الجهة الثانية : بيان مورد التقيّة بالمعنى الأخص 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الخامس:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 9245


   الجهة الثانية : بيان مورد التقيّة بالمعنى الأخص ، مقتضى الاطلاقات الكثيرة الدالة على أن من لا تقيّة له لا دين له ، أو لا ايمان له ، وأنه ليس منّا من لم يجعل التقيّة شعاره ودثاره ، وأن التقيّة في كل شيء ، والتقيّة ديننا ، إلى غير ذلك من الأخبار المتقدمة (1) أن التقيّة تجري في كل مورد احتمل ترتّب ضرر فيه على تركها .

   بل الظاهر مما ورد من أن التقيّة شرعت ليحقن بها الدم فاذا بلغت التقيّة الدم فلا  تقيّة (2) أن التقيّة جارية في كل شيء سوى القتل ، وقد أشرنا آنفاً أن التقيّة بالمعنى الأخص واجبة ، فتجب في كل مورد احتمل فيه الضرر على تقدير تركها ، وقد استثنى الأصحاب (قدس سرهم) عن وجوب التقيّة موارد :

    موارد الاستثناء :

   الأوّل : ما إذا اُكره على قتل نفس محترمة ، وقد تقدم أن التقيّة المتحققة بقتل النفس المحترمة محرمة ، وذلك لما ورد في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : «إنما جعل التقيّة ليحقن بها الدم فاذا بلغت التقيّة الدم فليس تقيّة» (3) وصحيحة أبي حمزة الثمالي قال : «قال أبو عبدالله (عليه السلام) ... إنما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم فاذا بلغت التقيّة الدم فلا تقيّة ...» (4) .

   الثاني : ما إذا لم يترتب على ترك التقيّة أيّ ضرر عاجل أو آجل فقد ذكروا أن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 215 .

(2) ، (3) الوسائل 16 : 234 / أبواب الأمر والنهي ب 31 ح 1 .

(4) الوسائل 16 : 234 / أبواب الأمر والنهي ب 31 ح 2 .

ــ[227]ــ

التقيّة محرمة وقتئذ ، وبيّنا نحن أن التقيّة قد اُخذ في موضوعها احتمال الضرر فاذا لم يترتب هناك ضرر على تركها فهي خارجة عن موضوع التقيّة رأساً ، وعلى الجملة إن خروج مثلها تخصصي موضوعي لا تخصيصي .

   الثالث : مسح الخفين ، حيث ذكروا أن التقيّة غير جارية في مسح الخفين ، وذكرنا نحن أن عدم جريان التقيّة في مسح الخفين ومتعة الحج وشرب المسكر يختص بالأئمة (عليهم السلام) ولا يعم غيرهم ، وعلى تقدير التنازل عن ذلك وفرض شمول الحكم لغيرهم (عليهم السلام) كما إذا كانت الكلمة الواردة في صحيحة زرارة المتقدمة «لا يتقى» لا «لا نتقي» ذكرنا أن الظاهر أن خروج الموارد الثلاثة عن التقيّة خروج موضوعي غالباً ، لا أنها خارجة عنها حكماً على ما فصلنا الكلام عليه سابقاً (1) .

   فعلى ذلك ، لو فرضنا أن موضوع التقيّة في المسح على الخفين قد تحقق في مورد على وجه الندرة والاتفاق ، كما إذا خاف من العامة على نفسه من الاتيان بالمأمور  به أعني المسح على الرجلين فمسح على الخفين تقيّة ، فالظاهر جريان التقيّة فيه ، لانصراف الأخبار إلى الغالب وأنه الذي لا يتحقق فيه موضوع التقيّة .

   الرابع : ما إذا اُكره على التبري من أمير المؤمنين (عليه السلام) لما ورد في عدة من الأخبار من الأمر بمد الأعناق والنهي عن التبري منه (عليه السلام) لأنه على الفطرة أو مولود على الفطرة .

   فمن جملتها ما رواه الشيخ في مجالسه (2) باسناده عن محمد بن ميمون عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده (عليه السلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه السلام) ستدعون إلى سبي فسبوني ، وتدعون إلى البراءة منّي فمدوا الرقاب فاني على الفطرة» (3) .

 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 218 ـ 219 .

(2) أمالي الطوسي 1 : 213 .

(3) الوسائل 16 : 227 / أبواب الأمر والنهي ب 29 ح 8 ، 10 .

ــ[228]ــ

   ومنها : ما رواه الشيخ أيضاً في مجالسه باسناده عن علي بن علي أخي دعبل بن علي الخزاعي عن علي بن موسى عن أبيه عن آبائه عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) انه قال «إنكم ستعرضون على سبي ، فان خفتم على أنفسكم فسبّوني ، ألا وإنكم ستعرضون على البراءة منِّي فلا تفعلوا فانِّي على الفطرة» (1) .

   ومنها : ما في نهج البلاغة (2) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال «أما أنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم ، مندحق البطن ، يأكل ما يجد ويطلب ما لا يجد فاقتلوه ولن تقتلوه ، ألا وإنه سيأمركم بسبّي والبراءة منّي ، فأمّا السب فسبوني فانّه لي زكاة ولكم نجاة ، وأما البراءة فلا تبرؤوا (تتبرّؤوا) منّي فاني ولدت على الفطرة وسـبقت إلى الايمان والهجرة» (3) إلى غير ذلك من الروايات المسـتفيضة . ولا ينبغي الاشكال في دلالتها على المدعى ، أعني تعريض النفس للهلاك عدا الاكراه على التبري منه (عليه السلام) .

   ولا يعارضها رواية مسعدة بن صدقة قال : «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) إن الناس يروون أن عليّاً (عليه السلام) قال على منبر الكوفة : أيها الناس إنكم ستدعون إلى سبّي فسبوني ، ثم تدعون إلى البراءة منّي فلا تبرؤوا منّي ، فقال : ما أكثر ما يكذب الناس على علي (عليه السلام) ثم قال : وإنما قال : إنكم ستدعون إلى سبّي فسبوني ثم تدعون إلى البراءة منّي واني لعلى دين محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم يقل ولا تبرؤوا منّي . فقال له السائل : أرأيت إن اختار القتل دون البراءة ، فقال : والله ما ذلك عليه وما له إلاّ ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالايمان فأنزل الله عزّ وجلّ فيه (إلاّ من اُكره وقلبه مطمئن بالايمان ) فقال له النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عندها : يا عمار إن عادوا فعد ، فقد أنزل الله عذرك وأمرك

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 16 : 228 / أبواب الأمر والنهي ب 29 ح 9 ، أمالي الطوسي 1 : 374 .

(2) ص 92  الخطبة 57 بتفاوت .

(3) الوسائل 16 : 227 / أبواب الأمر والنهي ب 29 ح 8 ، 10 .

ــ[229]ــ

أن تعود إن عادوا» (1) .

   وذلك أمّا أوّلاً : فلأ نّها ضعيفة السند بمسعدة لعدم توثيقه في الرجال (2) .

   وأمّا ثانياً : فلقصور دلالتها على حرمة القتل ووجوب التبري عند الاكراه ، لأنه (عليه السلام) إنما نفى كون القتل على ضرره وبيّن أن ما ينفعه ليس إلاّ ما مضى عليه عمار ، ولم تدل على حرمة التعرّض للقتل حينئذ بوجه ، بل التعرّض للقتل والتبرِّي كلاهما سيّان .

   والظاهر أن هذا مما لا كلام فيه ، وإنما الكلام في أنه هل يستفاد من تلك الروايات المستفيضة وجوب اختيار القتل وعدم جواز التبري واظهاره باللسان للصيانة عن القتل ، أو أنه لا يستفاد منها ذلك ؟

   الثاني هو الصحيح ، وذلك لعدم دلالتها على تعيّن اختيار القتل حينئذ ، لأنها إنما وردت في مقام توهّم الحظر ، لأن تعريض النفس على القتل حرام ، وبهذه القرينة يكون الأمر بمدّ الأعناق واختيار القتل ظاهراً في الجواز دون الوجوب ، وعليه فالأخبار إنما تدلنا على الجواز في كل من التقيّة باظهار التبري منه (عليه السلام) باللسان وتركها باختيار القتل ومدّ الأعناق .

   ويدلّنا على ذلك ما رواه عبدالله بن عطاء قال : «قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : رجلان من أهل الكوفة اُخذا فقيل لهما : ابرأا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) فبرئ واحد منهما وأبى الآخر ، فخلي سبيل الذي برئ وقتل الآخر ، فقال : أمّا الذي برئ فرجل فقيه في دينه وأما الذي لم يبرأ فرجل تعجل إلى الجنة» (3) وقد دلّت على جواز

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 16 : 225 / أبواب الأمر والنهي ب 29 ح 2 .

(2) الرجل ممن وقع في سلسلة أسانيد كامل الزيارات وتفسير القمي ، فعلى ما سلكه سيِّدنا الاُستاذ (مدّ  ظله) من وثاقة كل من وقع في سلسلة أحاديث الكتابين المذكورين إذا لم يضعف بتضعيف معتبر ، لا بدّ من الحكم بوثاقته واعتباره .

(3) الوسائل 16 : 226 / أبواب الأمر والنهي ب 29 ح 4 .

ــ[230]ــ

كل من التبري منه (عليه السلام) تقيّة والتعرض للقتل ، وأن كلاًّ من الرجلين من أهل الجنّة وقد تعجّل أحدهما إلى الجنة وتأخّر الآخر .

   وما رواه محمد بن مروان قال : «قال لي أبو عبدالله (عليه السلام) ما منع ميثم (رحمه الله) من التقيّة ؟ فوالله لقد علم أن هذه الآية نزلت في عمار وأصحابه «إلاّ من اُكره وقلبه مطمئنّ بالايمان»(1) لدلالتها على جواز كل من البراءة واختيار القتل ، لأنه (عليه السلام) لم يتزجر عما فعله ميثم وإنما سأل عن وجهه ، هذا .

   وقد يقال : إن ترك التقيّة أرجح من التقيّة باظهار التبري منه (عليه السلام) وعليه فيكون المقام من موارد التقيّة المكروهة والمرجوحة ، وإذا قلنا بعكس ذلك وأن التقيّة باظهار التبري أرجح من تركها فيكون المقام مثالاً للتقيّة المستحبّة لا محالة .

   والصحيح أن الأمرين متساويان ولا دلالة لشيء من الروايات على أرجحية أحدهما من الآخر ، أمّا رواية عبدالله بن عطاء ، فلأنها إنما دلت على أن من ترك التقيّة فقتل فقد تعجّل إلى الجنة ، ولا دلالة لذلك على أن ترك التقيّة باختيار القتل أرجح من فعلها ، وذلك لأن العامل بالتقيّة أيضاً من أهل الجنّة وإنما لم يتعجل بل تأجّل فلا  يستفاد منه إلاّ تساويهما .

   وأما ما رواه محمد بن مروان ، فلأنها إنما تدل على أرجحية التقيّة باظهار التبري منه (عليه السلام) فيما إذا كانت كلمة «ميثم» غير منصرفة ، فيصح وقتئذ أن تقرأ كلمة «منع» مبنيّة للفاعل والمفروض أن كلمة «ميثم» لا تكتب منصوبة ـ ميثماً ـ لعدم انصرافها ، فتدلنا الرواية حينئذ على توبيخ ميثم لتركه التقيّة وتعرّضه للقتل والهلاك إلاّ أن كلمة «ميثم» منصرفة ، لوضوح عدم اشتمالها على موانع الصرف ، وعليه فلا  يصح قراءة كلمة «منع» مبنية للفاعل وإلاّ للزم أن تكون كلمة «ميثم» منصوبة وأن تكون العبارة هكذا : ما منع ميثماً ، ولم تذكر الكلمة في شيء من النسخ التي وقفنا عليها منصوبة ، بل هي في جميع النسخ مكتوبة بالرفع «ميثم» ومعه لا بدّ من قراءة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 16 : 226 / أبواب الأمر والنهي ب 29 ح 3 .

ــ[231]ــ

كلمة «منع» مجهولة ومبنية للمفعول هكذا «ما منع ميثم» أي لم تكن التقيّة ممنوعة وغير سائغة في حقه ، بل كانت مرخصة بالنسبة إليه وهو أيضاً كان عالماً بجوازها ومع ذلك اختار القتل باختياره ، إذن فلا يستفاد منها توبيخ ميثم على عمله بل معناها أحد أمرين :

   أحدهما : أن تكون هذه الجملة «ما منع ميثم» دفعاً للاعتراض على ميثم بأنه لماذا اختار القتل ولم يتّق ، وهل كان ممنوعاً عن التقيّة فأجاب (عليه السلام) عن ذلك بأنه ما كان ممنوعاً عن التقيّة ، وإنما اختار القتل لتساوي التقيّة وتركها في الرجحان عند الله سبحانه ، وحينئذ لا يستفاد منها مدح ميثم ولا قدحه .

   وثانيهما : أن تكون الجملة دالة على مدح ميثم ، وأنه مع علمه بالحال وأن التقيّة جائزة في حقه قد اختار القتل ، لعدم طيب نفسه بالتبري عن سيده ومولاه ولو بحسب الظاهر واللسان ، لقوة ايمانه وشدة حبه وعلاقته لمولاه (عليه السلام) إذن تكون الرواية دالة على مدحه (رضوان الله عليه) وعلى كل لا يستفاد منها أرجحية التقيّة عن القتل .

   ويحتمل أن يكون الوجه في اختيار ميثم القتل على التقيّة هو علمه بانتفاء موضوع التقيّة في حقه ، لأنه كان يقتل على كل حال لمعروفيّته بالولاء واشتهاره بالتشيّع والاخلاص لأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) .

   وعلى الجملة ، الرواية إما أن تدلنا على أرجحية القتل من التقيّة ، وإما أن تدل على تساوي التعرض للقتل والتقيّة ، وأما أن التقيّة بالتبري عنه (عليه السلام) أرجح من التعرّض للقتل فلا يكاد يستفاد من الرواية بوجه ، فالحكم بأرجحية التقيّة من القتل في نهاية الاشكال ، هذا كله في هذه الجهة .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net