما هو من الصفات النفسية ، فهو خارج عن البحث .

وإن اُريد بالطلب الإرادة التي تحصل من الشوق ـ ويعبّر عنها بالاختيار ـ فنقول : لا ريب أنّ الاختيار من باب الافتعال ، ومعناه إعمال القدرة في سبيل تحصيل الخير للنفس من المصلحة ، فهو فعل صادر من القادر ، لا من صفاته ، ولهذا كانت الإرادة في الله سبحانه وتعالى حادثة ، وليست بقديمة ، على ما نطقت به الروايات عن المعصومين (عليهم السلام)(1)، والدليل عليه صحّة اتّصاف ذاته

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الكافي 1 : 109 / 1 ، 3 ، 7 .

ــ[331]ــ

المقدّسة بوجودها وبعدمها ، فيقال : إنّ الله تعالى أراد هذا ، ولم يرد ذاك . ولا يقال : إنّه عالم بهذا ، وليس عالماً بذاك ، لأنّ علمه أزلي قديم .

وإذا كان معنى الإرادة إعمال القدرة ، فلا ريب أنّ ذلك لا يتمّ إلاّ في الموارد المقدورة التي يستطيع العبد أن يعمل قدرته فيها ، وبديهي أنّ فعل الغير ليس بمقدور للآمر ، وما هو خارج عن نظام القدرة لا يصلح تعلّق الإرادة به ، بل ربما يستحيل تعلّق الإرادة بفعل الشخص نفسه إذا كان متأخّراً ، كإرادة الصوم غداً . وإذا استحال تعلّق الإرادة بما هو خارج عن المقدور ، فكيف يصحّ التقسيم بالإضافة إلى المراد .

والحاصل : أنّه لا يمكن الالتزام بوجود إرادة متعلّقة بفعل الغير عند طلب شيء منه ، فإنّ الآمر إمّا أن يكون هو الله سبحانه وتعالى ، أو غيره.

أمّا الأول : فلأنّ تعلّق إرادة الباري بفعل الغير وإن كان ممكناً ، لعموم قدرته إلاّ أنّه حيث ينافي اختيار العبد ـ فإنّ تفكيك إرادة الله تعالى عن مراده غير معقول  ـ فلا معنى لتوجّه التكليف إليه ، فإنّه متوقّف على اختيار المكلّف .

وأمّا على الثاني : فمن جهة أنّ الإنسان غير قادر على إصدار الفعل عن غيره فإنّه لا معنى لإرادة صدور الفعل عنه ، لما عرفت من أنّ معناها إعمال القدرة  .

وقد ظهر من هذا : أنّ تقسيم الإرادة إلى التكوينية والتشريعية باطل .

وإن اُريد بالطلب اعتبار شيء على ذمّة المكلّف ، فإنّ حقيقة الطلب هو التصدّي نحو حصول الشيء ، والاعتبار المذكور مصداق للتصدّي ، نظراً إلى أنّ المولى إذا اشتاق فعل الغير فلابدّ من إيجاد الداعي له ، والداعي ليس إلاّ الأمر ولهذا الأمر جهتان :

الاُولى : الاعتبار النفساني ، وهو الذي لا يقبل التعليق أصلا ، ويمنع من رجوع القيد إليه .

ــ[332]ــ

الثانية : المعتبر ، وهو كون الشيء على ذمّة المكلّف ، ونعبّر عن هذا بالوجوب تارةً ، وبالإلزام اُخرى . ولا محذور في تعليقه على شيء ، بل لا مناص من الالتزام به ، ولتحقيق هذا نقول : إنّ الفعل الذي هو متعلّق الوجوب على قسمين :

القسم الأول : ما إذا كان الفعل متّصفاً بالحسن فعلا ، من جهة وجود جميع ما يعتبر في اتّصافه به ، وحينئذ يكون الوجوب لا محالة فعلياً ، وغير مقيّد بشيء .

الثاني : ما إذا لم يكن الفعل متّصفاً بالحسن فعلا ، لعدم وجود ما هو دخيل في ملاك الاتّصاف بالمصلحة ، فلا محالة لا يكون الوجوب معه فعلياً ، بل يكون تقديرياً على فرض تحقّق ما له الدخل في الملاك ، فإنّ جعل الوجوب فعلياً مع كون المتعلّق غير واجد للملاك فعلا لغو صرف ، يرجع أمره إلى عدم تبعية الحكم للملاك  .

مثلا إذا التفت المولى إلى شرب الماء ، فقد يكون عطشه فعلياً فيأمر عبده باحضار الماء ، بمعنى أنّه يعتبر على ذمّة عبده إحضار الماء فعلا ، فيكون الوجوب فعلياً . وقد يكون عطشه فيما بعد ذلك ، فلا محالة يعتبر على ذمّة عبده إحضار الماء في ظرف عطشه . فالاعتبار فعلي ، إلاّ أنّ المعتبر ـ وهو كون إحضار الماء على ذمّة العبد  ـ أمر متأخّر ، فإنّه على تقدير حصول العطش ، والمفروض أنّه غير حاصل بعد  .

وفي مثل هذا الفرض لو قدر للمولى أن يعتبر فعلية اشتغال ذمّة العبد باحضار الماء في ظرف العطش ، ليرجع القيد إلى المادّة ، لا إلى نفس الوجوب والمعتبر ، لكان هذا لغواً محضاً .

ويشهد على ما ندّعيه ـ من رجوع القيد إلى الهيئة في الجمل الإنشائية ـ ظهور القضايا الشرطية عرفاً في تعليق الجزاء على الشرط ، مثل : إن طلعت الشمس فالنهار موجود ، وإن استطعت فحجّ . فإنّ المستفاد عرفاً من الجملة الاُولى هو

ــ[333]ــ

تعليق وجود النهار على طلوع الشمس ، كما أنّ المستفاد من الجملة الثانية تعليق وجوب الحجّ على نفس الاستطاعة ، دون تعليق نفس الحج عليها . وهذا شاهد على ما نحن بصدد إثباته .

فالمتحصّل ممّا تقدّم : أنّ المولى يستطيع أن يعتبر فعلا وجوب شيء على تقدير حصول قيد من القيود ، فيكون الاعتبار فعلياً ، والمعتبر أمر متأخّر . ولا يفرق في هذا المعنى بين الالتزام بتبعية الأحكام للمصالح في أنفسها ، أو في متعلّقاتها .

أمّا على الأول فواضح ، إذ ربما لا تكون هناك مصلحة تدعو إلى جعل الحكم وإيجاده فعلا ، وإنّما المصلحة تحدث في وقت متأخّر . فالمولى يعتبر الآن وجوب شيء في فرض اتّصافه بالمصلحة .

وأمّا بناءً على تبعيتها لمتعلّقاتها ، بأن تكون المصلحة في نفس الفعل دون الحكم ، فالأمر واضح أيضاً ، لا لما ذكر في الكفاية(1) من فرض وجود مانع من الإنشاء فعلا وإن كان المقتضي حاصلا ، بل لأجل عدم المقتضي هنا ، إذ بعد أن فرضنا أنّ الملاك غير موجود ، لفرض أنّ القيود التي توجب اتّصاف الفعل بالمصلحة غير موجودة ، فجعل الحكم فعلا لغو صرف .

نعم لو علم الآمر أنّ الامتثال حين اتّصاف الفعل بالمصلحة ليس بممكن لوجب عليه الأمر من الآن ، ليتهيّأ المكلّف لامتثاله ، وذلك كما لو علم من نفسه بأنّه سيعطش بعد ساعة ، وعلم أنّ العبد لا يمكنه الإتيان بالماء في ذلك الوقت لعذر من الأعذار ، فإنّه يجب عليه أن يأمره فعلا ليحضر الماء قبل عروض العطش عليه . إلاّ أنّ هذه الصورة خارجة عمّا نحن فيه .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 97 ـ 98 .

ــ[334]ــ

تردّد القيد في رجوعه إلى الهيئة أو المادّة

إن علم من الخارج أنّ القيد راجع إلى المادّة دون الهيئة وجب تحصيله ، لفعلية الوجوب في المقيّد . وإن علم برجوعه إلى الهيئة فلا يجب تحصيله ، لعدم فعلية الوجوب فيه ، بل تتوقّف فعليته على تقدير حصول القيد . وإن تردّد فلا يدرى أنّه راجع إلى الهيئة لينتفي الوجوب ، أو إلى المادّة ليكون فعلياً ، فهنا مورد الكلام .

وقبل الشروع في ذلك ، يجدر بنا أن نبيّن أنّ مورد الكلام إنّما هو في القيود الاختيارية التي يتمكّن المكلّف من الإتيان بها ، وأمّا القيود الخارجة عن اختيار المكلّف فلابدّ من إرجاعها إلى الهيئة ، لأنّها لابدّ أن تؤخذ مفروضة الوجود ، ومعه لا يعقل رجوعها إلى المادّة ، لاستلزام ذلك وجوب تحصيلها ، والمفروض عدم القدرة عليها ، ولذا قلنا برجوعها إلى الوجوب لا الواجب . ولا كلام في ذلك .

إذا عرفت هذا فنقول : لو حصل لنا الشكّ في رجوع القيد إلى الهيئة أو المادّة فهل هناك أصل لفظي يكون مرجعاً في تعيين أحدهما ؟

أمّا الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) فهو في غنىً عن هذا البحث ، لما سبق(1) من رأيه في القيود من أنّها دائماً ترجع إلى المادّة دون الهيئة ، باعتبار أنّ مفاد الهيئة معنى حرفي ، وهو غير قابل للتقييد ، ومع هذا الفرض لا مجال للتردّد ، ليحتاج لرفعه إلى التمسّك بدليل لفظي أو أصل عملي ، ولكنّه مع ذلك تعرّض لهذه المسألة(2) فذكر مضافاً إلى دليله على استحالة رجوع القيد إلى الهيئة دليلا آخر على أنّ مقتضى الأصل اللفظي إرجاع القيد إلى المادّة دون الهيئة .

ومن الواضح أنّ هذا لا يتمّ إلاّ مع التنزّل عمّا أفاده أولا من استحالة رجوع

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص325 ، 329 .

(2) مطارح الأنظار : 49 .

ــ[335]ــ

القيد إلى الهيئة ، إذ مع الاستحالة لا مجال للاستظهار . اللهمّ إلاّ أن يخصّص فرض هذه المسألة فيما إذا كان الوجوب مستفاداً من جملة اسمية ، فإنّه حينئذ لا إشكال في إمكان رجوع القيد إليه .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net