وجوب التعلّم \ هل يجب التعلّم بمجرد احتمال الابتلاء 

الكتاب : مصابيح الاُصول - الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4353


فوائد الواجب المعلّق

إنّ الذي دعا صاحب الفصول (قدّس سرّه) إلى الالتزام بالواجب المعلّق هو جملة فوائد ، تترتّب عليها ثمرات فقهية لها أهميتها :

منها : إيجاب مقدّمات الفعل الذي يلزم الإتيان به في ظرف خاصّ ، كلزوم الخروج قبل الموسم إلى الحجّ .

ومنها : اغتسال الجنب والحائض ليلا لصوم غد ، حيث يجب تهيئة لوازم السفر ووسائل النقل في الأول ، وإن كان يؤتى بالحجّ في الأشهر المخصوصة . كما ويجب منه إيقاع الغسل ليلا في الثاني ، وإن كان يؤتى بالصوم عند الفجر ، فإنّ المستفاد من الآية الشريفة : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)(1) هو أنّ شهود الشهر يقتضي وجوب الصوم . والشهود كناية عن أحد أمرين : إمّا الحضور في قبال السفر ، أو الرؤية الحقيقية للهلال . والمفهوم من هذا أنّ وجوب الصوم يتحقّق بمجرد الرؤية أو الحضور ، وإن كان يؤتى بالصوم في زمن مستقبل ، فيستفاد منها وجوب صوم الشهر كلّه ، فيكون من الواجب المعلّق .

ومن هذا القبيل وجوب الصلوات الخمس ، حيث يدّعى أنّ الوجوب فعلي قبل الزوال ، وإن كان يؤتى بالواجب بعد الزوال ، ومن هنا وجب التعلّم على كل أحد قبل إتيان الوقت . إلاّ أنّ ظاهر قوله (عليه السلام) : إذا زالت الشمس فقد وجب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) البقرة 2 : 185 .

ــ[353]ــ

الطهور والصلاة(1) تحقّق الوجوب بعد الزوال ، لا قبله .

نعم بناءً على ما تقدّم لابدّ من الالتزام بما في الكفاية(2) من أنّ الوجوب لو صار فعلياً لوجب حفظ القدرة على المقدّمات في مورد يعلم المكلّف أنّه يعجز عن الإتيان بها في زمن الواجب .

ولا مانع من الالتزام به بالإضافة إلى سائر المقدّمات العامّة ، أمّا المقدّمات التي اعتبرت القدرة الخاصّة فيها فيجوز تفويتها قبل مجيء الوقت ، بل وحتّى بعده وهي مثل إجناب الرجل نفسه بمواقعة أهله ، وهو يعلم بعدم تمكّنه من الطهارة المائية بعد دخول وقت الصلاة ، إذ لا مانع من ذلك ، باعتبار أنّ القدرة المأخوذة هنا قدرة خاصّة ، فإنّ الصلاة مع الطهارة عن الحدث الأكبر إنّما تجب في من كان قادراً عليها من غير سبق جماع . أمّا إجناب نفسه بطريق النوم وغيره فغير جائز .

ومثله تفويت الطهارة المائية بالنسبة للصلاة ، إذ لا يجب على المكلّف حفظ القدرة قبل الزوال وإن قلنا بوجوب الظهرين قبله كما قد يدّعى ، وإن علم بفقدانها بعد الزوال ، باعتبار أنّ المطلوب من المكلّف تحصيل الماء بعد الزوال ، فإن وجد وإلاّ فقد انتقل فرضه إلى التيمّم ، نعم يجوز له إبقاؤها قبله إلى أن يتحقّق الزوال ، لكنّه ليس بواجب .

وجوب المعرفة والتعلّم

عرفت ممّا تقدّم الإشكال في المقدّمات المفوّتة ، وأنّه يندفع بالالتزام بالواجب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 373 / أبواب الوضوء ب4 ح1 ، وفيه : « إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة » .

(2) كفاية الاُصول : 104 .

ــ[354]ــ

التعليقي . والكلام فعلا يقع في دفع الإشكال على القول باستحالة الواجب التعليقي كما ويقع البحث أيضاً على القول بامكانه ولكن في مورد لا يمكن الالتزام فيه بسبق الوجوب ، لعدم مساعدة الدليل عليه ، وهذا كوجوب تعلّم الصبي أحكام الصلاة قبل البلوغ ، فإنّه إن قلنا بعدم وجوبه فلازمه جواز تفويت الصلاة أوّل بلوغه بمقدار يتمكّن من التعلّم فيه . ولا يمكن الالتزام بوجوب التعلّم من جهة سبق وجوب الصلاة على البلوغ ، فإنّه لا تكليف على الصبي قطعاً .

فالكلام فعلا في دفع الإشكال بالنسبة إلى المقدّمات المفوّتة في هذين الموردين ، وقبل الدخول في النزاع يجدر بنا تقديم مقدّمتين:

المقدّمة الاُولى : اشتهر بين القوم أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً لا خطاباً ، فلو اضطرّ الإنسان إلى ارتكاب محرّم اختياراً ـ كما لو ألقى نفسه من شاهق ـ فتكليفه بحفظ نفسه حال النزول ساقط عنه ، ولا يمكن انبعاثه نحو العمل لعدم القدرة عليه حينئذ ، وإن كان باستطاعته في بداية الأمر أن لا يجعل نفسه كذلك  . ولكن عقابه صحيح .

وخالف في تمامية هذه القاعدة طائفتان ، فقد ادّعى أبو هاشم(1) أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وخطاباً ، فللمولى أن يأمر الإنسان بحفظ نفسه نظراً إلى أنّ تكليفه بغير المقدور مسبّب عن سوء اختياره .

كما وقد ادّعى بعض منافاته للاختيار عقاباً وخطاباً ، نظراً إلى أنّ كل ما ليس بمقدور لا يمكن البعث نحوه  ، ولا العقاب على تركه .

وفي كلا القولين نظر .

أمّا الأول : فلأنّ حقيقة التكليف هو البعث نحو المأمور به ، وإيجاد الداعي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) البرهان في اُصول الفقه 1 : 208 ، المنخول : 129 .

ــ[355]ــ

للمكلّف بالنسبة إليه ، فلابدّ من كونه مقدوراً ، وإلاّ لكان التكليف لغواً . أمّا كون العجز مسبّباً عن سوء الاختيار فهذا لا يصحّح تكليف المولى للعاجز ، وإلاّ لصحّ للمولى أن يأمر عبده بالجمع بين الضدّين على تقدير الصعود على السطح ، وهو باطل اتّفاقاً .

وأمّا الثاني : فلأنّ الخطاب وإن تعذّر في حقّه ، لأنّه بعث نحو أمر غير مقدور فيكون التكليف لغواً ، لعدم إمكان التحريك نحوه ، إلاّ أنّ العقاب لا مانع منه باعتبار استطاعته في بداية الأمر أن لا يجعل نفسه مضطراً إلى الارتكاب ، فيكون بحكم العقل عاصياً ، ومستحقّاً للعقوبة ، لأنّه ارتكب مبغوض المولى بسوء اختياره .

فالصحيح : أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً ، لا خطاباً .

المقدّمة الثانية : أنّ حكم العقل باستحقاق العقوبة عند المخالفة لا يفرق فيه بين أن تكون المخالفة لأمر أو نهي مولويين ، أو لغرض ملزم لا يستطيع المولى من جعل التكليف على طبقه ، إمّا لقصور في ناحية المولى نفسه ، كما لو كان نائماً واتّفق غرق ولده ، مع تمكّن العبد من الإنقاذ ، فلو خالف العبد حينئذ ولم ينقذه فقد استحقّ العقاب على مخالفته للغرض الملزم . أو لقصور في نفس العبد ، كما لو كان غير قابل للتكليف ، لعدم قدرته عنده ، ولم يكن التكليف مأخوذاً فيه قدرة خاصّة . فإنّ عجز العبد في ظرف التكليف وإن كان مانعاً عن توجّه التكليف إليه لعدم القدرة ، لكنّه يستحقّ العقاب على تفويت الغرض الملزم إذا كان قادراً على حفظ قدرته ليكون قابلا لتوجّه التكليف إليه في ظرفه .

والحاصل : أنّ العقل لا يفرق في حكمه باستحقاق العقاب بين أن تكون المخالفة لأمر أو نهي مولويين ، أو لغرض ملزم لا يستطيع المولى من جعل التكليف على طبقه .

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ القدرة المعتبرة في الواجب قد تكون عقلية ، وقد

ــ[356]ــ

تكون شرعية .

وعلى الأول : فوجوب هذا القسم من المقدّمة واضح ، وذلك فإنّ العبد بعد أن يرى الحجّ ـ مثلا ـ من دعائم الإسلام ، ولم يوجبه المولى فعلا ، لعدم تحقّق شرط وجوبه وهو الاستطاعة ، يعلم بوجود غرض ملزم متعلّق باتيان العمل عند حصول الشرط ، فلو ترك المقدّمات فعلا صار عاجزاً عن إتيان الواجب في وقته ، ولكن اضطراره إلى ترك الواجب إنّما هو بالاختيار ، فالعقل يحكم لا محالة فعلا باستحقاق العقوبة على تقدير تركه ، لما عرفت من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً ، ومعه لابدّ أن يبادر العبد إلى إتيان المقدّمة دفعاً للضرر عن نفسه ، وهكذا باقي الأمثلة .

وبعبارة اُخرى : العبد لما كان قادراً على إتيان الواجب بإتيان المقدّمة ، بحيث يعلم فوات الواجب في وقته إذا ترك مقدّمته ، فالعقل يحكم عليه بالعصيان في فرض الترك ، لأنّه فوّت غرضاً ملزماً للمولى باختياره . وامتناعه في وقته إنّما كان باختياره ، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً . هذا كلّه فيما كانت القدرة المعتبرة في الواجب عقلية .

وعلى الثاني ـ وهو ما كانت القدرة شرعية ـ : فالأقسام ثلاثة :

القسم الأول : ما كانت القدرة دخيلة في الملاك شرعاً بنحو من التوسعة والإطلاق ، بحيث اعتبرت فيه في الجملة .

ففي هذا القسم يحرم تفويت القدرة ، سواء كانت موجودة قبل زمان الوجوب أو الواجب ، فإنّ التمكّن على إتيان الواجب بالقدرة على إتيان المقدّمة ممّا يستدعي حكم العقل بصحّة معاقبة العبد لو تخاذل عن الامتثال ، لأنّ ترك ذلك يستلزم تفويت غرض ملزم للمولى ، ومعه يلزم الإتيان بالمقدّمة .

فلا فرق في وجوب المقدّمة المفوّتة بين هذا القسم والقسم السابق ، وإنّما الفرق

ــ[357]ــ

بينهما في جهة اُخرى ، وهي كون القدرة دخيلة في الملاك هنا بخلافها هناك ، فإنّها ليست دخيلة في الملاك أصلا ، وإنّما اعتبرها العقل من جهة توقّف صحّة توجيه الخطاب عليها .

القسم الثاني : ما لو كانت القدرة المعتبرة في الواجب شرعاً ودخيلة في ملاكه قدرة خاصّة ، وهي التي تحصل بعد وجود شرط خاصّ من شرائط الوجوب  .

ففي هذا القسم يجوز تفويت القدرة للمكلّف قبل تحقّق هذا الشرط ، ولا يجوز له تفويتها بعده ، وذلك كالقدرة المعتبرة شرعاً في وجوب الحجّ بعد تحقّق الاستطاعة المالية ، فإنّ القدرة المعتبرة في وجوبه ليست قدرة مطلقة ، بل قدرة خاصّة ـ بعد الاستطاعة  ـ ولذلك يجوز للمكلّف تفويت هذه القدرة الخاصّة ، كالمنع من تحقّق الاستطاعة فيما لو وجد المقتضي لها ، كما إذا أراد أن يهب شخص لآخر ما يصير به مستطيعاً ، فللآخر أن لا يقبل . أو أراد أن يبذل له ما يكفيه للحجّ ، فيلتمس منه أن لا يبذل له .

فالمقدّمات التي يستوجب تركها ترك الواجب لا تصير واجبة بحكم العقل قبل حصول شرط الوجوب ، لعدم تمامية الملاك ، أمّا بعد حصول ما هو شرط الوجوب ، فالعقل يحكم بوجوب كل مقدّمة يتوقّف عليها الواجب في ظرفه .

القسم الثالث : ما كانت القدرة المعتبرة في الواجب شرعاً قدرة خاصّة وهي القدرة على الفعل زمن الواجب . وبعبارة اُخرى : ما كانت القدرة بعد زمن الواجب دخيلة في الملاك شرعاً .

ففي هذا القسم لا يجب الإتيان بالمقدّمة قبل مجيء زمن الواجب المتوقّف عليها ، لأنّ الواجب إنّما يتّصف بالمصلحة في صورة وجود القدرة عليه في زمانه ، فلا ملاك قبله كما هو المفروض ، فالترك للمقدّمة لا يستلزم تفويت الغرض الملزم

ــ[358]ــ

ويمكن أن يستفاد من قوله تعالى : (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) إلى قوله : (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً)(1) أنّ القدرة على الصلاة مع الطهارة المائية من هذا القبيل ، فإنّ قوله تعالى : (إِذَا قُمْتُمْ) كناية عن دخول الوقت .

وبعبارة اُخرى : الصلاة مع الطهارة المائية إنّما تكون ذات مصلحة وملاك ملزم بشرط حصول القدرة عليها زمن الواجب ، أي بعد الزوال ، فلا تجب المبادرة على العبد إلى إتيان المقدّمة ، إذ لا يستلزم تركها ترك الفرض الملزم .

ومن هنا يعلم أنّه لا يجب على المكلّف أن يحفظ الماء ، أو يبقي طهارته إلى ما بعد الزوال ليأتي بالواجب مع الطهارة ، وإن علم بفقدانها بعد الزوال ، إذ لا يجب عليه تحصيل ما يوجب اتّصاف الفعل بالمصلحة ، نعم لا يسمح له تفويت ما هو ذو ملاك فعلا ، كما لو صار الزوال ووجد الماء ثمّ أراد إراقته ، فإنّه لا يجوز ذلك ، هذا .

وقد فرّق شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(2) بين حفظ الماء وإبقاء الوضوء فأوجب الأول استناداً إلى النصّ ، دون الثاني . ولكنّه قد تحقّق لدينا عدم النصّ في المقام أصلا .

وقد ظهر من هذا أنّه لا يجوز تفويت الطهارة بعد دخول الوقت ، نعم ورد في خصوص الجنابة أنّه بعد دخول الوقت ووجدان المكلّف للماء غير الكافي للاغتسال له أن يجامع أهله(3)، فالقدرة على الطهارة من الحدث الأكبر هاهنا مأخوذة بلحاظ حال الإتيان بالعمل ، ولكن بالنسبة إلى الجماع مع الأهل . ولا يعمّ ما إذا أجنب نفسه بسبب الاحتلام أو غيره ، كما لو علم ـ مثلا ـ أنّه لو نام لاستيقظ جنباً من جهة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة 5 : 6 .

(2) أجود التقريرات 1 : 225 .

(3) الوسائل 20 : 109 / أبواب مقدّمات النكاح ب50 ح1 .

ــ[359]ــ

الاحتلام ، فإنّه غير جائز له .

ثمّ إنّ شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) ذكر أنّ الملاك في وجوب التعلّم ليس هو الملاك في بقية المقدّمات المفوّتة ـ أعني حرمة تفويت الغرض الملزم ، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ـ بل هو أمر آخر . ولابدّ من تنقيحه ، فنقول : إنّ ترك التعلّم قبل حصول وقت الواجب المقيّد إتيانه في ظرف خاص يقع على أقسام :

القسم الأول : أن لا يكون ترك التعلّم قبل الوقت مؤثّراً في عدم امتثال الواجب تفصيلا في وقته ، بل باستطاعة العبد أن يأتي بالواجب في وقته كذلك لإمكان تعلّمه حين ذاك .

وفي هذا القسم لا يجب عليه التعلّم قبل الوقت ، إذ لا يفوت شيء بتركه ، نعم لو جاء وقت الواجب وترك العبد التعلّم بحيث استلزم ترك الواجب ، فالعقل يحكم بوجوب التعلّم عليه ، فإنّ في تركه احتمال مخالفة التكليف الفعلي المنجّز ، وهو مساوق لاحتمال العقوبة ، ولا مؤمن من ذلك ، لأنّ البراءة لا تجري في صورة التمكّن من الفحص عن الدليل .

القسم الثاني : أن يكون ترك التعلّم قبل الوقت مؤثّراً في فقد التمييز من الواجب ، بمعنى أنّ العبد لا يتمكّن من الامتثال العلمي التفصيلي بعد الوقت ، ولكن كان متمكّناً من إحراز الواجب إجمالا ، كما إذا كان المكلّف به مردّداً بين المتباينين كالقصر والإتمام . فلو ترك العبد التعلّم قبل الوقت فقد استوجب فقدان التمييز ، مع إمكانه إحراز امتثال الواجب ولو بطريق الاحتياط .

وفي هذا القسم لا يجب عليه التعلّم قبل الوقت ، لعدم اعتبار التمييز ، ولذلك

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 1 : 229 .

ــ[360]ــ

ذكرنا(1) أنّه يجوز الاحتياط وإن استلزم التكرار للمتمكّن من الاجتهاد والتقليد .

القسم الثالث : أن يكون ترك التعلّم قبل الوقت مؤثّراً في فقد إحراز الواجب في ظرفه دون أصل امتثاله ، بأن يتمكّن المكلّف من الامتثال الاحتمالي دون العلمي ، وهذا كما لو كان الوقت ضيّقاً ولم يستطع العبد إلاّ إتيان فعل واحد ، إمّا القصر أو الإتمام .

وفي هذا القسم يجب عليه التعلّم من جهة قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل فإنّ في الاكتفاء بما يحتمل انطباق المأمور به عليه احتمال المخالفة للتكليف الفعلي من غير مؤمن ، فلا محالة يحتمل الضرر ، ومعه يجب دفعه ، وليس الملاك في ذلك احتمال تفويت الغرض الملزم .

القسم الرابع : أن يكون ترك التعلّم قبل الوقت موجباً لترك الواجب في وقته  ، إمّا للغفلة عن التكليف أصلا ، وهذا كثيراً ما يتّفق في المعاملات ، فإنّ المعاملة الفاسدة إذا تحقّقت فبعد النقل والانتقال الخارجي يغفل طرفا المعاملة عن الحكم بالحرمة في التصرّفات الخارجية ، وذلك من جهة أنّه لم يتعلّم حكم هذه المعاملة . وإمّا لعدم التمكّن من الإتيان به ، كالصلاة التي هي مجموعة من تكبير وقراءة وركوع وسجود وغير ذلك ، فإنّها تحتاج إلى زمن يمكن التعلّم فيه .

وفي هذا القسم يجب التعلّم قبل الوقت ، من باب وجوب تحصيل المقدّمات المفوّتة . فلو ترك العبد التعلّم قبل الوقت فقد فوّت غرضاً ملزماً ، ومعه يستحقّ العقاب ، لقاعدة إنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار .

هذا كلّه فيما إذا لم يكن الواجب مقيّداً بقدرة خاصّة شرعاً من جهة التعلّم وأمّا إذا كانت القدرة الخاصّة مأخوذة فيه فالتعلّم غير واجب ، لا قبل حصول

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع مصباح الاُصول 2 (موسوعة الإمام الخوئي 47) : 84 وما بعدها .

 
 

ــ[361]ــ

القيد  ، لأنّه لا وجوب ليجب التعلّم مقدّمة لإتيان المكلّف به ، ولا بعده لأنّه لا يستطيع العبد الإتيان به ، ومعه لا يكون الوجوب فعلياً ، فلا وجوب للتعلّم قبل الوقت .

ولكن لو التزمنا بالوجوب في هذه الصورة فلابدّ من الالتزام بمقالة المقدّس الأردبيلي (قدّس سرّه)(1) وهو الوجوب النفسي ] للتهيّؤ [ للغير ، فيجب التعلّم بالنسبة إلى من كان التكليف لولا العجز الحاصل من جهة عدم التعلّم متوجّهاً إليه . وأمّا بالنسبة إلى غيره فلا معنى للوجوب النفسي ، كالرجال بالنسبة إلى تعلّم أحكام النساء ، فإنّه لا يجب عليهم ذلك نفساً ، نعم يجب الاجتهاد في هذه الأحكام كفاية وهذا خارج عن محل الكلام .

هذا كلّه بحسب الكبرى ، وأمّا الصغرى ـ أعني أخذ القدرة الخاصّة في الملاك بلحاظ التعلّم ـ فغير محقّقة ، لأنّه ليس لدينا واجب من الواجبات مقيّداً بالقدرة الخاصّة من جهة التعلّم ، إذ ليس للتعلّم دخل في صيرورة العمل ذا ملاك ملزم . والدليل عليه هو كل ما ورد من الأدلّة على وجوب التعلّم والسؤال ، منها : ما ورد من أنّه يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له : هلاّ عملت ، فيقول : ما علمت ، فيقال له : هلاّ تعلّمت(2). فإنّ المستفاد منه تحقّق الملاك ولو بالنسبة إلى العاجز من ناحية ترك التعلّم . فتعجيز النفس من هذه الجهة لا يجوز .

هذا كلّه في البحث عن وجوب التعلّم في الموارد التي يعلم المكلّف بابتلائه بالحكم فيها ، كالصلاة والصيام ، وكذا يجب التعلّم في موارد الاطمئنان بحصول الابتلاء به .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع مجمع الفائدة والبرهان 2 : 110 .

(2) بحار الأنوار 2 : 29 ، 180 (نقل بالمضمون) .

ــ[362]ــ

وأمّا الموارد التي يحتمل ابتلاءه بها فهل يجب تعلّم الأحكام فيها ؟ المعروف بين القوم هو وجوب التعلّم على المكلّف ، بالملاك السابق .

وربما يقال بعدم وجوبه ، استناداً إلى استصحاب عدم الابتلاء بالإضافة إلى الزمن المستقبل ، لكونه فعلا متيقّناً بعدم ذلك .

واُشكل على هذا بأمرين :

الأمر الأول : أنّ دليل الاستصحاب لا يشمل هذا القسم من الاستصحاب ـ  المسمّى بالاستصحاب الاستقبالي ـ لأنّه لا يستفاد منه إلاّ الحكم ببقاء ما كان متيقّن الحدوث سابقاً إلى زمان الشكّ ، وفي المقام ليس الأمر كذلك .

الأمر الثاني : أنّ الاستصحاب يجري في مورد يكون المستصحب أثراً شرعياً  ، أو ذا أثر شرعي ، ومع انتفاء ذلك لا يجري الاستصحاب أصلا ، والأثر هنا مرتّب على مجرد احتمال الابتلاء من جهة دفع الضرر المحتمل ، لا على واقعه ليرتفع بأصالة العدم . ولا إشكال أنّ نفس الاحتمال محرز وجداناً ، فالاستصحاب لا أثر له .

وبعبارة اُخرى : احتمال الابتلاء هو محل الأثر ـ وهو وجوب دفع الضرر ـ وهذا الاحتمال حاصل فعلا بالوجدان ، أمّا الابتلاء الواقعي فلا أثر له ليرتفع بواسطة الاستصحاب .

واُجيب عن هذين الأمرين :

أمّا عن الأول : فلأنّ إطلاق دليل الاستصحاب شامل لهذا القسم ، باعتبار أنّ مفاده كل شيء متيقّن حادث لا يرفع اليد عنه بالأمر المشكوك ، سواء كان المتيقّن سابقاً أم فعلياً .

وأمّا عن الثاني : فإنّ موضوع الأثر وإن كان مجرد احتمال الابتلاء ، وهو محرز بالوجدان ، إلاّ أنّ استصحاب عدم الابتلاء إن جرى كان رافعاً للابتلاء الواقعي

ــ[363]ــ

رفعاً تعبّدياً ، وبذلك يرتفع احتمال الابتلاء ارتفاعاً موضوعياً ، فيكون دليل الاستصحاب رافعاً لموضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل .

نعم الإشكال على الاستصحاب من أمرين آخرين :

الأمر الأول : العلم الإجمالي بالابتلاء بقسم من الأحكام الشرعية في زمانه وإن لم تكن موارد الانطباق معلومة بالتفصيل ، ومقتضى ذلك عدم جريان الاُصول النافية في أطرافه ، من جهة تعارض الاستصحاب في الأطراف .

الأمر الثاني : أنّ هذا الاستصحاب لا يجري ، من جهة أنّ الأوامر الدالّة على وجوب تعلّم الأحكام مثل (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)(1) ومثل النبوي الشريف « طلب العلم فريضة »(2) ومثل « هلاّ تعلّمت »(3) وما شاكل ذلك ، واردة مورد هذا الاستصحاب ، فإنّ في غالب الموارد لا يقطع الإنسان ولا يطمئن بالابتلاء ، وبناءً على جريان الاستصحاب فيلزم عدم وجوب التعلّم ، فلا يبقى تحت هذه العمومات إلاّ موارد نادرة ، وهذا لا يمكن الالتزام به . ونظيره ما سيجيء إن شاء الله تعالى في وجه تقدّم قاعدة الفراغ على الاستصحاب(4).

نعم هذا في الموارد التي يقع ابتلاء المكلّف فيها ، أمّا الموارد التي يقلّ الابتلاء بها ، كأغلب مسائل الخلل والشكوك ـ مثل ما لو شكّ المكلّف أنّه توضّأ ، أو جامع زوجته ، ونظائره ممّا هو نادر الابتلاء ـ فلا يجب عليه التعلّم فيها بحكم العقل .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) النحل 16 : 43 .

(2) الوسائل 27 : 26 / أبواب صفات القاضي ب4 ح16 ـ 20 .

(3) تقدّم مصدره في ص361 .

(4) مصباح الاُصول 3 (موسوعة الإمام الخوئي 48) : 318 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net