التحريف والسنة - ترخيص قراءة السور في الصلوة 

الكتاب : البيان في تفسـير القرآن - خطبـة الكتاب   ||   القسم : التفسير   ||   القرّاء : 4938

التحريف والسنة:
الدليل الثالث: أخبار الثقلين اللذين خلفهما النبي (صلى الله عليه وآله) في أمته وأخبر أنهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض، وأمر الأمة بالتمسك بهما، وهما الكتاب والعترة. وهذه

ــ[211]ــ

الأخبار متظافرة من طرق الفريقين (1) والاستدلال بها على عدم التحريف في الكتاب يكون من ناحيتين:
الناحية الأولى: ان القول بالتحريف يستلزم عدم وجوب التمسك بالكتاب المنزل لضياعه على الأمة بسبب وقوع التحريف، ولكن وجوب التمسك بالكتاب باقٍ إلى يوم القيامة، لصريح أخبار الثقلين، فيكون القول بالتحريف باطلاً جزماً.
وتوضيح ذلك:
أن هذه الروايات دلت على اقتران العترة بالكتاب، وعلى أنهما باقيان في الناس إلى يوم القيامة، فلابد من وجود شخص يكون قريناً للكتاب ولابد من وجود الكتاب ليكون قريناً للعترة، حتى يردا على النبي الحوض، وليكون التمسك بهما حافظاً للأمة عن الضلال، كما يقول النبي (صلى الله عليه وآله) في هذا الحديث. ومن الضروري أن التمسك بالعترة إنما يكون بموالاتهم، واتباع أوامرهم ونواهيهم والسير على هداهم، وهذا شيء لا يتوقف على الاتصال بالإمام، والمخاطبة معه شفاهاً، فإن الوصول إلى الإمام والمخاطبة معه لا يتيسر لجميع المكلفين في زمان الحضور، فضلاً عن أزمنة الغيبة، واشتراط إمكان الوصول إلى الإمام (عليه السلام) لبعض الناس دعوىً بلا برهان ولا سبب يوجب ذلك، فالشيعة في أيام الغيبة متمسكون بإمامهم يوالونه ويتبعون أوامره، ومن هذه الأوامر الرجوع إلى رواة أحاديثهم في الحوادث الواقعة، أما التمسك بالقرآن فهو أمر لا يمكن إلا بالوصول إليه، فلابد من كونه موجوداً بين الأمة، ليمكنها أن تتمسك به، لئلا تقع في الضلال، وهذا البيان يرشدنا إلى فساد المناقشة بأن القرآن محفوظ وموجود عند الإمام الغائب، فإن وجوده الواقعي لا يكفي لتمسك الأمة به.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدمت الإشارة إلى مصادر هذه الأخبار في ص 26 من هذا الكتاب.

ــ[212]ــ

وقد أشكل على هذا الدليل:
بأن أخبار الثقلين إنما تدل على نفي التحريف في آيات الأحكام من القرآن، لأنها هي التي أمر الناس بالتمسك بها، فلا تنفي وقوع التحريف في الآيات الأخرى منه.
وجوابه:
إن القرآن بجميع آياته مما أنزله الله لهداية البشر، وإرشادهم إلى كمالهم الممكن من جميع الجهات، ولا فرق في ذلك بين آيات الأحكام وغيرها، وقد قدمنا في بيان فضل القرآن أن ظاهر القرآن قصة وباطنه عظة، على أن عمدة القائلين بالتحريف يدعون وقوع التحريف في الآيات التي ترجع إلى الولاية وما يشبهها ومن البين أنها لو ثبت كونها من القرآن، لوجب التمسك بها على الأمة.
الناحية الثانية: أن القول بالتحريف يقتضي سقوط الكتاب عن الحجية، فلا يتمسك بظواهره، فلابد للقائلين بالتحريف من الرجوع إلى إمضاء الأئمة الطاهرين لهذا الكتاب الموجود بأيدينا، وإقرار الناس على الرجوع إليه بعد ثبوت تحريفه، ومعنى هذا: أن حجية الكتاب الموجود متوقفة على إمضاء الأئمة للاستدلال به، وأولى الحجتين المستقلتين اللتين يجب التمسك بهما، بل هو الثقل الأكبر، فلا تكون حجيته فرعاً على حجية الثقل الأصغر، والوجه في سقوط الكتاب عن الحجية - على القول بالتحريف - هو احتمال اقتران ظواهره بما يكون قرينة على خلافها، أما الاعتماد في ذلك على أصالة عدم القرينة فهو ساقط، فإن الدليل على هذا الأصل بناء العقلاء على اتباع الظهور، وعدم اعتنائهم باحتمال القرينة على خلافه، وقد أوضحنا في مباحث الأصول أن القدر الثابت من البناء العقلائي، هو عدم اعتناء العقلاء باحتمال وجود القرينة المنفصلة، ولا باحتمال القرينة المتصلة إذا كان سببه احتمال غفلة المتكلم عن البيان، أو غفلة السامع عن الاستفادة، أما احتمال وجود

ــ[213]ــ

القرينة المتصلة من غير هذين السببين، فإن العقلاء يتوقفون عن اتباع الظهور معه، ومثال ذلك: ما إذا ورد على إنسان كتاب ممن يجب عليه طاعته يأمره فيه بشراء دار، ووجد بعض الكتاب تالفا، واحتمل أن يكون في هذا البعض التالف بيان لخصوصيات في الدار التي أمر بشرائها من حيث السعة والضيق، أو من حيت القيمة أو المحل، فان العقلاء لا يتمسكون بإطلاق الكلام الموجود، اعتمادا على أصالة عدم القرينة المتصلة ولا يشترون أية دار امتثالا لأمر هذا الآمر، ولا يعدّون من يعمل مثل ذلك ممتثلا لأمر سيده.
ولعل القارئ يذهب به وهمه بعيدا، فيقول: إن هذا التقريب يهدم أساس الفقه، واستنباط الأحكام الشرعية، لأن العمدة في أدلتها هي الأخبار المروية عن المعصومين (عليهم السلام) ومن المحتمل أن تكون كلماتهم مقرونة بقرائن متصلة، ولم تنقل إلينا. ولو تأمل قليلا لم يستقر في ذهنه هذا التوهم، فإن المتبع في مقام الإخبار، هو ظهور كلام الراوي في عدم وجود القرينة المتصلة، فإن اللازم عليه البيان لو كان كلام المعصوم متصلا بقرينة، واحتمال غفلته عنها مدفوع بالأصل.
نعم إن القول بالتحريف يلزمه عدم جواز التمسك بظواهر القرآن، ولا يحتاج في إثبات هذه النتيجة إلى دعوى العلم الإجمالي باختلال الظواهر في بعض الآيات، حتى يجاب عنه بأن وقوع التحريف في القرآن لا يلزمه العلم الإجمالي المذكور، وبأن هذا العلم الإجمالي لا ينجز، لأن بعض أطرافه ليس من آيات الأحكام، فلا يكون له أثر في العمل، والعلم الإجمالي إنما ينجز إذا كان له أثر عملي في كل طرف من أطرافه.
وقد يدعي القائل بالتحريف: أن إرشاد الأئمة المعصومين (عليهم السلام) إلى الاستدلال بظواهر الكتاب، وتقرير أصحابهم عليه قد أثبت الحجية للظواهر، وإن سقطت قبل

ــ[214]ــ

ذلك بسبب التحريف.
ولكن هذه الدعوى فاسدة، فإن هذا الإرشاد من الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وهذا التقرير منهم لأصحابهم على التمسك بظواهر القرآن، إنما هو من جهة كون القرآن في نفسه حجة مستقلة، لا أنهم يريدون إثبات الحجية له بذلك ابتداء.
ترخيص قراءة السور في الصلاة:
الدليل الرابع: انه قد أمر الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) بقراءة سورة تامة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين من الفريضة، وحكموا بجواز تقسيم سورة تامة أو أكثر في صلاة الآيات، على تفصيل مذكور في موضعه.
ومن البين أن هذه الأحكام إنما ثبتت في أصل الشريعة بتشريع الصلاة وليس للتقية فيها أثر، وعلى ذلك فاللازم على القائلين بالتحريف أن لا يأتوا بما يحتمل فيه التحريف من السور، لأن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية. وقد يدعي القائل بالتحريف أنه غير متمكن من إحراز السورة التامة، فلا تجب عليه، لأن الأحكام إنما تتوجه إلى المتمكنين، وهذه الدعوى إنما تكون مسلمة إذا احتمل وقوع التحريف في جميع السور.
أما إذا كان هناك سورة لا يحتمل فيها ذلك كسورة التوحيد، فاللازم عليه أن لا يقرأ غيرها، ولا يمكن للخصم أن يجعل ترخيص الأئمة (عليهم السلام) للمصلي بقراءة أية سورة شاء دليلا على الاكتفاء بما يختاره من السور، وإن لم يجز الاكتفاء بها قبل هذا الترخيص بسبب التحريف، فإن هذا الترخيص من الأئمة (عليهم السلام) بنفسه دليل على عدم وقوع التحريف في القرآن وإلا لكان مستلزما لتفويت الصلاة الواجبة على المكلف بدون سبب موجب، فإن من البين أن الإلزام بقراءة السور التي يقع فيها تحريف

ــ[215]ــ

ليس فيه مخالفة للتقية، ونرى أنهم (عليهم السلام) أمرونا بقراءة سورة "القدر والتوحيد" في كل صلاة استحبابا، فأي مانع من الإلزام بهما، أو بغيرهما مما لا يحتمل وقوع التحريف فيه.
اللهم إلا أن يدعي نسخ وجوب قراءة السورة التامة إلى وجوب قراءة سورة تامة من القرآن الموجود، ولا أظن القائل بالتحريف يلتزم بذلك، لأن النسخ لم يقع بعد النبي (صلى الله عليه وآله) قطعا، وإن كان في إمكانه وامتناعه كلام بين العلماء، وهذا خارج عما نحن بصدده.
وجملة القول أنه لا ريب في أمر أهل البيت(عليهم السلام) بقراءة سورة من القرآن الذي بين أيدينا في الصلاة، وهذا الحكم الثابت من دون ريب ولا شائبة تقية إما أن يكون هو نفس الحكم الثابت في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإما أن يكون غيره، وهذا الأخير باطل لأنه من النسخ الذي لا ريب في عدم وقوعه بعد النبي (صلى الله عليه وآله) وإن كان أمرا ممكنا في نفسه، فلا بد وأن يكون ذلك هو الحكم الثابت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعنى ذلك عدم التحريف. وهذا الاستدلال يجري في كل حكم شرعي، رتبه أهل البيت (عليه السلام) على قراءة سورة كاملة، أو آية تامة.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net