تنبيهات القاعدة 

الكتاب : القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول) - ج3   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 6393

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)؛ ج‌3، ص: 547

و ينبغي التنبيه على أمور:

الأوّل:

أنّ الضرر كسائر العناوين- التي أخذت موضوعة للأحكام الإيجابيّة أو السلبيّة بنحو القضيّة الحقيقيّة- في عدم فعليّة حكم في مورد إلاّ مع تحقّق هذا العنوان فيه، فكما أنّ فعليّة وجوب إكرام كلّ أحد تابعة لصدق عنوان «العالم» عليه في قضيّة «أكرم العلماء» كذلك نفي كلّ حكم بالقياس إلى أيّ شخص تابع لضرريّته بالنسبة إليه، فإذا فرضنا أنّ الوضوء مثلا لبرد الهواء ضرريّ لجميع المكلّفين إلاّ واحدا منهم، لا يمكن القول بعدم وجوبه على هذا الشخص- الّذي لا يكون في حقّه ضرريّا- أيضا، و هل تكفي عالميّة نوع أهل البلد في وجوب إكرام من كان جاهلا منهم؟

و على هذا فلا معنى للبحث عن أنّ المنفي هو الضرر الشخصي أو النوعيّ، فالضرر المنفي كسائر العناوين المرفوعة مثل الخطأ و النسيان و ما اضطرّوا إليه و غير ذلك.

نعم، يمكن أن يكون الضرر النوعيّ حكمة لجعل حكم أو نفي حكم، كما في نظائره من اختلاط المياه، الّذي هو حكم لجعل العدّة في جميع الموارد، إلاّ أنّه لا يكون في المقام كذلك، ضرورة أنّه أخذ موضوعا للنفي كما أخذ الخطأ موضوعا للرفع و هكذا النسيان و غيره، لا حكمة له حتى يقال: إنّ الضرر النوعيّ موجب لرفع الحكم الضرري بالضرر النوعيّ عن جميع المكلّفين.

لا يقال: أفتى الفقهاء- رضوان اللّه عليهم- بثبوت خيار الشفعة‌

______________________________
(1) الكافي 5: 294- 8، الوسائل 25: 429، الباب 12 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 4.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 548‌

للشريك، و تمسّكوا لذلك بقاعدة لا ضرر مع أنّ بين الشفعة و الضرر- كما مرّ- عموما من وجه. و هكذا أفتوا بثبوت خيار الغبن للمغبون. و تمسّكوا له بهذه القاعدة مع أنّه ربّما لا يكون اللزوم ضرريّا للمغبون بل الفسخ يكون ضرريّا، كما إذا تنزّل ما باعه بثمانين- و كانت قيمته مائة- و صار حين الفسخ خمسين، فإنّ الفسخ موجب لتضرّره و إعطائه ثمانين و أخذه ما يساوي بخمسين، حيث نقص من ماليّته ثلاثون.

و لا معنى للتمسّك بالقاعدة في أمثال هذه الموارد إلاّ أن يكون الضرر المنفي نوعيّا لا شخصيّا.

فإنّه يقال: أمّا خيار الشفعة: فليس مدركه «لا ضرر» بل له دليل خاصّ، و ذكر قضاء النبي صلّى اللّه عليه و آله ب‍ «لا ضرر و لا ضرار» في ذيل قضائه بالشفعة «1» إمّا لكون الضرر حكمة أو لكون الجمع بين القضاءين من باب الجمع في الرواية لا الجمع في المرويّ كما ذكرنا.

و أمّا خيار الغبن: فهو أيضا ليس مدركه قاعدة لا ضرر، فإنّ مقتضاها بطلان العقد الغبني لا خياريته، إذ مع خياريته أيضا الضرر وارد على البائع مثلا، غاية الأمر أنّه يمكنه أن يتداركه بالفسخ، فضرريّة من جهة صحّته لا لزومه، بل المدرك هو تخلّف الشرط الضمني الثابت ببناء العقلاء في جميع معاملاتهم، و هو التسوية بين المالين، ضرورة أنّ كلّ عاقل في مقام المعاملة يعامل على أن يساوي ما يأخذه من صاحبه ما يعطيه، و تخلّفه يوجب الخيار بالسيرة القطعية العقلائية.

الأمر الثاني:

استشكل على القاعدة بأنّها مخصّصة بأكثر الأحكام، ضرورة‌

______________________________
(1) الكافي 5: 280- 4، التهذيب 7: 164- 727، الوسائل 25: 399- 400، الباب 5 من أبواب كتاب الشفعة، الحديث 1.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 549‌

أنّ باب الخمس و الزكاة و الحجّ و الجهاد و الضمانات و الجنايات بأجمعها ضرريّة، و هكذا بعض المحرّمات، كحرمة شرب المائعات من جهة نجاستها و نجاسة مثل الدهن و غيره بالملاقاة، فيلزم تخصيص الأكثر المستهجن.

و أجاب عنه الشيخ- قدّس سرّه- بأنّ ذلك إن كان بإخراج الأفراد عن تحت العامّ، فهو مستهجن قبيح، أمّا لو كان بعنوان يستوعب أكثر أفراد العامّ فلا «1».

و أشكل عليه صاحب الكفاية قدّس سرّه- و نعم الإشكال- بأنّ الأحكام المنفيّة أحكام خارجيّة ثابتة في الدين، فالقضيّة خارجيّة، و لا فرق في القضيّة بين إخراج أكثر الأفراد بعنوان مستوعب لأكثر أفراد العامّ و بين إخراجه بالتخصيص الأفرادي في كونه مستهجنا، فكما يستهجن قولنا: «قتل من في العسكر» و إخراج جميع الأفراد من زيد و عمرو و بكر إلى أن يبقى واحد أو اثنان كذلك يستهجن ذلك إذا أخرج هذا المقدار بعنوان يستوعبه «2».

و الصواب في الجواب أن يقال: أمّا باب الخمس و الزكاة: فخروجه من باب التخصّص لا التخصيص، فإنّ الشارع من الأوّل جعل الفقراء شركاء للزارعين و المالكين الذين تصل أموالهم الزكويّة إلى حدّ النصاب و يربحون في تجاراتهم، و اعتبر تسعة أعشار للمالك و عشرا للفقير مثلا، و هذا كما اعتبر للذكر مثل حظّ الأنثيين، و من المعلوم أنّ إعطاء ذي حقّ حقّه و أداء ما عنده أمانة إلى صاحبه و مالكه لا يكون ضررا على المعطي، فالخمس أو الزكاة بحسب اعتبار الشارع أمانة لصاحبيه و مستحقّيه عند من تعلّق عليه يجب ردّها إليهم.

و أمّا باب الضمانات بالإتلاف و اليد العادية- و كذا باب الجنايات- فهو أيضا كذلك، فإنّ القاعدة قاعدة امتنانيّة شرّعت امتنانا على جميع الأمّة، و من‌

______________________________
(1) فرائد الأصول: 316.

(2) حاشية فرائد الأصول: 169.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 550‌

الواضح أنّ الحكم بعدم ضمان المتلف لا يكون امتنانا على جميع الأمّة، فإنّه و إن كان امتنانا على المتلف إلاّ أنّه خلاف الامتنان بالنسبة إلى المتلف منه بل موجب لتضرّره. و هكذا الكلام في الجنايات، فهي مع الضمانات بأجمعها خارجة عن القاعدة موضوعا لا من باب التخصيص.

و أمّا باب الحجّ و الجهاد: فحيث إنّ كلاّ منهما كان مجعولا معروفا عند كلّ مسلم في زمان صدور الرواية، فإنّها صدرت في المدينة، و كان ضرريّا بالطبع يمكن دعوى انصراف الرواية عنهما، و لذا لم يكن لسمرة حقّ الاعتراض بأنّ الحجّ ضرري و الجهاد كذلك فكيف تقول: «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام»؟

بل بمقتضى كون القضيّة خارجيّة ناظرة إلى الأحكام المجعولة في الشريعة حاكمة عليها لا بدّ من الالتزام بأنّ الضرر المنفي هو الضرر الطارئ بعد جعل الحكم لا الطبعي المقوّم للحكم، فمفادها- سيّما بقرينة موردها- أنّ الأحكام الخارجيّة المجعولة التي لم تكن في طبعها ضرريّة إذا استتبعت للضرر و طرأ عليها ذلك، فهي منفيّة غير مجعولة، فكلّ حكم كان ضرريّا من أوّل جعله بمعنى أنّه كان حكما من الشارع بالضرر- لا أنّه لم يكن كذلك بل طرأه ذلك مثل الوضوء الضرري- كالحجّ و الجهاد و الخمس و الزكاة لم يكن مشمولا للقاعدة.

و الحاصل: أنّ الرواية لا تدلّ على نفي الأحكام الثابتة للموضوعات التي مقوّمها و محقّقها الضرر، فهذا الوجه سار في الجميع.

هذا، مضافا إلى أنّ نفس تلك الأحكام أيضا إذا طرأ عليها الضرر و استتبعت الضرر أزيد ممّا أخذ في متعلّقاتها و أكثر ممّا هو مقوّم لموضوعاتها، تكون مرتفعة ب‍ «لا ضرر» كما إذا كان الخمس أو الزكاة أو الحجّ مثلا موجبا لضرر آخر عليه كالضرب في طريق الحجّ و غيره.

و أمّا باب المحرّمات و النجاسات: فإن قلنا: إنّ الضرر عبارة عن النقص‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 551‌

في المال، فهو أيضا خارج موضوعا، فإنّ نجاسة الدهن مثلا لا تستلزم خروجه عن كونه مالا و لا ينقص بذلك عنه شي‌ء، بل توجب قلّة الانتفاع به و نقص ماليّته، و قلّة الانتفاع لا تكون ضررا. و هكذا غير الدهن من المائعات المتنجّسة، فإنّ الانتفاع بها- و لو بمثل الاستصباح و جعلها في الصابون، و البيع من الكفّار- و صرفها في الصبيان و البهائم ممكن.

و إن قلنا: إنّه عبارة عمّا هو أعمّ من النقص في المال و الماليّة، فهو من باب التخصيص، و لا ضير فيه بعد ما كان جميع ما سواه من باب التخصّص.

نعم، و رد الدليل على أنّ «ماء الوضوء يشترى بأغلى ثمن» «1» فهو أيضا من باب التخصيص و لكن يقتصر على مورده، و لا نتعدّى إلى غيره. و هكذا وردت روايات على أنّ «من أجنب متعمّدا يجب عليه الغسل و لا ينتقل فرضه إلى التيمّم و لو ترتّب على غسله ضرر» «2» لكن لم يعمل بها الأصحاب. فاتّضح عدم لزوم تخصيص الأكثر.

بل لو فرضنا أنّ خروج جميع هذه الموارد من باب التخصيص أيضا لا يلزم ذلك، لما عرفت من أنّ هذه الموارد أيضا إذا ترتّب عليها ضرر زائدا على الضرر الطبعيّ الموجود في متعلّقه تكون مشمولة للقاعدة، فإذا ضممنا إليها جميع الواجبات و المحرّمات الضرريّة التي تكون مشمولة للقاعدة، تكون الأفراد الداخلة أكثر بمراتب من الأفراد الخارجة، بل هي بالقياس إليها أقلّ قليل.

و بذلك ظهر أنّ القول بأنّ القاعدة لا يجوز التمسّك بها إلاّ في خصوص‌

______________________________
(1) الكافي 3: 74- 17، الفقيه 1: 23- 71، التهذيب 1: 406- 1276، الوسائل 3:

389، الباب 26 من أبواب التيمّم، الحديث 1.

(2) انظر الوسائل 3: 373، أحاديث الباب 17 من أبواب التيمّم.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 552‌

الموارد التي تمسّك بها المشهور- كقاعدة الميسور- لأجل ذلك لا وجه له.

الأمر الثالث: في بيان النسبة بين دليل «لا ضرر» و أدلّة الأحكام.

ذكروا أنّ النسبة بينه و بين كلّ واحد من أدلّة الأحكام عموم من وجه، فإنّ دليل الوضوء مثلا شامل لمورد الضرر و غيره، و هكذا دليل «لا ضرر» يشمل الوضوء الضرري و غيره.

فذهب بعض إلى تقديم قاعدة «لا ضرر» و ترجيح دليلها، لعمل المشهور على طبقها، فيعمل بها في الموارد التي عمل بها المشهور.

و آخر إلى تساقطهما و الرجوع إلى ما ينتج نتيجة العمل بالقاعدة، و هو أصل البراءة عن وجوب الوضوء في المثال.

و ثالث إلى تقديم دليل «لا ضرر» نظرا إلى أنّ النسبة تلاحظ بين مجموع الأحكام و دليل «لا ضرر» فإنّه ناظر إلى نفي الضرر في الإسلام، و ليس الإسلام إلاّ مجموع هذه الأحكام، و من المعلوم أنّ النسبة بينهما عموم مطلق، فيقدّم دليل الخاصّ- و هو «لا ضرر»- على مجموع أدلّة الأحكام الشاملة لحال الضرر و غيره.

و رابع إلى تقديم دليل «لا ضرر» و إن كان أعمّ من وجه من كلّ واحد من أدلّة الأحكام كلاّ من جهة أنّ تقديم أدلّة الأحكام على دليل «لا ضرر» موجب لصيرورته بلا مورد، و ترجيح بعضها عليه دون بعض ترجيح بلا مرجّح، فيتعيّن ترجيح دليل «لا ضرر» لئلا يلزم هذان المحذوران.

و هناك مرجّح خامس، و هو ما أفاده صاحب الكفاية- قدّس سرّه- من تقديم ما يتكفّل لحكم العنوان الثانوي على ما يتكفّل لحكم العنوان الأوّلي عرفا، و أنّ العرف يحملون الثاني على إرادة الحكم الاقتضائي، و الأوّل على الفعلي، فمقتضى الجمع العرفي حمل دليل وجوب الوضوء على بيان الحكم‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 553‌

الاقتضائي، و دليل «لا ضرر» على النفي الفعلي للوضوء الضرري «1».

و جميع هذه الوجوه مبنيّة على أساس التعارض، و يأتي إن شاء اللّه في بحث التعادل و التراجيح أنّه لا تعارض أصلا، و أنّ دليل «لا ضرر» حاكم على أدلّة الأحكام و ناظر إليها، و لا تلاحظ النسبة بين الحاكم و المحكوم أبدا.

و لو سلّم التعارض، فليس شي‌ء من هذه الوجوه بتامّ.

أمّا عمل المشهور: فلا يصلح للترجيح إلاّ في صورة الاستناد، و أمّا مجرّد الإفتاء على طبق رواية من دون استناد إليها- كما في المقام- فلا يفيد شيئا، مع أنّه لا يجري في العامّين من وجه.

و أمّا التساقط و الرجوع إلى الأصل: فهو و إن كان تامّا في المطلقين اللذين بينهما عموم إطلاقي من وجه إلاّ أنّ أصل البراءة عن وجوب الوضوء الضرري لا يثبت انتقال فرضه إلى التيمّم.

و أمّا ملاحظة النسبة بين مجموع الأحكام و دليل لا ضرر: فهي ساقطة من أصلها، إذ مجموع أدلّة الأحكام ليس دليلا واحدا أو حكما فاردا حتى تلاحظ النسبة بينه و بين دليل «لا ضرر» بل «لا ضرر» قضيّة انحلاليّة ناظرة إلى كلّ واحد من الأحكام، فدليل كلّ يعارض دليل «لا ضرر».

و أمّا تقديم دليل «لا ضرر» من جهة أنّه لولاه لما يبقى له مورد أصلا: فهو أيضا غير وجيه، و هذا الوجه ذكر في تقديم أدلّة الأمارات على الأصول أيضا لتوهّم التعارض و كون كلّ من دليل الأمارة و الأصل عامّا من وجه و خاصّا من وجه، و لا أساس له في كلا المقامين، و له تفصيل يأتي في محلّه إن شاء اللّه.

و مجمله أنّه إذا فرضنا ورود دليل على استحباب إكرام العالم، و آخر على‌

______________________________
(1) كفاية الأصول: 433- 434.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 554‌

كراهة إكرام الجاهل، و ثالث على حرمة إكرام الفاسق، فنسبة الثالث إلى كلّ من الأوّلين على انفراده عموم من وجه، و إلى مجموعهما تباين، إذ الفاسق إمّا عالم أو جاهل، و على كلّ لا يحرم إكرامه بمقتضى الأوّلين، و حيث إنّ كلاّ من الثلاثة نصّ بالقياس إلى بعض مدلوله و ظاهر في جميع مدلوله لا يمكن الجمع بينها بالأخذ بالأوّلين و رفض الثالث لنصوصيّته أيضا في الجملة، و لذلك يقع التعارض بينه و بين الأوّلين، و لا بدّ من الرجوع إلى المرجّحات، فإن كان المرجّح للثالث، يقدّم عليهما، و إن كان المرجّح لهما، يقدّمان عليه، و يبقى الثالث بلا مورد، و لا مانع منه، و إن كان المرجّح لأحد الأوّلين يقدّم الراجح فقط.

و يجري هذا الكلام في العموم و الخصوص مطلقا أيضا، كما إذا ورد دليل على وجوب إكرام العالم، و آخر على استحباب إكرام الجاهل، و ثالث على حرمة إكرام الفاسق.

و بالجملة، ففي المقام لا بدّ من الرجوع إلى المرجّحات، فإن كان في دليل «لا ضرر» يقدّم، و إن كان في كلّ واحد من أدلّة الأحكام، يقدّم الجميع عليه، و إن كان في بعضها دون بعض، يقدّم ما فيه المرجّح فقط.

و أمّا حمل دليل الحكم الأوّلي على إرادة بيان الحكم الاقتضائي: فلا نعقل له معنى محصّلا، لأنّ مراده- قدّس سرّه- من الحكم الاقتضائي إن كان أنّه ليس حكما مولويّا بل يكون حكما إرشاديّا يرشد إلى وجود المصلحة في متعلّقه، فهو- مضافا إلى أنّه خلاف ظاهر الأدلّة- لازمه عدم وجود الدليل على وجوب الوضوء غير الضرري، إذ المفروض أنّ الحكم حمل على الإرشاد إلى وجود المقتضي له و ثبوت المصلحة، فبأيّ دليل نتمسّك لإثبات وجوب الوضوء؟

و صرف وجود المصلحة في شي‌ء ما لم يأمر المولى مولويّا بذي المصلحة‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 555‌

لا يفيد في الحكم بالوجوب.

و إن كان حكما مولويّا، فما معنى كونه حكما مولويّا و مع ذلك ليس بفعليّ؟ إذ الحكم بأيّ معنى كان- سواء كانت حقيقته الإرادة أو الاعتبار أو جعل الداعي- إذا تحقّق في الخارج، فبمجرّد فعليّة موضوعه يصير فعليّا، و إذا لم يتحقّق، فلا حكم في البين.

هذا، مضافا إلى ما ذكرنا من لزوم عدم الدليل على وجوب الوضوء غير الضرري مثلا، فإنّ الحكم الاقتضائي لا امتثال له، فإذا حمل دليل وجوب الوضوء على الحكم الاقتضائي المولوي بمقتضى دليل «لا ضرر» فليس لنا دليل يدلّ على وجوب الوضوء فعلا، لاحتمال وجود مانع آخر غير الضرر، و لا أثر لوجوبه الاقتضائي.

فظهر أنّ الصحيح ما ذكر من عدم المعارضة بين دليل «لا ضرر» و كلّ واحد من أدلّة الأحكام لأجل حكومته عليه، فيقدّم من غير ملاحظة النسبة.

ثمّ إنّه لا بدّ من تحقيق أمور ثلاثة: معنى الحكومة، و أنّها ثابتة في المقام، و الوجه في تقديم دليل الحاكم على دليل المحكوم.

أمّا الأوّل: فالحكومة الواقعيّة- التي هي مربوطة بالمقام- هي أن يكون أحد الدليلين ناظرا إلى الدليل الآخر و مبيّنا و شارحا للمراد الجدّي من الدليل الآخر.

و بعبارة أخرى: يكون مفاد أحد الدليلين هو النتيجة المترتّبة على تقديم أحد الدليلين المتعارضين لأقوائيّته في الدلالة من الحكم بكون المراد الجدّي من «أكرم العلماء» مثلا غير عنوان الخاصّ الّذي هو «لا تكرم الفسّاق منهم» و أنّ العالم الفاسق غير مراد من العامّ في «أكرم العلماء» فالدليل الحاكم ما يتكفّل هو بنفسه لذلك، و هو على أقسام:

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 556‌

قسم يكون بلسان «عنيت» و «أردت» و ما يرادف ذلك، و هذا قليل في الغاية، بل لم نظفر عليه في الروايات إلاّ في مورد أو موردين، و الّذي أذكر قوله عليه السلام مضمونا: «أردت به الشكّ بين الثلاث و الأربع» بعد ما اتّفق للسائل السؤال عن قوله عليه السلام: «الفقيه لا يعيد الصلاة» «1».

و قسم آخر يكون دليل الحاكم ناظرا إلى عقد الوضع و مبيّنا لسعة دائرة موضوع دليل المحكوم أو ضيقها، و هذا كثير شائع بل أغلب موارد الحكومة من هذا القبيل.

فمن أمثلة ما يكون دليل الحاكم مضيّقا لموضوع دليل المحكوم:

«لا شكّ لكثير الشكّ» و وجه كونه ناظرا إلى أدلّة الشكوك: أنّ سلب الشكّ عن كثير الشكّ لا يمكن أن يكون سلبا حقيقيّا، ضرورة أنّ لازمه سلب الشي‌ء عن نفسه، فلا محالة يكون ناظرا إلى الأحكام الثابتة على عنوان الشكّ و رافعا لموضوعيّة شكّ كثير الشكّ لهذه الأحكام واقعا، و مبيّنا لأنّ المراد الجدّي من الشكّ المأخوذ في موضوعها هو غير هذا الفرد من الشكّ.

و من أمثلة ما يكون دليل الحاكم ناظرا إلى موضوع دليل المحكوم و مبيّنا لسعته: «الطواف بالبيت صلاة» فإنّه ناظر إلى إدخال الطواف في موضوع أحكام الصلاة و توسعته و مبيّن لترتّب أحكام الصلاة عليه و اعتبار ما يعتبر في الصلاة من الطهارة و الستر و غير ذلك من الشرائط فيه. و هكذا «الفقاع خمر استصغره الناس» «2» و قوله عليه السلام: «تلك الخمرة المنتنة» «3» مشيرا إلى العصير العنبي بعد‌

______________________________
(1) التهذيب 2: 193- 760، الاستبصار 1: 375- 1424، الوسائل 8: 215، الباب 9 من أبواب الخلل، الحديث 3، و ليس فيها في الموضع الثاني قوله: عليه السلام.

(2) الكافي 6: 423- 9، التهذيب 9: 125- 540، الاستبصار 4: 95- 369، الوسائل 25: 365، الباب 28 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 1.

25: 365، الباب 28 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 1.

(3) الكافي 1: 350- 6 و 6: 416- 3، التهذيب 1: 220- 629، الاستبصار 1: 16- 29، الوسائل 1: 230، الباب 2 من أبواب الماء المضاف و المستعمل، الحديث 2.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 557‌

الغليان.

و قسم ثالث يكون دليل الحاكم ناظرا إلى عقد الحمل و شارحا لسعة دائرة حكم دليل المحكوم و ضيقها. و هذا القسم أيضا- كالقسم الأوّل- قليل، و ينحصر ظاهرا في موردين: «لا حرج في الدين» و «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام».

بيانه: أنّ نفي الحرج و الضرر ليس نفيا لهما في الخارج بل النفي يتعلّق بالأحكام الحرجيّة و الضرريّة على التقريب السابق، فلا محالة لا بدّ أن يكون هناك أحكام مجعولة مطلقة من حيث الضرر و الحرج و عدمهما حتى يكون «لا حرج» و «لا ضرر» ناظرين إلى تلك الأحكام و مضيّقين لدائرتها و شارحين لأنّ المراد الجدّي منهما هو ما لا يستلزم الحرج و الضرر.

و الجامع بين جميع الأقسام أن يكون أحد الدليلين بحيث يكون لغوا لو لم يكن الدليل الآخر، فإنّ دليل «لا ربا بين الوالد و الولد» لو لم يكن دليل حَرَّمَ الرِّبٰا يكون لغوا محضا، إذ المفروض أنّه لا يستفاد منه حكم، و لم يثبت حكم على الرّبا حتى يكون نافيا له، و ليس المراد منه تضييق دائرة معنى الرّبا لغة و أنّ الزيادة بين الوالد و الولد ليس من الرّبا لغة بالضرورة، و هكذا في سائر موارد الحكومة، و هذا بخلاف ما إذا كان نفي الحرمة بلسان التخصيص، مثل ما إذا ورد «الرّبا بين الوالد و الولد ليس بحرام» فإنّه كلام مفيد للحكم الترخيصي و لو لم يكن حَرَّمَ الرِّبٰا أصلا.

و ممّا ذكرنا ظهر ثبوت الأمر الثاني و أنّ دليل «لا ضرر» حاكم على أدلّة الأحكام الأوّليّة و ناظر إليها.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 558‌

ثمّ إنّ شيخنا الأستاذ قدّس سرّه- على ما نسب إليه الشيخ موسى «1» رحمه اللّه- ذهب إلى أنّ دليل المحكوم لا بدّ من تقدّمه على دليل الحاكم زمانا بخلاف دليل المخصّص، فإنّه يمكن أن يتقدّم على دليل العامّ و يمكن أن يتأخّر عنه.

و لا يخفى ما فيه، إذ التقدّم رتبة- من حيث كون الشارح رتبته متأخّرة عمّا يشرحه- فنعم، أمّا التقدّم زمانا فلا يعتبر أصلا، ضرورة أنّه من الممكن أن يقول الشارع: أيّها الناس اعلموا أنّ الأحكام التي أجعلها بعد ذلك إذا كانت ضرريّة أو حرجيّة، غير مجعولة، و اعلموا أنّ أحكام الشكّ التي أجعلها بعد ذلك لا تترتّب على شكّ كثير الشكّ.

فعلى هذا لو فرضنا أنّ دليل «لا ضرر» ورد في أواسط البعثة، يرفع الأحكام الضرريّة المتأخّرة عن زمان الورود كما يرفع الأحكام المتقدّمة عليه، و لا يلزم في نفي جميع الأحكام الضرريّة ورود «لا ضرر» آخر زمان البعثة بحيث يكون هذا الحكم آخر حكم صدر في الشريعة و هذه القضيّة أخرى قضيّة من قضايا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما هو واضح.

أمّا الثالث من الأمور: فوجه تقديم دليل الحاكم- الّذي يكون ناظرا إلى عقد الوضع- على دليل المحكوم مع كون النسبة بينهما عموما من وجه- كما في «لا شكّ لكثير الشكّ» الناظر إلى دليل «من شكّ بين الثلاث و الأربع»- أنّ دليل المحكوم يثبت الحكم لعنوان الشكّ على تقدير وجوده بنحو القضيّة الحقيقيّة، و لا يتكفّل لإثبات وجود الموضوع و نفيه، و دليل «لا شكّ لكثير الشكّ» ينفي الشكّ عن كثير الشكّ، و يخرجه عن موضوع ذاك الدليل، فكلّ من الحاكم و المحكوم في هذا القسم يتكفّل لإثبات شي‌ء أو نفي شي‌ء أجنبيّ عمّا يثبته أو‌

______________________________
(1) انظر قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب): 225.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 559‌

ينفيه الآخر، و لا يرد النفي و الإثبات على شي‌ء واحد، بل يتكفّل أحدهما لما لا يتكفّل له الآخر، فلا تمانع بينهما و لا تعارض، و هذا بخلاف باب التخصيص، فإنّ كلّ واحد من الدليلين في «أكرم العلماء» و «لا تكرم الفسّاق» يثبت ضدّ ما يثبته الآخر، فإنّ الأوّل يثبت وجوب إكرام العالم الفاسق، و الثاني يثبت حرمة إكرام العالم الفاسق، و في «يجب إكرام العلماء» و «لا يجب إكرام الفسّاق» يثبت الأوّل ما ينفيه الثاني، فالتعارض من جهة أنّ مركز النفي و الإثبات أمر واحد في هذا الباب.

و عدم التعارض في هذا القسم من الحكومة من جهة أنّ محطّ الإثبات شي‌ء و محطّ النفي شي‌ء آخر، فدليل وجوب الحجّ يثبت الحجّ على من فرض استطاعته، و لا يتكفّل لشي‌ء آخر، فإذا فرض ورود دليل على أنّ «من رجع عن الحجّ غير مالك لمئونة سنته ليس بمستطيع» فلا تنافي بينه و بين الأوّل أصلا، لأنّه ينفي ما لا يكون الأوّل مثبتا له و هو استطاعة هذا الشخص.

و أمّا وجه التقديم في القسمين الآخرين- يعني ما تكون الحكومة فيه بلسان «عنيت» و «أردت» أو ناظرة إلى عقد الحمل- فهو الوجه في تقديم الأمارات على الأصول بملاك واحد. و الوجه المشترك بين المقامين هو: أنّ أحد الدليلين إذا أثبت حكما لعنوان و الدليل الآخر بيّن المراد من ذلك العنوان، لا يعدّ الثاني معارضا للدليل الأوّل، فإذا سأل زرارة عن الصادق عليه السلام عن حكم العالم، فقال: «أكرم العلماء» و قال محمد بن مسلم مثلا لزرارة: إنّه عليه السلام قال:

«إنّ مرادي بالعلماء هو العدول منهم» لا يكون تناف و تمانع بينهما أصلا نعم، يكون منافيا لأصل ثابت ببناء العقلاء، و هو أصالة الظهور عند الشكّ في المراد، فتكون المعارضة بين الأصل و الدليل لا بين الدليلين، و من المعلوم أنّ الدليل يتقدّم على الأصل.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 560‌

و الحاصل: أنّ أصالة الظهور و إن كانت تقتضي حمل لفظ «الأسد» على الحيوان المفترس إلاّ أنّه إذا دلّ دليل على إرادة الرّجل الشجاع منه، فلا يبقى مجال لأصالة الظهور. و هكذا أصالة الحلّ و إن كانت مقتضية لحلّيّة ما شكّ في خمريّته إلاّ أنّه إذا قامت البيّنة على أنّه خمر لا مجال لها، ضرورة أنّ موضوع أصالة الظهور هو الشكّ في المراد، و موضوع أصالة الحلّ الشكّ في الحلّيّة و الدليل بيّن المراد و بيّن خمريّته و رفع الشكّ تعبّدا، فلا يبقى للأصل موضوع أصلا.

و هذا البيان يجري في كلّ قرينة بالقياس إلى ذيها، فكلّ ما ورد قرينة لشي‌ء و لو كان ظهوره أضعف الظهورات يتقدّم عليه و لو كان ظهوره أقوى الظهورات.

و السرّ ما ذكرنا من أنّ ظهور ذي القرينة- أيّا مّا كان عامّا أو مطلقا أو غيرهما- و حجّيّته من جهة أصالة الظهور عند الشكّ في المراد، و القرينة ظهورها يرفع موضوع هذا الأصل.

ففي المقام الدليل الناظر إلى عقد الحمل و الشارح لأنّ الأحكام الضرريّة و الحرجيّة غير مجعولة لا ينافي أدلّة الأحكام المطلقة من حيث الضرر و عدمه، بل المنافاة بينه و بين أصالة الإطلاق، الثابتة عند الشكّ في المراد، و من الواضح أنّه لا مورد لها بعد معلوميّة المراد بسبب دليل «لا حرج» و «لا ضرر» و بذلك يصحّ أن يقال: إنّ دليل الحاكم في جميع أقسام الحكومة رافع للموضوع إمّا موضوع نفس دليل المحكوم كما في «لا شكّ لكثير الشكّ» أو موضوع الأصل العقلائي الجاري فيه، و هو الشكّ في المراد.

الأمر الرابع: أنّ الضرر المنفيّ هو الضرر الواقعي لا الضرر المعلوم عند المكلّف،

ضرورة أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة لا المعلومة عند‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 561‌

المتكلّم.

و لكن ربّما يستشكل في ذلك بأنّهم تسالموا بحسب الظاهر على صحّة الوضوء و الغسل و الصوم الضرريّة عند اعتقاد عدم الضرر، و هكذا أفتوا بلزوم البيع الغبني مع علم المغبون بالغبن، و هذا لا يجتمع مع القول بأنّ المنفيّ هو الضرر الواقعي.

و لكن لا يخفى خروج الأخير عن محلّ الكلام، لما تقدّم من أنّ مدرك خيار الغبن ليس هو قاعدة لا ضرر، بل هو تخلّف الشرط الضمني المبني عليه في كلّ معاملة ببناء العقلاء، و هو التسوية بين العوضين في الماليّة، و مع العلم بعدم المساواة و الإقدام على أخذ ما لا يساوي ما يعطيه في الماليّة عن علم ليس هناك تخلّف شرط حتى يوجب الخيار، فاللزوم على حسب القاعدة.

و أجيب عن الباقي بوجوه:

أحدها: ما هو المعروف من أنّ القاعدة واردة في مقام الامتنان، و الامتنان في أمثال ما ذكر يقتضي الحكم بالصحّة لا بالبطلان، و قد تقدّم نظير ذلك في موردين:

أحدهما: في باب تعذّر بعض الأجزاء أو الشرائط من عدم جريان البراءة عن وجوب الجزء أو الشرط حال التعذّر، لكونها خلاف الامتنان، فإنّ لازمه ثبوت التكليف بما عدا المتعذّر، بخلاف ما إذا لم تجر البراءة و كان شرطا مطلقا حتى حال التعذّر، فإنّ لازمه سقوط التكليف بالمرّة.

و الآخر: ما ذكرنا من عدم جريان حديث الرفع بالنسبة إلى من اضطرّ إلى بيع داره بحيث لو لم يبع داره يموت جوعا، لكونه أيضا خلاف الامتنان، بل الامتنان يقتضي الحكم بصحّته.

و في المقام أيضا رفع مثل هذا الضرر يوقع المكلّف في كلفة التيمّم، و هو‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 562‌

خلاف الامتنان، بل الامتنان يقتضي أن يكون وضوؤه مأمورا به حتى لا يجب عليه شي‌ء آخر.

و ثانيها: ما ذكره شيخنا الأستاذ «1»- قدّس سرّه- من أنّ مفاد «لا ضرر» لو كان نفي الموضوع الضرري- كما اختاره صاحب الكفاية «2»- فللإشكال مجال على تقدير عدم تماميّة الجواب الأوّل.

أمّا إذا كان مفاده نفي الحكم الناشئ منه الضرر- كما هو المختار تبعا للشيخ «3» قدّس سرّه- فيرتفع الإشكال، فإنّ الضرر في هذه الموارد لم ينشأ من حكم الشارع بالوجوب حتى يرتفع، بل نشأ من اعتقاد المكلّف بالوجوب، و لذا لو لم يكن في الواقع واجبا لوقع في الضرر أيضا.

و لا يخفى ما فيه، فإنّ مفاد «لا ضرر» ليس نفي الضرر الخارجي، بل مفاده- كما ذكرنا- نفي الضرر في عالم التشريع، و من المعلوم أنّ إيجاب الوضوء الضرري جعل للضرر في عالم التشريع سواء وصل ذلك إلى المكلّف و علم به و امتثله أو لم يصل أو وصل و عصى، و نفيه نفي للضرر في عالم التشريع.

و التحقيق أن يقال: لا بدّ في رفع الإشكال من الالتزام بأحد أمرين: إمّا إنكار حرمة الإضرار بالنفس في غير النّفس و الطرف و دعوى أنّه لا دليل على عدم جواز أن يهب أحد جميع ماله لغيره و لو مع عدم قصد التقرّب، و هكذا أمثال ذلك ممّا يوجب الضرر على النّفس، أو عدم إنكار ذلك و البناء على الحرمة كما ادّعى الشيخ- قدس سره- دلالة الأدلّة السمعيّة و العقليّة عليها «4»، و إنكار‌

______________________________
(1) قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب): 215.

(2) كفاية الأصول: 432.

(3) رسالة في قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع المكاسب): 372.

(4) رسالة في قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع المكاسب): 373.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 563‌

عدم ترشّح الحرمة من العناوين التوليديّة المحرّمة إلى ما يتولّد منها.

و أمّا مع الالتزام بكلا الأمرين فلا يمكن الحكم بصحّة هذه العبادات أصلا، بل لا مناص عن الحكم بالبطلان لا من جهة قاعدة لا ضرر، لما ذكرنا من أنّ شمولها لأمثال ذلك خلاف الامتنان، بل من جهة أنّ الوضوء الضرري- مع العلم بعدم كونه ضرريّا بعد تسليم أنّ الإضرار بالنفس كالإضرار بالغير محرّم من المحرّمات الذاتيّة و تسليم أنّ الحرمة تترشّح من عنوان الإضرار المحرّم إلى ما يتولّد منه و هو الوضوء- يقع مبغوضا و حراما [1]، و لا ريب في أنّ الحرام و المبغوض لا يصلح لأنّ يتقرّب به.

فما نسب إلى المشهور من حرمة الإضرار بالنفس و مبغوضيّة الوضوء المضرّ لا يجتمع مع الحكم بصحّة الوضوء الضرري حال الجهل بالضرر و اعتقاد عدمه، ضرورة عدم مدخليّة العلم و الجهل في الحرمة، و مع كونه حراما كيف يكون مقرّبا!؟

و نظير ذلك ما ذكروا في باب الصلاة في المكان المغصوب من صحّة الصلاة مع الجهل بالغصبيّة.

و لا وجه له أيضا، بل لا بدّ من الحكم بالبطلان و وجوب الإعادة أو القضاء بعد الانكشاف و العلم بالغصبيّة إلاّ على القول بجواز اجتماع الأمر و النهي، بل لا بدّ من الحكم ببطلان كلّ عبادة اتّحدت مع عنوان الحرام.

______________________________
[1] أقول: إنّ المانع عن وقوع العمل محبوبا هو كونه مبغوضا، و الحرام عند الجهل بالحرمة- كما هو المفروض فيما نحن فيه- و إن كان حراما إلاّ أنّه غير مبغوض للمولى، و لا دليل على الملازمة بين الحرمة و المبغوضية لا عقلا و لا شرعا، فبناء عليه لا إشكال في صحة الوضوء الضرري المحرّم عند الجهل بالضرر و اعتقاد عدمه، لأنّه غير مبغوض للمولى و إن كان حراما، فيقع حراما غير مبغوض، فلا مانع من شمول الأدلّة العامّة و المطلقة، فالصحيح ما ذهب إليه المشهور من صحة الوضوء المذكور. (م).

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 564‌

هذا، و لكن للإشكال في صحّة مثل الوضوء الضرري باعتقاد عدم الضرر مدفع، و هو أنّ البطلان- كما ذكرنا- يبتني على أمرين: الالتزام بترشّح الحرمة عن العنوان التوليدي بما يتولّد منه، و الالتزام بحرمة إضرار النّفس.

فالأولى تنقيح هذين الأمرين:

أمّا الأوّل: فقد مرّ تفصيله في مباحث الألفاظ، و إجماله أنّ عنوان المحرّم مع ما يتولّد منه إن كانا في نظر العرف موجودين بوجود واحد و إن كان لهما وجودان متغايران بالدقّة الفلسفيّة، يكون ما يتولّد منه أيضا محرّما، و هذا كما في عنوان التعظيم المتولّد من القيام و عنوان الهتك المتولّد من الشتم مثلا، فإنّ نفس القيام و الشتم عند العرف تعظيم و هتك، و لا يرون القيام موجودا و التعظيم موجودا آخر، فإذا كان الوجود واحدا، فالإيجاد أيضا واحد، لتبعيّة الإيجاد للوجود وحدة و تعدّدا، فإنّهما متّحدان بالذات متغايران بالاعتبار.

و إن كان لكلّ منهما وجود مغاير لوجود الآخر عرفا، كعنوان إحراق الحطب المتولّد من إلقاء الحطب في النار، لا تترشّح الحرمة منه إلى المتولّد منه، فإنّ وجود المماسّة و الملاقاة مع النار غير وجود الحرقة، فإذا تعدّد الوجود، تعدّد الإيجاد، فالإحراق عبارة عن إيجاد الحرقة، و الإلقاء عبارة عن إيجاد الملاقاة بين الجسمين، و مع تعدّد الإيجاد عرفا لا يسري الحكم من عنوان المحرّم إلى ما يتولّد منه.

و بالجملة، في الفرض الأوّل يرى العرف ما يتولّد منه مصداقا للمحرّم، بخلاف الثاني، و المقام من قبيل الأوّل [1]، فإنّ نفس أكل السمّ أو ما يوجب وجع‌

______________________________
[1] أقول: الحقّ أنّ المقام من قبيل الثاني، فإنّ الوضوء عبارة عن الغسلات و المسحات، و هذا سبب و علّة للضرر و هو الحمّى مثلا، فإذا بنينا على عدم السراية في القسم الثاني، فلا وجه لبطلان الوضوء بتعدّد عنوان الإضرار المحرّم و الوضوء. (م).

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 565‌

العين أو غير ذلك يكون مصداقا للإضرار عرفا، فإن كان الإضرار حراما، فالوضوء أو الصوم أو غير ذلك ممّا يوجب نقصا في النّفس يكون مصداقا للإضرار بالنفس حقيقة.

و أمّا الثاني: فادّعى الشيخ- قدّس سرّه- دلالة الأدلّة السمعيّة و العقليّة عليه، و لكن لم يظهر لنا دليل يدلّ على ذلك.

نعم، خصوص الإلقاء في التهلكة حرام قطعا بمقتضى قوله تعالى:

وَ لٰا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ «1» و هكذا قطع اليد و الرّجل و أمثال ذلك ممّا يقطع بحرمته بالإجماع، أمّا مثل فعل يوجب شدّة وجع العين، أو الحمّى يوما أو يومين، و أمثال ذلك فممّا لا يدلّ على حرمته عقل و لا نقل.

و قوله عليه السلام: «الجار كالنفس لا مضارّ و لا آثم» «2» أجنبيّ عن المقام، فإنّ الجار في هذه الرواية نزّل منزلة النّفس، فكما أنّ الشخص لا يضرّ نفسه و لا يعدّ نفسه آثما أيّ لا يعدّ فعله إثما كذلك يجب عليه أن لا يضرّ جاره و لا يعدّ فعل جاره إثما.

و هكذا قاعدة لا ضرر أيضا أجنبيّة عن حكم الإضرار بالنفس، و إنّما ما تنفيه القاعدة هو الإلزام المستلزم للإضرار بالنفس أو الغير لا جواز الإضرار بالنفس، و اعترف بذلك الشيخ «3» قدّس سرّه أيضا، فلا دليل على حرمة الإضرار بالنفس مطلقا كما في الإضرار بالغير، الّذي دلّت عليه روايات كثيرة، منها:

قوله عليه السلام، المرويّ من طرق العامّة و الخاصّة: «المسلم من سلم المسلمون من‌

______________________________
(1) البقرة: 195.

(2) الكافي 5: 292- 1، التهذيب 7: 146- 650، الوسائل 25: 428، الباب 12 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 2.

(3) رسالة في قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع المكاسب): 373.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 566‌

يده و لسانه» «1» بل جواز الإضرار بالنفس في الجملة من بديهيّات الفقه، و هل يلتزم أحد بحرمة الإضرار بالنفس بهبة جميع ماله لشخص و لو لم يتقرّب بذلك، أو بسبب السفر للتجارة و تحمّل المشاقّ الكثيرة من العطش و الجوع المفرطين؟ فعلى هذا ينتج ما ذكرنا التفصيل في الموارد المذكورة بين ما إذا كان الضرر ضررا يوجب الهلاك أو فقدان عضو من الأعضاء و القول بالبطلان و بين ما لا يصل إلى هذه المرتبة بل يوجب وجع العين أو شدّة الحمّى و بطء برء المرض و أمثال ذلك و القول بالصحّة، لعدم الدليل على حرمة مثل هذه الأقسام من الضرر.

نعم، في الفقه الرضوي «2» ما يدلّ على ذلك، و هكذا في رواية تحف العقول «3»، و هناك رواية أخرى رواها الشيخ في التهذيب «4» و صاحب الوسائل في باب الأطعمة و الأشربة من الوسائل «5»، و مضمونها قريبا «إنّ اللّه تعالى: حرّم الميتة و الخمر و لحم الخنزير لعلمه بأنّ فيها ضررا» و لكن ذكرنا في بحث الفقه أنّ الفقه الرضوي لم يثبت كونه رواية فضلا عن كونه معتبرا، و رواية تحف العقول أيضا ضعيفة لا يمكن الاعتماد عليها، و الرواية الأخيرة و إن كانت معتبرة [1]

______________________________
[1] أقول: للرواية طرق أحسنها ما فيه مفضل بن عمر، و هو لا يوجب اعتبار الرواية، أمّا

______________________________
(1) صحيح البخاري 1: 10- 10، صحيح مسلم 1: 65- 41، سنن الترمذي 5: 17- 2627، سنن النسائي 8: 105، سنن الدارمي 2: 388- 2716، مسند أحمد 2: 347- 6479، سنن البيهقي 10: 187، الفقيه 4: 262.

(2) الفقه المنسوب للإمام الرضاع: 254.

(3) انظر: تحف العقول: 247.

(4) التهذيب 9: 128- 553.

(5) الوسائل 24: 99- 100، الباب 1 من أبواب الأطعمة المحرّمة، الحديث 1 نقلا عن الكافي [6: 242- 243 (باب علل التحريم) الحديث 1] و غيره.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 567‌

إلاّ أنّه لم تتعلّق الحرمة فيها بعنوان المضرّ، و لحم الخنزير و الخمر و الميتة لا ضرر فيها بالنسبة إلى المتعوّدين، و هكذا لا ضرر في قليل منها بالقياس إلى كلّ أحد، فلا يمكن الالتزام بأنّ حرمتها من جهة كونها مضرّة بالبدن، فإنّ لازمه الاقتصار على مورد الضرر و الحكم بعدم حرمة القليل منها و عدم كونها حراما على من لا تضرّ بهم من المتعوّدين و غيرهم، فلعلّ المراد بالضرر هو الضرر على النّفس و انحطاط رتبتها، و يمكن أن يكون حكمة للتشريع أيضا، بل لا يبعد ذلك.

هذا كلّه فيما إذا علم بعدم الضرر، أمّا إذا توضّأ و صام مثلا مع العلم بالضرر، فالمعروف بين المتأخّرين، منهم: صاحب العروة «1» و الحاج آقا رضا الهمداني «2» في باب التيمّم، هو: الحكم بالبطلان، و فرّقوا بين الضرر و الحرج بأنّ الحرج حيث إنّه لم يدلّ دليل على حرمته فمع تحمّله يحكم بصحّة ما تحمّله من العبادة، لعدم اقتضاء نفي الحرج من جهة كونه واردا في مقام الامتنان إلاّ نفي الإلزام بما فيه حرج لا أصل الجواز، فإذا كان الوضوء الحرجيّ- مثلا- جائزا أو مأمورا به حيث لم يرفع إلاّ الإلزام المتعلّق به يحكم بصحّته، و هذا بخلاف الوضوء الضرري، فإنّه حرام، لكونه مصداقا للإضرار بالنفس، المحرّم، فلا يمكن أن يتقرّب به.

______________________________
المفضل نفسه فالروايات الواردة في شأنه و كذا أقوال الرجاليّين فيه متعارضة، و على فرض كونه ثقة يقع الكلام في محمد بن مسلم فإنّ من هو من أصحاب الصادقين عليهما السلام لا يمكن لأحمد بن محمد بن خالد البرقي أن ينقل عنه، فهو شخص آخر مجهول.

و محمد بن أسلم أيضا لم يثبت و ثاقته. و أمّا عبد الرحمن بن سالم فهو ضعيف. و بالجملة لا يمكن إثبات اعتبار الرواية. (م).

______________________________
(1) العروة الوثقى، فصل في التيمّم: المسألة 19.

(2) مصباح الفقيه 1: 463.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 568‌

و استشكل عليهم شيخنا الأستاذ قدّس سرّه، و ذهب إلى البطلان في كلا البابين بدعوى أنّ الحكم بعدم وجوب الوضوء و صحّته مع جواز التيمّم يشبه الجمع بين المتناقضين، فإنّ موضوع الوضوء هو واجد الماء، و موضوع التيمّم فاقد الماء، و الحكم بالتخيير بين الوضوء و التيمّم لازمه أن يكون المكلّف داخلا في عنوان واجد الماء حال دخوله في عنوان الفاقد «1».

و لكن لا يخفى ما فيه، ضرورة أنّ آية فَلَمْ تَجِدُوا* «2» لم تدلّ على انحصار حكم الوضوء في حقّ الواجد و التيمّم في حقّ الفاقد، و ليس لنا دليل آخر أيضا يثبت ذلك، بل الآية أثبتت الوضوء على الواجد و التيمّم على الفاقد، و لا ينافي ورود دليل آخر مثل «لا ضرر» و «لا حرج» يثبت حكم الفاقد على الواجد أيضا، كما أنّه ورد الدليل على أنّ «من آوى إلى فراشه و ذكر أنّه لم يتوضّأ يتيمّم على فراشه» «3».

و التحقيق أن يقال: إن قلنا بأنّ المنفي في دليل «لا حرج» و «لا ضرر» هو الإلزام، فلا بدّ من الحكم بالصحّة في كلا البابين، و إن قلنا بأنّ المنفي هو الحكم الضرري أو الحرجي على ما هو عليه و أنّ إطلاقات أدلّة الأحكام تقيّد بغير موارد الضرر و الحرج، فلا مناص عن الحكم بالبطلان في كلا البابين.

و الظاهر هو الثاني، لما عرفت من أنّ دليل «لا ضرر» و «لا حرج» حاكمان على أدلّة الأحكام و ناظران إليها، و لسانهما نفي جعل الضرر و الحرج في عالم التشريع، فبعد ما لم يكن الحكم الضرري أو الحرجي مجعولا في‌

______________________________
(1) قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب): 216.

(2) النساء: 43، المائدة: 6.

(3) الفقيه 1: 296- 1353، التهذيب 2: 116- 434، الوسائل 1: 378، الباب 9 أبواب الوضوء، الحديث 2.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 569‌

الشريعة، فلا يمكن الحكم بصحّة ما فيه الضرر و الحرج في صورة التحمّل، لتقيّد إطلاق الدليل الأوّلي بصورة عدم الضرر، و مرفوعيّة الحكم الضرري على ما هو عليه، و لا وجه لمرفوعيّة إلزامه فقط، كما أنّ دليل المخصّص، مثل «لا بأس بترك إكرام العالم الفاسق» يرفع وجوب إكرام العالم الفاسق المستفاد من «أكرم العلماء» على ما هو عليه، لا أنّه يرفع إلزامه و يبقى مستحبّا.

نعم، إذا كان الفعل الضرري مستحبّا نفسيّا و واجبا غيريّا، كالوضوء و الغسل، لا مثل الصوم و القيام في الصلاة الضرريّين أو الحرجيّين، نحكم بصحّته، لأنّ دليل «لا ضرر» و «لا حرج» يرفعان الأحكام الإلزاميّة، و أمّا الأحكام الترخيصيّة فلا، إذ ليس في جعل مثل الاستحباب- مثلا- ضرر على المكلّف يرفع امتنانا، بل جعله عين الامتنان، فكون الفعل ضرريّا و ذا مشقّة لا ينافي محبوبيّته و مقرّبيّته، و لذا جعل النبي صلّى اللّه عليه و آله نفسه الزكيّة في مشقّة العبادة حتى نزل طه. مٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقىٰ «1» فإذا كان الوضوء استحبابه النفسيّ باقيا على حاله حال الضرر و الحرج أيضا، فهو صحيح، و الصلاة معه صلاة متقيّدة بالطهارة، فإنّه أحد الطهورين، و لا ينافي ذلك تقيّد الأمر بالصلاة بعدم الوضوء بالخصوص بعد ما كان الوضوء طهورا و محصّلا للتقيّد المعتبر في الصلاة.

و الحاصل: أنّ الحكم غير الإلزاميّ حيث لا امتنان في رفعه، بل الامتنان يقتضي جعله و إن كان ضرريّا، فإذا فرضنا أنّ الوضوء- مثلا- مستحبّ نفسيّ، فلا يرفع استحبابه حال الضرر، و هو طهور، فتصحّ الصلاة معه، و هذا بخلاف مثل صوم شهر رمضان، الّذي لا يكون مستحبّا نفسيّا، فإنّه إذا كان ضرريّا،

______________________________
(1) طه: 1 و 2.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 570‌

لم يكن مأمورا به أصلا، لتقيّد أمر الصوم بصورة عدم الضرر، و المفروض عدم تعلّق أمر آخر به استحبابيّا، فيقع الضرريّ منه باطلا.

و لا يرد على ما ذكرنا في الوضوء من صحّته و صحّة التيمّم أيضا- و بعبارة أخرى: التخيير بين الوضوء و التيمّم- ما أورده شيخنا الأستاذ من لزوم شبه التناقض «1»، لما عرفت من أنّه لا مانع من إثبات الشارع حكم الفاقد على الواجد أيضا.

إن قلت: ما الفرق بين «لا ضرر» الّذي التزمتم بأنّه لا يشمل الأحكام غير الإلزاميّة و بين حديث الرفع الّذي اخترتم أنّه يشمل كلّ مجهول، سواء كان حكما إلزاميّا أو غيره؟

قلت: حديث الرفع حيث جعل للترخيص الظاهري بلسان الرفع، و معه يمكن الاحتياط و درك المحبوبيّة الواقعيّة أو التحفّظ عن الوقوع في المبغوض غير الإلزاميّ الواقعي، فليس رفعه- أي الحكم غير الإلزاميّ- خلاف الامتنان، و هذا بخلاف نفي الضرر، فإنّه واقعي و لسانه نفي ما يوجب الضرر و عدم جعل ما يلقي المكلّف في الضرر، و من المعلوم أنّ الحكم غير الإلزاميّ حيث إنّ ترك متعلّقه بيد المكلّف لا يصحّ استناد الضرر إلى الشارع، كما أنّ الحكومة إذا رخّصت في الإضرار بالنفس لا يمكن أن يقال: إنّ الحكومة ألقت رعيّته في الضرر إذا أضرّوا بأنفسهم، فلا يكون جعله موجبا لإلقاء المكلّف في الضرر، فلا يكون مرفوعا.

مضافا إلى أنّه لا امتنان في رفعه، لما عرفت من أنّ الرفع واقعي لا يمكن معه درك محبوب المولى، بل الامتنان في جعله، و هكذا الكلام في الحكم غير‌

______________________________
(1) قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب): 216.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 571‌

الإلزاميّ الحرجي، كيف لا!؟ و قد صلّى رسول اللّٰه صلّى اللّه عليه و آله حتى تورّمت قدماه فنزل طه. مٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقىٰ «1» و المستحبّات الحرجيّة و لو شخصا مثل استحباب زيارة الحسين عليه السلام، و الحجّ ماشيا و أمثالهما كثيرة جدّاً لا يمكن إنكارها، و الحرج و الضرر كلاهما من واد واحد.

بقي فرعان هما: ما إذا تيمّم باعتقاد عدم وجود الماء أو وجود الضرر ثمّ انكشف خلافه، فذهب شيخنا الأستاذ- قدّس سرّه- بصحّة التيمّم فيهما «2»، نظرا إلى أنّ موضوع التيمّم- و هو فقدان الماء- محقّق حقيقة، إذ الفاقد هو الّذي لا يتمكّن من استعمال الماء عقلا أو شرعا لا من ليس عنده الماء، و من المعلوم أنّ المعتقد بعدم وجود الماء لا يتمكّن من استعمال الماء الموجود عنده المجهول له، و لذا لا يمكن تكليفه في هذا الحال بالوضوء، فإنّه تكليف بما لا يطاق، لعدم إمكان انبعاثه عنه.

و ما أفاده- قدّس سرّه- فيما إذا تيمّم باعتقاد عدم الماء من صدق عنوان الفاقد عليه حقيقة تامّ لا ريب فيه، و أمّا في الفرع الثاني فلا، بل يأتي فيه التفصيل المتقدّم من أنّ الضرر على النّفس إن قلنا بحرمته مطلقا، فحيث إنّ الوضوء باعتقاده مصداق للعنوان المحرّم و هو غير متمكّن منه شرعا و الممنوع شرعا كالممتنع عقلا، فيصدق عليه أنّه غير واجد للماء حقيقة، فيصحّ تيمّمه، فلا تجب إعادة الصلاة بعد انكشاف الخلاف مع الوضوء مطلقا أو في خصوص خارج الوقت على الخلاف.

و إن لم نقل بحرمته، فالوضوء لا يكون ممنوعا شرعا لا واقعا و لا باعتقاده، بل يعتقد شمول دليل «لا ضرر» له، و أنّه مأمور بالتيمّم، و لا يجب‌

______________________________
(1) طه: 1 و 2.

(2) قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب): 216.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 572‌

عليه الوضوء، فإذا انكشف فساد اعتقاده يعلم بأنّه أتى بخلاف وظيفته، فلا وجه لصحّة تيمّمه، فإنّ المفروض أنّه كان واجدا للماء و لم يكن ممنوعا من استعماله لا عقلا و لا شرعا، و لم يكن مشمولا لدليل «لا ضرر» حتى يجوز له التيمّم تخييرا على التقرير السابق، فتجب عليه الإعادة في الوقت و القضاء في خارجه. هذا بحسب القاعدة الأوّليّة.

أمّا بحسب الروايات الواردة في الباب: فيستفاد من الروايات- التي أخذ فيها عنوان الخوف على النّفس أو على قلّة الماء أو على العطش أو خوف البرد في موضوع وجوب التيمّم- أنّ الخوف له موضوعيّة، و أنّه كلّما تحقّق أحد هذه العناوين الأربعة بل عنوان خوف ذهاب الرفقة في السفر أيضا- كما يستفاد من رواية أخرى «1»- ينتقل الأمر إلى التيمّم واقعا، و أنّه هو الوظيفة الواقعيّة، لا أنّه حكم ظاهري، فإذا كان الخوف على ما ذكر حكمه كذا فالقطع بتحقّق ذلك أولى بذلك.

ثمّ إنّ شيخنا الأستاذ «2»- قدّس سرّه- ذكر هنا فرعا استطرادا لا بأس بذكره، و هو: أنّ الوضوء المحرّم من جهة الضرر أو وجوب صرف الماء في حفظ النّفس المحترمة هل يمكن تصحيحه بالترتّب- بأن يقال: إنّه يجب أن يصرف الماء في حفظ النّفس أوّلا و يحرم عليه صرفه في الوضوء و لكن على تقدير العصيان يصير الوضوء مأمورا به بالأمر الترتّبي، كالصلاة المزاحمة مع الإزالة- أو لا؟ الظاهر هو الثاني، و ذلك لأنّ الترتّب و إن كان- كما أفاده شيخنا الأستاذ «3»-

______________________________
(1) الكافي 3: 64- 6، التهذيب 1: 185- 536، الوسائل 3: 342، الباب 2 من أبواب التيمّم، الحديث 1.

(2) قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب): 216.

(3) أجود التقريرات 1: 303.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 573‌

تصوّره مساوقا لتصديقه إلاّ أنّ مجرّد الإمكان لا يكفي ما لم يكن الدليل على الوقوع، ففي مثل الصلاة و الإزالة- حيث إنّ الأمر المتعلّق بكلّ منهما مطلق بحيث لو قدر المكلّف على امتثالهما معا لوجب عليه و إنّما التزاحم في مقام الامتثال- لا بدّ من الالتزام بالترتّب، فإنّه لا موجب لرفع اليد عن إطلاق دليل الصلاة إلاّ حال اشتغال المكلّف بالإزالة، و هذا بخلاف المقام، فإنّ الأمر بالوضوء من الأوّل مقيّد بصورة التمكّن من استعمال الماء عقلا و شرعا، فمع وجوب صرفه في غير الوضوء شرعا لا يكون واجدا للماء شرعا.

و هذا يجري في كلّ ما أخذت فيه القدرة الشرعيّة، مثلا: الاستطاعة أخذت شرعا في موضوع وجوب الحجّ، فلا يمكن الحكم بوجوب الحجّ ترتّبا على من هو غير متمكّن منه، لكونه مديونا مع تمكّنه بعصيان أمر أداء الدّين، ضرورة أنّه غير مستطيع شرعا و إن كان مستطيعا عقلا و لكنّ الموضوع هو الاستطاعة الشرعيّة دون العقليّة.

الأمر الخامس: أنّ دليل «لا ضرر» ناف للحكم الناشئ منه الضرر

، لا أنّه مثبت لحكم في مورد الضرر يرفع به الضرر، فمن تسبّب إلى ضرر أحد بحيث لا يصدق عليه الإتلاف- كفكّ صيد الصائد أو فتح قفص طائر الغير حيث إنّه يصدق على ذلك الإتلاف حقيقة، ضرورة أنّ الغزال الوحشي المربوط أو الطائر المحبوس في القفص لا يبقى بعد فكّه أو فتح القفص، بل كان مجرّد فعل أو ترك يترتّب عليه الإضرار بلا صدق الإتلاف عليه، كما في ترك إنفاق الزوج، فإنّه ضرر على الزوجة، و حبس أحد يترتّب على حبسه سرقة ماله- لا يمكن الحكم بضمانه من جهة قاعدة لا ضرر، و لا الحكم بحكم آخر يرفع به الضرر، كالحكم بولاية الحاكم أو الزوجة على الطلاق.

و قد تمسّك بعض بقاعدة لا ضرر، و حكم بضمان الحابس ما تضرّر به‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 574‌

المحبوس بسبب حبسه، و حكم أيضا بولاية غير من أخذ بالساق من الزوجة أو الحاكم على الطلاق من جهة أنّ عدم حكم الشارع بضمان الحابص ضرريّ.

و هكذا عدم جعل الولاية على طلاق زوجة الممتنع من الإنفاق للحاكم أو الزوجة، فيرفع بدليل لا ضرر.

و قد تصدّى شيخنا الأستاذ «1»- قدّس سرّه- لإبطال ذلك بوجهين:

أحدهما: أنّ دليل «لا ضرر» ناظر إلى الأحكام الثابتة في الشريعة و ناف للضرريّ منهما، فكلّ حكم نشأ منه الضرر فهو مرفوع، و أمّا إذا ترتّب ضرر على عدم الحكم كما في المثالين، فلا يشمل دليل «لا ضرر» مثل هذا الضرر المترتّب على عدم الحكم.

و لا يخفى ما فيه، فإنّ عدم حكم الشارع بالضمان حكم بعدم الضمان، فإنّ مقتضى قوله عليه السلام: «ما حجب اللّٰه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» «2» أنّ الضمان- الّذي لم يبيّن و حجب علمه عن العباد- مرفوع عن هذا الحابس، فالشارع أبقى هذا العدم الأزلي على حاله و لم يقلبه إلى الوجود، فإبقاؤه العدم الّذي هو فعل اختياريّ له حكم بالعدم، فإذا كان حكم عدميّ ضرريّا، يرفع بحديث «لا ضرر» و لا فرق بين الأحكام الوجوديّة الضرريّة أو العدميّة الضرريّة.

ثانيهما: أنّ مفاد «لا ضرر» ليس رفع الضرر غير المتدارك كما تقدّم، و من المعلوم أنّ الضرر في المثالين وقع خارجا على المحبوس و الزوجة، و حكم الشارع بالضمان و ولاية غير الزوج يتدارك هذا الضرر الواقع، و لا يدلّ‌

______________________________
(1) قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب): 221.

(2) الكافي 1: 164- 3، التوحيد: 413- 9، الوسائل 27: 163، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 33.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 575‌

دليل «لا ضرر» على أنّ الشارع حكم في كلّ مورد ضرريّ بحكم يتدارك به الضرر، ضرورة أنّ لازمه تأسيس فقه جديد، فإنّ مقتضاه أنّه إذا احترق مال أحد أو انهدم دار شخص بسبب سماوي، يجب أن يتدارك هذا الضرر من بيت المال أو الزكاة، و هكذا من مرض يجب أن يداوى من بيت المال أو الزكاة، فلا يمكن القول بضمان الحابس و لا بولاية الحاكم أو الزوجة على الطلاق من هذه الجهة، بل الحكم بطلاق الحاكم أو الزوجة لا بدّ له من مدرك آخر غير دليل «لا ضرر» فإنّه ينفي الحكم الضرري.

و هذا الجواب هو الجواب المتين.

و يمكن الجواب بجواب آخر، و هو: أنّ الحكم بعدم الضمان أو عدم ولاية غير الزوج لو سلّم أنّه ضرر على المحبوس و الزوجة، فالحكم بضمان الحابس أو ولاية غير الزوج أيضا ضرر على الحابس و الزوج.

لا يقال: إنّ الحابس بنفسه أقدم على ضرر نفسه، و هكذا الزوج.

فإنّه يقال: لو كان حكم الضمان ثابتا بدليل آخر و كان الحابس عالما به، لكان إقدامه على الحبس إقداما على ضرر نفسه، فلم يكن دليل «لا ضرر» شاملا له، لكنّ الكلام في ثبوت الضمان، و إثباته بدليل «لا ضرر» دور محال، فإنّ شموله للضرر الوارد على المحبوس، المستلزم لضمان الحابس متوقّف على إقدام الحابس، و الإقدام متوقّف على ثبوت الضمان و العلم به.

هذا بحسب القاعدة، أمّا بحسب الروايات: فالمستفاد من مجموعها أنّه يجب على الزوج إمّا الإنفاق أو الطلاق، فإذا كان أحد الأمرين واجبا عليه، فيمكن القول بولاية الحاكم على الطلاق بعد إجباره بأحد الأمرين و امتناعه من باب أنّه وليّ الممتنع.

و هذه الروايات- الدالّة على وجوب أحد الأمرين على الزوج- حسنة من‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 576‌

حيث السند و الدلالة، و لا يعارضها ما ورد في المفقود من أنّه تصبر امرأته حتى يأتيها يقين موته أو طلاقه «1»، و في زوجة لا يأتيها زوجها من أنّ هذه امرأة ابتليت فلتصبر «2»، فإنّ الحكم بالصبر في هاتين الروايتين من جهة غيبة الزوج و الشكّ في موته في الأولى، و من جهة عدم إتيان الزوج، لا من جهة ترك إنفاق الزوج حتى يعارض تلك الروايات.

الأمر السادس: في تعارض الضررين

على شخص واحد أو شخصين.

أمّا الأوّل:

فعلى ما اخترناه من عدم حرمة الإضرار بالنفس إلاّ في بعض الموارد: فلا شبهة في جواز اختيار أي منهما، و على القول بالحرمة لا ريب في وجوب اختيار أقلّهما ضررا، فإنّ مقتضى الامتنان رفع الضرر الأعظم فيما إذا توجّه على شخص واحد ضرران.

و أمّا الثاني:

فكما إذا كان المالك محتاجا إلى حفر بالوعة في داره بحيث لو لم يحفر يتضرّر و تخرب داره، و لو حفر يوجب ضرر جاره. و هذه المسألة- كما اعترفت بها شيخنا الأنصاري و شيخنا الأستاذ قدّس سرّهما- غير منقّحة في كلماتهم «3».

و تنقيح البحث فيه بمقدار يمكننا أنّه قد عرفت أنّ مفاد دليل «لا ضرر» هو عدم مجعوليّة الحكم الضرريّ في الشريعة لا عدم الضرر الخارجي و نفيه بحيث لو تضرّر أحد في تجارته مثلا يتدارك ضرره من بيت المال أو يدفع‌

______________________________
(1) الكافي 6: 148- 4، التهذيب 7: 478- 1921 و 479- 1923، الوسائل 20: 506، الباب 44 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الحديث 1 و 2.

(2) المناقب- لابن شهرآشوب- 2: 365، مستدرك الوسائل 15: 337، الباب 18 من أبواب أقسام الطلاق، الحديث 7.

(3) رسالة في قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع المكاسب): 374، قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب): 223.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 577‌

عوضه من كيس شخص آخر، و على ذلك فدليل «لا ضرر» أجنبيّ عن الضرر الواقع خارجا غير المستند إلى الشارع، فلو أجبر ظالم أحدا على دفع مال، لا يجب دفعه من بيت المال أو من كيس شخص آخر.

و بذلك ظهر أنّ البحث عن تعارض الضررين الخارجيّين على شخصين لا ربط له بدليل «لا ضرر» بل المربوط به هو البحث عن تعارض الضررين اللذين يعلم إجمالا بمجعوليّة أحدهما شرعا بحيث يكون كلّ منهما على تقدير وقوعه مستندا إلى الشارع،

فهنا مسألتان:

الأولى: في تعارض الضررين الخارجيّين.

الثانية: في تعارض حكمين ضرريّين يعلم بمجعوليّة أحدهما إجمالا.

أمّا الأولى

فمثالها ما إذا دخل رأس دابّة أحد في قدر شخص آخر و توقّف إخراجه على أحد أمرين: إمّا كسر القدر أو ذبح الدابّة، فإنّ أحد الضررين لا بدّ من وقوعه في الخارج و لو لم يكن شرع في البين.

ثمّ إنّ هذا الفعل إمّا من المالك أو الأجنبي أو من قبل اللّه، لا إشكال في الأوّل و أنّ الفاعل غاصب يجب ردّ مال صاحبه إليه و لو تضرّر بأيّ مقدار من الضرر، فلو كان صاحب الدابّة، يجب عليه ذبح دابّته و تقطيع رأسها و إخراجه عن القدر و ردّه إلى صاحبه و لو كانت قيمة الدابّة أضعاف القدر، و هكذا العكس.

نعم، لو تضرّر الغاصب بضرر يعلم بعدم محبوبيّته للشارع، كما إذا أدخل رأس عبده في القدر، فلا إشكال في وجوب كسر القدر و ردّ مثله أو قيمته إلى صاحبه.

و هكذا لا إشكال في ضمان الأجنبي، فإنّه غاصب يجب ردّ مال كلّ أحد إلى صاحبه إمّا عينه أو قيمته، و حيث لا يقدر على ردّ عين المالين فيردّ عين‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 578‌

ما هو الأهمّ، و يدفع مثل الآخر أو قيمته، و يتخيّر في صورة التساوي، فلو كسر القدر، يجب عليه ردّ قيمته إلى صاحبه، و لو ذبح الدابّة، يجب عليه ردّ قيمتها.

و المشهور في الثالث- كما ادّعى الشيخ «1» قدّس سرّه- أنّه يراعى أقلّ ضررا، لأنّ المكلّفين و المسلمين بمنزلة شخص واحد عند الشارع، فكما يراعى أقلّ ضررا في شخص واحد كذلك في شخصين، فيكسر القدر مثلا إن كانت قيمته أقلّ، كما هو الغالب، و يدفع صاحب الدابّة قيمته إليه. و لعلّ بعضا قال بالقرعة، و قيل بالتخيير.

و لا وجه لما نسب إلى المشهور، الّذي مرجعه إلى تخسير صاحب الدابّة، إذ أيّ مرجّح في توجيه الضرر و الخسارة إليه دون صاحب القدرة؟

فالتحقيق أن يقال: إن كان أحد المالين المقيّد بالآخر ممّا لا يجوز إتلافه كالعبد المحترم دمه، يتعيّن إتلاف مال الآخر للتخليص، و إن لم يكن كذلك كالمثال المذكور، فإن تراضى المالكان بشي‌ء فهو، و إن لم يتراضيا بشي‌ء و رفع أمرهما إلى الحاكم، فالظاهر أنّ قاعدة العدل و الإنصاف- التي هي قاعدة عقلائيّة، و موردها ما إذا توقّف حفظ مال أحد على إتلاف بعض ماله، كما إذا توقّف حفظ مال مسلم عن الجائر على إعطاء درهم أو درهمين من ماله إليه، أو توقّف حفظ أموال شخص عن الاحتراق على كسر باب داره، فإنّ هذا الإتلاف إحسان محض على المالك، و مٰا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ «2» أو إذا توجّه إلى شخصين ضرر كانت نسبته إليهما على حدّ سواء، كما في رواية الودعي، الآمرة بإعطاء درهم و نصف إلى صاحب الدرهمين و نصف درهم إلى‌

______________________________
(1) رسالة في قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع المكاسب): 374.

(2) التوبة: 91.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 579‌

صاحب الدرهم «1»، فإنّه يمكن تطبيقها على هذه القاعدة- تقتضي إتلاف أقلّهما ضررا و تخسير مالك الآخر نصف هذا الضرر، فإنّ حفظ مال كلّ منهما عن الإتلاف يتوقّف على إتلاف مقدار من ماله بماليّته لا شخصه، فيجب على الحاكم حسبة- على تقدير كون المالكين حاضرين- أو ولاية- على تقدير كونهما غائبين- حفظ المالين عن الإتلاف بالكلّيّة، و رفع النزاع من البين بإتلاف بعض مال من كلّ منهما، المتحقّق من توزيع ما يتلفه من القدر- مثلا- في المثال إلى المالكين.

و إن شئت قلت: إنّ حفظ ماليّة كلّ من المالين يتوقّف على التخليص، و بالتخليص يتحقّق ضرر في الخارج لا محالة، و نسبة هذا الضرر إلى كلّ منهما على حدّ سواء، فتوجيهه إلى أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح، فيجب أن يوجّه إليهما معا بالسويّة.

و أمّا المسألة الثانية:

فمثالها ما إذا أراد مالك الدار حفر بئر أو بالوعة يضرّ بالجار. و هو يتصوّر على صور أربع، فإنّ المالك إمّا أن يتضرّر بترك الحفر أو أنّه يفوته نفع فقط أو أنّه لا يتضرّر بالترك و لا ينفع بالفعل، و عليه إمّا أنّ يفعل عبثا أو يفعل إضرارا بالجار.

ثمّ إنّ المشهور- على ما نسب إليهم الشيخ «2» قدّس سرّه في رسالته الضرريّة- ذهبوا إلى جواز الحفر في الصورتين الأوّليين، و عدم ضمان مالك الدار ما يخسره الجار، و إلى عدم جوازه في الأخريين، و ضمانه له على تقدير فعله.

و وجه ذلك في الصورتين الأخيرتين واضح، لشمول دليل «لا ضرر»‌

______________________________
(1) الفقيه 3: 22- 59، التهذيب 6: 208- 481 و 292- 809، الوسائل 18: 450، الباب 9 من أبواب كتاب الصلح، الحديث 1.

(2) رسالة في قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع المكاسب): 375.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 580‌

لهما، بل ادّعى صاحب الرياض- كما حكي عنه- أنّ مورد دليل «لا ضرر» هو مورد قصد الإضرار بالغير «1».

و بالجملة، وجهه ما عرفت من أنّ دليل «لا ضرر» يستفاد منه أمران:

أحدهما: عدم جعل الإلزام الضرري.

و الآخر: عدم جعل ترخيص يترتّب عليه ضرر الغير، فإنّ ترخيص هذا التصرّف في ماله، الّذي يترتّب عليه ضرر الغير جعل للضرر في الشريعة، فتخصّص الأدلّة الأوّليّة الدالّة على سلطنة المالك على التصرّف في ماله بغير هذا التصرّف المضرّ بالغير.

و أمّا وجه الجواز و عدم الضمان في الصورتين الأوليين: فقد ذكر أنّ ترك الإضرار بالجار مثلا حيث إنّه حرجيّ فيكون المورد موردا لدليل «لا ضرر» و «لا حرج» و حيث إنّ «لا حرج» حاكم على دليل «لا ضرر» يتقدّم و يحكم بالجواز، و على تقدير عدم الحكومة يتساقط الدليلان بالتعارض، و يرجع إلى عموم الفوق، مثل: «الناس مسلّطون على أموالهم» «2» أو إلى أصالة الإباحة.

و لا يخفى ما فيه، فإنّ عدم حفر البالوعة، الموجب لفوت النّفع أو الضرر لا يلازم حرجيّته، بل بين الحرج و الضرر و عدم النّفع عموم من وجه ربّما يجتمعان و ربما يفترقان، فإنّ المالك إذا كان موسرا، أو صار ترك حفر البالوعة موجبا لخراب داره أو فوت منفعة منه لا يكون ذلك حرجا عليه.

نعم، إن فسّر الحرج بالمشقّة الروحيّة لا المشقّة البدنيّة الخارجيّة التي لا تتحمّل عادة، يكون الضرر أو فوت النّفع حرجا و مشقّة على النّفس، لكن‌

______________________________
(1) حكاه عنه المحقّق النائيني- قدّس سرّه- في رسالة قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب):

224.

(2) غوالي اللئالي 2: 138- 383.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 581‌

ليس ذلك معناه، فإنّ التكاليف كلّها- ماليّة كانت أو بدنيّة- فيها مشقّة على النّفس، إذ النّفس بحسب طبعها تختار النّفع و الحرّيّة، و التكليف مخالف لمقتضى طبعها، فإنّه مأخوذ من الكلفة و المشقّة.

ثمّ لا وجه لحكومة دليل «لا حرج» على دليل «لا ضرر» بل كلاهما في عرض واحد، فإنّ كلاّ منهما ناظر إلى الأحكام الثابتة في الشريعة، و ينفي الأوّل الحرجيّ منها، و الثاني الضرريّ منها، فلم لا يكون دليل «لا ضرر» حاكما على دليل «لا حرج»؟.

ثمّ على تقدير تسليم التعارض أيضا لا وجه للرجوع إلى عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» ضرورة أنّه ناظر إلى الحكم الأوّلي و جواز التصرّف في المال بحسب طبعه الأوّلي و في نفسه، و لا يكون ناظرا إلى التصرّف المضرّ الّذي هو عنوان ثانوي.

مثلا: إذا فرض مائع يضرّ بالبدن و يترتّب على شربه القتل، يثبت دليل السلطنة جواز التصرّف في هذا المائع في نفسه، و لا يثبت جواز القتل، و هل يجوز ضرب العصا على رأس الغير بمقتضى دليل السلطنة؟

و ذكر وجه آخر أيضا، و هو: أنّ دليل «لا ضرر» حيث إنّه وارد في مقام الامتنان لا يشمل المقام، فإنّه خلاف الامتنان، فيرجع إلى أصل الإباحة.

و هذا الوجه أيضا لا يتمّ على إطلاقه، فإنّ شموله لصورة ترتّب الضرر على ترك الإضرار بالجار و إن كان خلاف الامتنان إلاّ أنّ شموله لصورة فوت النّفع من جهة ترك الإضرار لا يكون من خلاف الامتنان، ضرورة أنّ الامتنان و عدمه إنّما يلاحظ من حيث الضرر لا من جهات اخر، فجعل حرمة الإضرار الّذي لا يترتّب عليه ضرر ليس من خلاف الامتنان.

فالحقّ هو التفصيل بين صورة عدم النّفع و صورة ترتّب الضرر، لعدم‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 582‌

مانع من شمول دليل «لا ضرر» للأوّل، فيحكم بعدم الجواز، و هذا بخلاف الثاني، فإنّه- مضافا إلى أنّ شموله له خلاف الامتنان بل يستأنس منه أنّ الحكم بحرمة الإضرار من جهة أن لا يقع ضرر في الخارج، فإذا لزم منه الضرر فجعله نقض للغرض- نقطع بجعل أحد الحكمين الضرريّين، إذ لو كان الإضرار بالجار مثلا جائزا، فالجواز ضرريّ على الجار، و إن كان حراما، فالحرمة ضرريّة على مالك الدار، فإذا كان دليل «لا ضرر» مخصّصا في المقام قطعا إمّا بغير الترخيص الضرري أو بغير الحرمة الضرريّة، فمن جهة هذا العلم الإجمالي لا يمكن التمسّك بدليل «لا ضرر» فيرجع إلى أصالة الإباحة، و يحكم بجواز هذا الإضرار.

هذا من حيث الحكم التكليفي، و أمّا الضمان فثابت بمقتضى «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» ففي كلّ مأمور قلنا فيه بجواز الإضرار بالغير لا بدّ من الحكم بالضمان إذا ترتّب عليه ضرر ماليّ، فلا وجه لحكم المشهور بعدم الضمان أيضا.

هذا تمام الكلام في قاعدة لا ضرر. و الحمد للّٰه، و هو خير ختام، و الصلاة على أفضل بريّته و أشرف خليقته و محمّد و آله البررة الكرام.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net