القرآن كان مجموعاً على عهد النبي (ص) - اسلوب القرآن في جمعه بين المواضيع المختلفة 

الكتاب : البيان في تفسـير القرآن - خطبـة الكتاب   ||   القسم : التفسير   ||   القرّاء : 4951

7 ـ إن العرب لم تعارض القرآن، لا لكونه معجزا يعجز البشر عن الإتيان بمثله. ولكنهم لم يعارضوه لجهات أخرى لا تعود إلى الإعجاز. أما العرب الذين عاصروا الدعوة، أو تأخروا عنها قليلا، فقد كانت سيطرة المسلمين
تمنعهم عن التصدي لذلك، فلم يعارضوا القرآن خوفا على أنفسهم وأموالهم من هؤلاء المسيطرين، ولما انقرضت سلطة الخلفاء الأربعة وآل الأمر إلى الأمويين الذين لم تقم خلافتهم على محور الدعوة الإسلامية، صار القرآن مأنوسا لجميع الأذهان بسبب رشاقة ألفاظه، ومتانة معانيه، وأصبح من المرتكزات الموروثة خلفا عن سلف، فانصرفوا عن معارضته لذلك.
الجواب:
أولا: إن التحدي بالقرآن، وطلب المعارضة بسورة من مثله، قد كان من النبي (صلى الله عليه وآله) في مكة قبل أن تظهر شوكة الإسلام، وتقوى سلطة المسلمين، ومع ذلك لم يستطع أحد من بلغاء العرب أن يقوم بهذه المعارضة.
ثانيا: إن الخوف في زمان الخلفاء، وسيطرة المسلمين، لم يمنع الكافر من أن يظهر كفره، وإنكاره لدين الإسلام. وقد كان أهل الكتاب يعيشون بين المسلمين في جزيرة العرب وغيرها بأهنأ عيش وأكرم نعمة، وكان لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم. ولا سيما في عصر خلافة أميرالمؤمنين (عليه السلام) الذي اعترف بعدله ووفور علمه المسلمون

ــ[92]ــ

وغيرهم. فلو كان أحد هؤلاء الكتابيين، أو غيرهم قادرا على الإتيان بمثل القرآن، لأظهره في مقام الاحتجاج.
ثالثا: إن الخوف لو سلم وجوده فهو إنما يمنع عن إظهار المعارضة والمجاهرة بها، فما الذي منع الكتابيين، أو غيرهم من معارضته سرا في بيوتهم ومجامعهم؟ ولو ثبتت هذه المعارضة لتحفظ بها الكتابيون ليظهروها بعد زوال الخوف عنهم، كما تحفظوا على قصص العهدين الخرافية، وسائر ما يرتبط بدينهم.
رابعا: إن الكلام - وإن ارتفع مقامه من حيث البلاغة -إلا أن المعهود من الطباع البشرية أنه إذا كرر على الأسماع هبط عن مقامه الأول، ولذلك نرى أن القصيدة البليغة إذا أعيدت على الإنسان مرارا ملها، واشمأزت نفسه منها، فإذا سمع قصيدة أخرى فقد يتراءى له في أول نظرة أنها أبلغ من القصيدة الأولى، فإذا كررت الثانية أيضا ظهر الفرق الحقيقي بين القصيدتين. وهذا جار في جميع ما يلتذ به الإنسان، ويدرك حسنه من مأكول، وملبوس ومسموع وغيرها. والقرآن لو لم يكن معجزا لكان اللازم أن يجري على هذا المقياس، وينحط في نفوس السامعين عن مقامه الأول، مهما طال به الزمان وطرأ عليه التكرار، وبذلك تسهل معارضته، ولكنا نرى القرآن على كثرة تكراره وترديده، لا يزداد إلا حسنا وبهجة، ولا يثمر إلا عرفانا ويقينا، ولا ينتج إلا إيمانا وتصديقا، فهو في هذه المزية على عكس الكلام المألوف. وإذن فهذا الوجه يؤكد إعجازه لا أنه ينافيه كما يتوهمه هذا الخصم.
خامسا: ان التكرار لو فرض أنه يوجب انس النفوس به، وانصرافها عن معارضته، فهو إنما يتم عند المسلمين الذين يصدقون به، ويستمعون إليه برغبة

ــ[93]ــ

واشتياق كلما تكررت تلاوته، فلماذا لا يعارضه غير المسلمين من العرب الفصحاء؟ لتقع هذه المعارضة موقع القبول ولو من غير المسلمين.
وقالوا:
8 ـ ذكر التاريخ أن أبابكر لما أراد جمع القرآن، أمر عمر وزيد بن ثابت أن يقعدا على باب المسجد، وأن يكتبا ما شهد شاهدان على أنه من كتاب الله، وفي هذا شهادة على أن القرآن ليس خارقا للعادة، لأنه لو كان خارقا للعادة بنفسه لم يحتج إلى الشهادة عليه، ولكان بنفسه شاهدا على نفسه.
الجواب:
أولا: إن القرآن معجزة في بلاغته وأسلوبه، لا في كل كلمة من كلماته، وإذن فقد يقع الشك في تحريف بعض الكلمات المفردة، أو في زيادتها ونقصانها. وشهادة الشاهدين -إذا صحت أخبارها - إنما هي لرفع هذه الاحتمالات التي تعرض من سهو القارئ أو من عمده، على أن عجز البشر عن الإتيان بسورة من مثل القرآن لا ينافي قدرتهم على الإتيان بآية، أو ما يشبه الآية، فان ذلك أمر ممكن، ولم يدع المسلمون استحالة ذلك، ولم يذكره القرآن عند التحدي بالمعارضة.
ثانيا: إن هذه الأخبار التي دلت على جمع القرآن في عهد أبي بكر بشهادة شاهدين من الصحابة، كلها أخبار آحاد، لا تصلح أن تكون دليلا في أمثال ذلك.
ثالثا: إنها معارضة بأخبار كثيرة دلت على أن القرآن قد جمع في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وكان كثير من الصحابة يحفظ جميع القرآن. وأما الحافظون منهم لبعض سوره

ــ[94]ــ

وأجزائه فلا يعلم عددهم إلا الله تعالى. على أن النظرة العقلية البسيطة تشهد بكذب تلك الأخبار التي استدل بها الخصم. فإن القرآن هو السبب الأعظم في هداية المسلمين، وفي خروجهم من ظلمات الشقاء والجهل إلى نور السعادة والعلم، وقد بلغ المسلمون في العناية بالقرآن الدرجة القصوى، فقد كانوا يتلون آياته آناء الليل وأطراف النهار، وكانوا يتفاخرون في حفظه واتقانه ويتبركون بسوره وآياته، والنبي يحثهم على ذلك. فهل يحتمل عاقل بعد هذا كله أن يقع الشك فيه عندهم حتى يحتاج إثباته إلى شاهدين؟ وسنثبت ـ إن شاء الله تعالى ـ فيما يأتي أن القرآن كان مجموعا في عهد النبي (صلى الله عليه وآله).
وقالوا:
9 ـ إن للقرآن أسلوبا يباين أساليب البلغاء المعروفة، فقد خلط بين المواضيع المتعددة، فبينا هو يتكلم في التاريخ إذا به ينتقل إلى الوعد والوعيد، إلى الحكم والأمثال، إلى جهات أخرى. ولو كان القرآن مبوبا يجمع في كل موضوع ما يتصل به من الآيات، لكانت فائدته أعظم، وكانت الاستفادة منه أسهل.
الجواب:
إن القرآن أنزل لهداية البشر، وسوقهم إلى سعادتهم في الأولى والأخرى، وليس هو بكتاب تاريخ، أو فقه، أو أخلاق. أو ما يشبه ذلك ليعقد لكل من هذه الجهات بابا مستقلا. ولا ريب في أن أسلوبه هذا أقرب الأساليب إلى حصول النتيجة المقصودة، فإن القارئ لبعض سور القرآن يمكنه أن يحيط بكثير من أغراضه، وأهدافه في أقرب وقت وأقل كلفة، فيتوجه نظره إلى المبدأ والمعاد، ويطلع على

ــ[95]ــ

أحوال الماضين فيعتبر بهم. ويستفيد من الأخلاق الفاضلة، والمعارف العالية، ويتعلم جانبا من أحكامه في عباداته ومعاملاته. كل ذلك مع حفظ نظام الكلام، وتوفية حقوق البيان، ورعاية مقتضى الحال. وهذه الفوائد لا يمكن حصولها من القرآن إذا كان مبوبا، لأن القارئ لا يحيط بأغراض القرآن إلا حين يتم تلاوة القرآن جميعه، وقد يعوقه عائق عن الإتمام فلا يستفيد إلا من باب أو بابين.
ولعمري أن هذه إحدى الجهات المحسنة لأسلوب القرآن، الذي حاز به الجمال والبهاء، فإنه مع انتقاله من موضوع إلى موضوع يتحفظ على كمال الربط بينهما، كأن كل جملة منه درة في عقد منتظم، ولكن بغض الإسلام أعمى بصر هذا المستشكل وأصم سمعه، حتى توهم الجمال قبحا، والمحاسن مساوئ. على أن القرآن قد كرر بعض القصص مرارا بعبارات مختلفة، حسب المناسبات المقتضية للتكرار، فلو جمعت تلك العبارات كلها في باب واحد لانتفت تلك الفائدة الملحوظة، وكان التكرار لغير فائدة ملموسة للقارئ.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net