قاعدة الميسور 

الكتاب : القواعد الفقهية والاجتهاد والتقليد (دراسات) ج3   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 6536

[قاعدة الميسور]

التنبيه الثالث:

إذا تعذر الإتيان ببعض اجزاء الواجب أو شرائطه فهل القاعدة تقتضي سقوط التكليف به رأسا، أو بقائه متعلقا بغير المتعذر من الأجزاء و الشرائط؟ و التكلم في هذا البحث من جهة التمسك بالإطلاق لو كان، أو بالأصل العملي من البراءة و الاشتغال قد ظهر الحال فيه مما مر في التنبيه الأول فيما إذا نسي الجزء أو الشرط، فلا حاجة إلى الإعادة. و قد عرفت هناك ان الواجب إذا كان انحلاليا، و لم يتمكن المكلف من الإتيان بجميع اجزائه و شرائط لنسيان أو إكراه أو اضطرار أو غير ذلك، و لم يكن في البين إطلاق يمكن التمسك به لإثبات وجوب المقدار الممكن، كان مقتضى الأصل هو البراءة العقلية و النقليّة عن وجوبه، على ما تقدم بيانه في حديث الرفع.

إلاّ انه ربما يقال بوجوب المقدار الميسور من جهة الاستصحاب، أو الأدلة الخاصة الواردة في المقام.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 458‌

[الاستدلال بالاستصحاب لإثبات وجوب المقدار الميسور]

اما الاستصحاب، فتقريبه من وجوه.

الأول: ان يستصحب الوجوب الجامع بين الضمني و الاستقلالي المتعلق بغير المتعذر من الاجزاء و الشرائط، فان وجوبها الضمني قبل طروء التعذر في ضمن وجوب المركب كان ثابتا، و نشك في ارتفاع أصل الوجوب بارتفاعه، فيتمسك بالاستصحاب في الحكم ببقائه.

و يرد عليه: انه مبني على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من استصحاب الكلي، و لا نقول به، فان الفرد المعلوم تحققه و هو الوجوب الضمني قد ارتفع يقينا، و الوجوب الاستقلالي مشكوك الحدوث، فليس وجود واحد متيقن الحدوث مشكوك البقاء ليحكم ببقائه بالاستصحاب.

الثاني: ان يستصحب الوجوب الاستقلالي بنحو مفاد كان التامة، بأن يقال:

كان وجوب الصلاة مثلا قبل تعذر بعض أجزائها ثابتا في الخارج، فيشك في ارتفاعه بعد طروء التعذر، فيستصحب بقاؤه.

و يرد عليه: أولا: ان الوجوب لا يتحقق في الخارج إلاّ متعلقا بشي‌ء، و متقوما به، و عليه فالوجوب المتيقن كان متقوما بالمركب من المتعذر و غيره، و الوجوب المشكوك بعد التعذر لو كان فهو وجوب آخر متقوم بغير ما تقوم به الوجوب الأول، فجريان الاستصحاب فيه لإثبات جامع الوجوب مبني على جريان الاستصحاب في القسم الثالث، و لا نقول به.

و ثانيا: ان استصحاب الوجوب بنحو مفاد كان التامة، و هو ما إذا لوحظ نفس وجوب الوجوب مع قطع النّظر عن متعلقه لا يترتب عليه وجوب غير المتعذر من الاجزاء و الشرائط إلاّ على القول بالأصل المثبت، و ستعرف بطلانه، فالمقام نظير ما إذا علمنا بوجوب إكرام زيد، ثم علمنا بارتفاعه، و احتملنا وجوب إكرام عمرو، فهل يمكن إثباته باستصحاب بقاء وجوب الإكرام على نحو مفاد كان التامة؟

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 459‌

كلا.

الثالث: ان يستصحب الوجوب الاستقلالي الثابت للصلاة مثلا فيما إذا لم يكن المتعذر من الاجزاء المقومة بان يقال: ان الصلاة الفاقدة للجزء المتعذر التي هي متحدة مع الواجدة له بنظر العرف كانت واجبة قبل طرو العذر، فيستصحب بقاؤها على صفة الوجوب بعد التعذر أيضا. و الفرق بين هذا التقريب و التقريبين الأولين هو ان جريان الاستصحاب بناء على هذا التقريب يختص بما إذا كان المتعذر غير مقوم للواجب بنظر العرف لتكون القضية المشكوكة متحدة مع المتيقنة بهذا النّظر، و هذا بخلاف التقريبين الأولين، فانه لو صح جريان الاستصحاب عليهما لم يختص بمورد دون مورد كما هو ظاهر.

و تمامية هذا التقريب تتوقف على أمرين.

أحدهما: صحة جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية من جهة الشك في حد المجعول الشرعي، و المختار عندنا عدمها، و ستعرف الكلام فيه في بحث الاستصحاب.

ثانيهما: إحراز كون المتعذر غير مقوم للواجب، ليكون الشك في وجوب غير المتعذر من الاجزاء و الشرائط شكا في البقاء، لا في الحدوث، و عليه فربما يقال: بعدم جريان الاستصحاب في كثير من موارد الشك في وجوب غير المتعذر من اجزاء المركبات الشرعية و شرائطها، بدعوى: ان المركب الشرعي ليس لنا طريق إلى تمييز المقوم عن غير المقوم من اجزائه و شرائطه، فكل جزء أو شرط كان متعذرا يحتمل كونه مقوما، و معه لا يمكن الاستصحاب، لعدم إحراز اتحاد القضية المتيقنة و المشكوكة. نعم إذا كان المركب من المركبات العرفية كان تمييز المقوم عن غير المقوم منه موكولا إلى نظر العرف، فما يرونه مقوما لا يجري الاستصحاب عند تعذره، كما ان ما لم يكن مقوما بنظرهم لا مانع من جريان استصحاب وجوب أصل الواجب‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 460‌

عند تعذره.

و لكن الصحيح أن يقال: إذا ثبت من الشرع كون جزء أو شرط مقوما للمركب فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب عند تعذره. و اما فيما لم يثبت على ذلك بيان من الشرع فالظاهر إيكال الأمر إلى العرف، فإذا كانت نسبة المتعذر إلى غيره نسبة طفيفة كنسبة الواحد إلى العشرين مثلا كان الصدق العرفي متحققا، فيجري الاستصحاب لإثبات وجوب غير المتعذر، و اما إذا كانت النسبة معتدا بها، كما إذا كان المتعذر نصف الواجب أو ثلثه مثلا فلا يجري الاستصحاب لعدم الوحدة العرفية.

ثم لا يخفى ان جريان الاستصحاب في المقام يختص بما إذا كان التعذر حادثا في أثناء الوقت. و أما إذا كان مقارنا لأول الوقت فلا يقين بتحقق التكليف في زمان، و المرجع حينئذ هو البراءة عن وجوب غير المتعذر من الاجزاء و الشرائط.

هذا و قد ذهب المحقق النائيني قدّس سرّه في بحث الاستصحاب إلى جريان الاستصحاب و لو كان التعذر مقارنا لأول الوقت «1»، بدعوى ان جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية لا يتوقف على فعلية الموضوع خارجا، و من ثم يتمسك الفقيه في الحكم بحرمة وطي الحائض بعد زوال حيضها قبل الاغتسال، و في حكمه بنجاسة الماء القليل المتنجس المتمم كرا بماء طاهر، باستصحاب حرمة الوطء، و نجاسة الماء، مع عدم تحقق شي‌ء من الموضوعين في الخارج في زمان حكمه.

و الجواب عن ذلك يتوقف على بيان أمر: و هو ان جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي يتصور على وجوه.

الأول: ان يستصحب الحكم في مقام جعله و مرحلة تشريعه عند احتمال‌

______________________________
(1) فوائد الأصول: 4- 562.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 461‌

نسخه. و لا ريب ان ثبوت الحكم في مقام الجعل لا يتوقف على فعلية الموضوع، بل يجعل الحكم على موضوعه المقدر وجوده على نحو القضية الحقيقية، و لا رافع لمثله إلاّ النسخ، فإذا شك في بقائه يتمسك بالاستصحاب من دون دخل في ذلك لوجود الموضوع في الخارج و عدمه.

الثاني: ان يستصحب الحكم الفعلي الكلي عند الشك في سعته و ضيقه لأجل الشك في حده، كما إذا شككنا في ان حرمة وطي الحائض هل ترتفع بارتفاع الحيض، أو انها باقية إلى زمان الاغتسال، فان الفقيه عند شكه هذا يفرض امرأة حائضا ثبت حرمة وطيها في الخارج، و يشك في ارتفاعها بانقطاع حيضها، فيتمسك بالاستصحاب، فيفتي بحرمة وطي الحائض على نحو القضية الحقيقية ما لم تغتسل.

و الفرق بين هذا القسم و القسم السابق بعد اشتراكهما في عدم توقف جريان الاستصحاب على وجود الموضوع خارجا ان الشك في هذا القسم شك في مقدار المجعول أولا، و ان الموضوع في القضية الحقيقية المجعولة أمر وسيع أو ضيق من أول الأمر. و أما القسم الأول فليس الشك فيه شكا في حد الموضوع، بل في بقاء الحكم في عمود الزمان على سعة الموضوع أو ضيقه، و من ثم ينحصر موجب الشك في القسم الثاني بتبدل خصوصية في الموضوع مع القطع بعدم النسخ، و عدم تبدل الحكم المجعول أولا، و اما القسم الأول فمنشأ الشك فيه هو احتمال النسخ مع القطع بعدم تبدل شي‌ء من خصوصيات الموضوع، فالقسمان متعاكسان.

الثالث: ان يستصحب الحكم الجزئي الثابت لموضوع شخصي لأجل الشك في مزيله خارجا، مع إحراز الحكم الكلي من جهة موضوعه سعة و ضيقا و من حيث عدم نسخه، كما إذا شككنا في بقاء طهارة ثوب لاحتمال ملاقاته البول خارجا.

و إجراء الاستصحاب في هذا القسم غير مختص بالفقيه، بل هو ثابت في حق كل‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 462‌

مكلف تيقن بحكم ثم شك في بقائه، و منشأ الشك في البقاء فيه منحصر بالأمور الخارجية.

إذا عرفت ذلك يظهر لك ان جريان الاستصحاب في محل الكلام إذا كان العذر مقارنا لأول الوقت لا وجه له أصلا، إذ الحكم في مورده غير متيقن في زمان ليكون الشك في بقائه، فان اليقين بثبوت الحكم في مقام الجعل و ان كان ثابتا إلاّ انه غير مرتفع قطعا، لعدم احتمال النسخ على الفرض. و اما الحكم في غير مقام الجعل فلا يقين بثبوته، إذ المفروض ان التكليف بغير المتعذر من الاجزاء و الشرائط مشكوك الحدوث من أول الأمر، فإذا فرض الفقيه مكلفا تعذر عليه الإتيان بتمام المركب من أول الأمر، فهو شاك في ثبوت الحكم له ابتداء، بلا سبق يقين منه و لو بالفرض و التقدير، فلا يقاس ذلك بالشك في حرمة وطئ الحائض بعد انقطاع حيضها قبل الاغتسال. و لعمري ان ما ذكرناه لواضح لا يكاد يخفى على المحقق المزبور، إلاّ أن الجواد قد يكبوا، و المعصوم من عصمه اللّه. هذا ما يقتضيه الأصل العملي.

و اما ما تقتضيه الأدلة الخاصة الاجتهادية فهو وجوب الإتيان بالميسور من اجزاء الصلاة و شرائطها،

فانها لا تسقط بحال، للإجماع المحقق، و لقوله عليه السلام «فانها لا تدع الصلاة بحال» «1» نعم إذا كان المتعذر هي الطهارة الحدثية سقط التكليف بالصلاة، و وجب قضاؤها لأن الطهور مقوم لها، لقوله عليه السلام «لا صلاة إلاّ بطهور» «2» الدال على نفي مشروعيتها بلا طهارة.

[ما استدل به على وجوب الإتيان بالميسور في غير الصلاة من الواجبات العبادية و غيرها]

و اما غيرها من الواجبات العبادية و غيرها، فقد استدل على وجوب الإتيان بالميسور منها بروايات.

الأولى: رواية أبي هريرة المروية عن طرق العامة قال: خطبنا‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة: 2- باب 1 من أبواب الاستحاضة، ح 5.

(2) وسائل الشيعة: 1- باب 1 من أبواب الوضوء، ح 6.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 463‌

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: «أيها الناس، قد فرض اللّه عليكم الحج فحجوا، فقال رجل:

أكل عام يا رسول اللّه؟ فسكت. حتى قالها ثلاثا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو قلت: نعم لوجبت، و لما استطعتم. ثم قال: ذروني ما تركتكم، فانما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم و اختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بشي‌ء فأتوا منه ما استطعتم. و إذا نهيتكم عن شي‌ء فدعوه» و سند الرواية منجبر باشتهار الاستدلال به في كلمات الأصحاب. و تقريب الاستدلال: ان كلمة من في قوله عليه السلام (منه) ظاهرة في كونها تبعيضية، لكونها الأصل فيها، كما ان كلمة (ما) في قوله عليه السلام (ما استطعتم) ظاهرة في كونها موصولة، فيكون مفاد الحديث لزوم الإتيان بما هو المقدور من اجزاء المأمور به و شرائطه.

و لكن لا يخفى عدم صحة الاستدلال المزبور و ذلك.

أولا: فلعدم ثبوت الرواية على النحو المذكور، فانها و ان كانت مروية في صحيح مسلم «1» كذلك، إلاّ انها مروية في سنن النسائي الّذي هو أيضا من الصحاح «2» عندهم بوجه آخر، و هو قوله عليه السلام في آخر الرواية (فإذا أمرتكم بشي‌ء فخذوا به ما استطعتم و إذا نهيتكم عن شي‌ء فاجتنبوه) و من الظاهر ان كلمة (ما) في هذه الرواية لا تصلح إلاّ أن تكون ظرفية زمانية، فمفادها وجوب الإتيان بالمأمور به عند الاستطاعة و القدرة، و هو أجنبي عما نحن بصدده. فإذا كان متن الرواية منقولا بطريقين مختلفين في المفاد، لم يصح الاستدلال بها على أحد الطريقين.

لا يقال: ان اختلاف الطريق لا يضر بالاستدلال بعد كون أحدهما منجبرا بالشهرة عند الأصحاب دون الآخر.

______________________________
(1) صحيح مسلم: باب فرض الحج مرة في العمر، ح 1337.

(2) سنن النسائي: كتاب الحج، باب 1، ح 1.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 464‌

فانه يقال: الرواية كما نقلت بوجهين في كتب العامة، نقلت بوجهين في كتب الخاصة أيضا، فلا وجه لدعوى انجبار أحد الطريقين دون الآخر، فالمنجبر على تقدير تسليمه انما هو إحدى الروايتين إجمالا، فلا يصح الاستدلال بخصوص إحداهما مع عدم ثبوت انجبارها. قال المجلسي في باب صلاة العراة من كتاب البحار «1» (و حكى الشهيد رحمه اللّه في الذكرى «2» عن شيخه السعيد عميد الدين انه كان يقوى جلوس القائم ليومي للسجود جالسا استنادا إلى كونه حينئذ اقرب إلى هيئة الساجد فيدخل تحت قوله فأتوا به ما استطعتم) و يظهر من هذا الكلام ان الشهيد و شيخه نقلا الرواية بالباء، و ارتضاه المجلسي، فإذا لم يثبت كون المنقول في كلمات أصحابنا الإمامية كلمة (من).

هذا مضافا إلى ان الانجبار من أصله غير ثابت، و لو مع اتفاق الناقلين على نقل الرواية مشتملة على كلمة (منه)، فان شهرة الاستدلال بالرواية الضعيفة في كلمات جماعة من المتأخرين مع عدم انحصار المدرك فيها لا يكشف عن استناد المشهور إليها في مقام العمل، و معه لا يحصل الوثوق بصدور الرواية ليدخل في موضوع الحجية، و لا سيما مثل هذه الرواية التي راويها أبو هريرة، المعلوم حاله في تعمده الكذب، و من أراد الاطلاع على ذلك فليراجع محاله.

و ثانيا: فلأنا و ان سلمنا ان الظاهر من تركيب الجملة المستدل بها للمقام هو حمل كلمة «من» على التبعيض، و كون كلمة «ما» موصولة و مفعولا به للإتيان، إلاّ ان هذا المعنى لا ينطبق على مورد الرواية، فان السؤال فيه عن لزوم تكرار الحج و عدمه، و من الظاهر ان لزوم الإتيان بالمقدار المستطاع من أجزاء المركب الواحد‌

______________________________
(1) بحار الأنوار: 83- 214. كذلك راجع مجلد 22- 31.

(2) ذكرى الشيعة: 3- 23.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 465‌

و عدمه أجنبي عن ذلك، فلا مناص من حمل الجملة المزبورة على معنى آخر منطبق على موردها.

و توضيح ذلك: ان محتملات الرواية ثلاثة:

الأول: ما تقدم من كون كلمة (ما) موصولة و مفعولا للإتيان، و كون كلمة (من) تبعيضية. و هذا المعنى على تقدير ظهور الجملة فيه في نفسها لا بد من رفع اليد عنه، لعدم انطباقه على المورد.

الثاني: أن تكون كلمة (ما) موصولة، و تكون كلمة (من) بيانية ليكون حاصل المعنى إذا أمرتكم بطبيعة فأتوا ما استطعتم من افرادها، و لا يبعد أن لا تكون كلمة (من) إذا كانت بيانية مغايرة في المعنى لها إذا كانت تبعيضية، غاية الأمر انه يختلف مصداق التبعيض، فان الفرد بعض الطبيعة الكلية، كما ان الجزء بعض المركب، و عليه فكلمة (من) في كلا الاحتمالين مستعملة في التبعيض و ان كان التبعيض يختلف باختلاف موارده، فكما ان كلمة (من) في قولك: اشتريت من البستان نصفه، مستعملة في التبعيض، كذلك الحال في قولك: لا أملك من البستان إلاّ واحدا.

و هذا الاحتمال في نفسه و ان كان وجيها، و معه لا يتم الاستدلال، إلاّ أنه أيضا لا ينطبق على المورد، فان الحج و ان قيل بوجوبه على المستطيع في كل سنة، و قد ورد على طبقه روايات عديدة، إلاّ أنه خلاف المشهور بين المسلمين قاطبة، و خلاف ظاهر الرواية المزبورة، فانها ظاهرة في عدم وجوبه إلاّ مرة واحدة، و على تقدير القول بوجوب التكرار في الحج لا ينبغي الشك في أن غيره من الواجبات ليس كذلك، مع ان الرواية ظاهرة في إعطاء ضابطة كلية غير مختصة بباب الحج، فإذا لا يمكن حمل الرواية على هذا المعنى أيضا.

الثالث: أن تكون كلمة (من) زائدة كما في قوله تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 466‌

مِنْ أَبْصٰارِهِمْ «1» و قوله تعالى وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ‌ءٍ «2» على ما احتمله بعضهم، أو تكون بمعنى الباء، فيكون الضمير حينئذ مفعولا لكلمة (فأتوا)، و لفظ (ما) ظرفية زمانية، فالمعنى إذا أمرتكم بشي‌ء فأتوه عند استطاعتكم، فلا يستفاد من الرواية إلاّ اشتراط التكليف بالقدرة الساري في جميع التكاليف الشرعية. و هذا الاحتمال لا مناص من الالتزام به بعد عدم انطباق الاحتمالين الأولين على مورد الرواية، فلو سلم انه في نفسه خلاف الظاهر، فالقرينة القطعية ساقتنا إلى الأخذ به، و معه لا مجال للاستدلال بها في محل الكلام.

الثانية: المرسلة المحكية عن غوالي اللئالي كما في عوائد النراقي رحمه اللّه عن علي عليه السلام انه قال: «ما لا يدرك كله لا يترك كله» «3»، و تقريب الاستدلال بها ان لفظ الكل المذكور في الرواية لا يمكن أن يراد به العموم المجموعي و لا الاستغراقي في كلتا الفقرتين، إذ لا يعقل الحكم بوجوب إتيان ما لا يتمكن المكلف من مجموعه أو جميعه، فلا مناص من ان يراد به في الفقرة الأولى العموم المجموعي، و في الثانية العموم الاستغراقي، ليكون المراد النهي عن ترك الجميع عند تعذر المجموع، فيكون مفاد الرواية أنه إذا ترك المجموع لتعذره فلا يجمع في الترك، بل يقتصر على ترك البعض دون بعض. و هذا المعنى يشمل الكلي الّذي له افراد متعددة تعذر الجمع بينها دون بعض و المركب من اجزاء مختلفة الحقيقة قد تعذر بعضها، فان العام إذا كان ملحوظا بنحو العموم المجموعي لا يفرق فيه بين كون أجزائه متفقة الحقيقة أو مختلفة.

و عليه فكل ما كان الواجب ذا افراد أو ذا أجزاء متعددة وجب الإتيان بما هو المقدور من أجزائه أو افراده.

______________________________
(1) النور: 30.

(2) النمل: 23.

(3) عوالي اللئالي: 4- 58.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 467‌

و أشكل في الكفاية «1» على الاستدلال بها بان ظهور إطلاق النهي في التحريم يعارضه إطلاق الموصول للمستحبات أيضا، و بما أنه لا مرجح لأحدهما على الآخر، لا يستفاد منها إلاّ رجحان الإتيان بما هو المقدور من الأجزاء دون وجوبه.

و يرد عليه: أولا: بما ذكرناه في محله من أن كلا من الوجوب و الحرمة انما هو بحكم العقل، و خارج عن دائرة المستعمل فيه، و ان الصيغة مطلقا لا تستعمل إلاّ في معنى واحد، و كل مورد ثبت فيه الترخيص في الفعل أو الترك يحكم فيه بالاستحباب أو الكراهة، و إلاّ فالعقل يستقل بلزوم الإطاعة جريا على مقتضى قانون العبودية و المولوية، و عليه فالموصول و ان كان شاملا للمستحبات إلاّ ان ثبوت الترخيص بترك المقدور من أجزائها لا ينافي حكم العقل بلزوم الإتيان بالمقدور من اجزاء الواجب بعد عدم ثبوت الترخيص فيها.

و ثانيا: ان رجحان الإتيان بالمقدور من أجزاء الواجب يستلزم وجوبه، لعدم القول بالفصل، فان أمره دائر بين كونه واجبا أو غير مشروع، فرجحانه مستلزم لوجوبه لا محالة، و قد تقدم نظير ذلك في الاستدلال بآية النفر.

و التحقيق في الجواب أن يقال: أن الرواية على تقدير تسليم دلالتها لم يثبت انجبارها بعمل الأصحاب، إذ لم نعثر عليها في غير كتاب العوائد فلا وثوق باعتماد الأصحاب عليها، مع عدم وجدانها في كتب من تقدم على صاحب غوالي اللئالي.

على أن دلالتها مخدوشة من وجهين.

الأول: أن ظاهر الرواية أن كل طبيعي وجب الإتيان بأفراده على نحو الاستغراق، و لم يتمكن المكلف من الإتيان بجميعها وجب الإتيان بما تمكن و لو كان‌

______________________________
(1) كفاية الأصول: 2- 253.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 468‌

فردا واحدا، فان تعذر بعض أفراد الواجب لا يوجب إلاّ سقوط نفسه دون غيره من الافراد الممكنة، و على هذا فالحكم في الرواية إرشادي غير مختص بمورد دون مورد. و اما إذا حملناها على تعذر المركب مع التمكن من الإتيان ببعض أجزائه، فلا بد من تقييدها بما إذا كان المتمكن منه معظم الأجزاء، فانه إذا كان المتعذر هو المعظم لم يجب الإتيان بالباقي بلا كلام، و التقييد خلاف الأصل.

الثاني: أن أمر الرواية في نفسه دائر بين حملها على موارد تعذر المركب مع التمكن من بعض أجزائه، ليكون الوجوب المستفاد منها مولويا بعد سقوط المركب بتعذره، و بين حملها على موارد تعذر بعض أفراد الواجب مع التمكن من البعض الآخر، ليكون الوجوب إرشاديا إلى حكم العقل من عدم سقوط وجوب شي‌ء بتعذر غيره، و بما أنه لا جامع بين الوجوب الإرشادي و المولوي لتكون الرواية شاملة لكلا الأمرين، و لا قرينة على تعيين أحدهما مع قطع النّظر عما ذكر في الوجه الأول، فتكون الرواية مجملة لا يصح الاستدلال بها.

فان قلت: ان ظهور الأمر في المولوية يعين الاحتمال الأول، فتختص الرواية بموارد تعذر بعض أجزاء المركب.

قلت: هذا يصح فيما إذا علم متعلق الأمر و شك في كونه مولويا. و أما إذا دار أمر المتعلق بين ما لا يصح تعلق الأمر به إلاّ إرشاديا و ما يكون الأمر به مولويا، فلا ظهور للأمر في تعيين متعلقه، فان ظهور الأمر في المولوية ليس ظهورا وضعيا ليكون قرينة على تعيين المتعلق، بل هو ظهور مقامي ناشئ من التصدي للجعل و التشريع، فلا يصلح قرينة لتعيين المتعلق.

و بذلك يظهر عدم دلالة الرواية الثانية على وجوب الباقي من أجزاء المركب مع الغض عن جميع ما ذكرناه من المناقشة فيها.

الرواية الثالثة: المرسلة المنقولة في العوائد أيضا عن كتاب عوالي اللئالي عن‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 469‌

علي عليه السلام (الميسور لا يسقط بالمعسور) «1» و هي مشتركة مع الرواية المتقدمة من حيث المناقشة في السند، فيجري فيها ما قدمناه.

و اما من حيث الدلالة، فتحقيق الكلام فيها يتوقف على بيان محتملات الرواية، و هي أمور:

الأول: أن يكون كلمة «لا يسقط» نهيا ابتداء، و عليه فيجري فيه ما ذكرناه من إجمال الرواية، و عدم ظهور النهي في كونه مولويا أو إرشاديا. و اما ما ذكره في الكفاية «2» من أن شمول الرواية للمستحبات مانع عن التمسك بها للحكم بوجوب الباقي من أجزاء المركب الواجب، فقد عرفت الجواب عنه، فلا حاجة إلى الإعادة.

إلاّ أن التحقيق: أن هذا الاحتمال ساقط في نفسه، فان النهي مولويا كان أو إرشاديا لا بد و أن يتعلق بفعل المكلف و ما هو تحت اختياره وجودا و عدما، و من الظاهر أن سقوط الواجب عن ذمة المكلف كثبوته مما يرجع أمره إلى الشارع، و لا معنى لنهي المكلف عنه.

الثاني: أن يكون كلمة (لا يسقط) نفيا قصد به الإنشاء، فالجملة و ان كانت خبرية صورة إلاّ أنها إنشائية معنى، فيجري على هذا الاحتمال جميع ما ذكرناه على الاحتمال الأول.

الثالث: أن تكون الجملة خبرية محضة أريد بها الاخبار عن عدم سقوط الوجوب أو الاستحباب عند تعذر بعض الأجزاء من المركب، أو بعض الأفراد من الطبيعي، على نحو المجاز في الإسناد، أو على نحو الحقيقة فيه، فان السقوط و الثبوت كما يصح إسنادهما إلى الحكم، كذلك يصح إسنادهما إلى نفس الواجب أو‌

______________________________
(1) عوالي اللئالي: 4- 58.

(2) كفاية الأصول: 2- 252.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 470‌

المستحب، فيقال الصلاة ثابتة في الذّمّة أو ساقطة عنها. و كيف كان فالرواية دالة على بقاء الحكم أو متعلقه في الذّمّة و لو تعذر بعض أجزائه أو بعض أفراده، بلا محذور في الجمع بينهما. بل هي دالة أيضا على وجوب المرتبة النازلة من الشي‌ء إذا تعذرت المرتبة العالية منه في فرض كون المرتبة النازلة في الصدق العرفي ميسورا من المرتبة العالية.

و لكن الصحيح: أن ما ذكرناه و ان كان غاية ما يمكن أن يقرب به دلالة الرواية على ما نحن بصدده، إلاّ أنه غير خال عن الخدشة، فان لفظ السقوط المذكور في الرواية قرينة على اختصاصها بموارد تعذر بعض الأفراد دون بعض، فان غير المتعذر كان وجوبه ثابتا قبل تعذر المتعذر، فهو باق على ما كان عليه، و أما بعض المركب فلم يكن واجبا إلاّ بوجوب ضمني سقط بسقوط المركب بتعذره، فلو كان ثابتا بعد ذلك فهو ثبوت جديد و جعل حادث. فلا معنى للاخبار عن عدم سقوطه بتعذر غيره. و كذلك الحال في المرتبة النازلة عند تعذر المرتبة العالية، فان المرتبة النازلة على تقدير وجوبها و ثبوتها في الذّمّة ثابتة بثبوت جديد و جعل حادث.

فإرادة معنى عام من الرواية شامل لموارد تعذر بعض الافراد و تعذر بعض الاجزاء، و تعذر المرتبة العالية يحتاج إلى عناية و مسامحة، لا يصار إليها إلاّ بقرينة.

فتحصل من جميع ما ذكرناه أنه لا دليل على وجوب الإتيان بالميسور من اجزاء الواجب عند تعذر بعضها، فالمرجع حينئذ هو الأصل العملي، و قد مر الكلام فيه. نعم قد عرفت وجوب الإتيان بما تمكن من أجزاء الصلاة، لقيام الدليل عليه بالخصوص.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net