الثامن الكافر 

الكتاب : فقه الشيعة - كتاب الطهارة ج‌3   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 13986

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 83‌

[الثامن الكافر]

نجاسة الكافر

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 84‌

أقسام الكافر. منكر الضروري. ولد الكافر.

لو كان أحد الأبوين مسلما. طهارة ولد الزّنا.

حكم الغلاة و الخوارج و النواصب. و المجسّمة. و المجبّرة. و القائلين بوحدة الوجود.

فرق الشيعة. المشكوك إسلامه.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 85‌

«الثامن» الكافر بأقسامه (1).

______________________________
(1)
نجاسة المشرك و من يلحق به.

على المشهور، بل لم يعرف الخلاف من أحد في غير الكتابي، فانّ المشرك نجس بضرورة المذهب. و أولى منه بالنجاسة الملحد المنكر لوجود الصانع، فانّ المشرك يعبد الأوثان تقربا إلى اللّه تعالى، و الملحد لا يقر بوجود الخالق رأسا، فهو أنجس منه. و قد اتفقت الخاصّة، و تواترت رواياتهم على نجاسة الناصب لأهل البيت عليه السّلام، و في بعضها «1»: أنه أنجس من الكلب، فهذه العناوين الثلاثة- المشرك، و الملحد، و الناصب- مما لا إشكال، و لا خلاف عند الشيعة في نجاستهم.

حكم أهل الكتاب.

و أما أهل الكتاب، كاليهود، و النصارى، و المجوس- بناء على وجود كتاب لهم- فالمشهور عندنا نجاستهم، بل عن جمع من الأعلام- كالمرتضى، و ابن زهرة، و العلامة في جملة من كتبه- دعوى الإجماع على نجاسة الكافر بجميع أنواعه.

و ضابطه: من خرج عن الإسلام و بائنة، أو انتحله و جحد ما يعلم بكونه من الدين ضرورة. و الأول شامل للكافر كفرا أصليّا أو ارتداديّا، كتابيّا كان أو غير كتابي، و الثاني يعمّ مثل الغلاة و الخوارج و النواصب.

و لكن المحكي عن بعض القدماء- كابن الجنيد، و العماني، و الشيخ في النهاية القول بطهارة الكتابي، و تبعهم جماعة من متأخري المتأخرين. هذا‌

______________________________
(1) كما في موثق ابن أبى يعفور: «فان اللّه تبارك لم يخلق خلقا أنجس من الكلب. و الناصب لنا أهل البيت لا نجس منه» وسائل الشيعة: الباب 11 من أبواب الماء المضاف. الحديث: 5.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 86‌

..........

______________________________
مذهب الخاصّة.

و أما العامّة فذهب أكثرهم «1» إلى القول بعدم نجاسة الكافر حتّى المشرك بل لم ينقل القول بنجاسة المشرك إلّا عن قليل منهم «2» و أما غيره من أصناف الكفّار فجمهورهم على عدم القول بالنجاسة، حتّى أنّ السيّد المرتضى جعل القول بنجاسة الكافر من متفرّدات الإماميّة.

و كيف كان فالمتبع هو الدليل، و العمدة هو البحث عن نجاسة أهل الكتاب و أما المشرك و الملحد فلا ينبغي التأمل في نجاستهما- كما عرفت.

الآية الكريمة و نجاسة أهل الكتاب.

فنقول: قد استدل على نجاسة الكافر مطلقا بقوله تعالى:

______________________________
(1) في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة- ج 1 ص 11 الطبعة الخامسة- في عداد الأعيان الطاهرة قال: و منها- أى من الأعيان الطاهرة- ميتة الأدمي، و لو كان كافرا، لقوله تعالى:

وَ لَقَدْ كَرَّمْنٰا بَنِي آدَمَ و تكريمهم يقتضي طهارتهم أحياء، و أمواتا. أما قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فالمراد نجاستهم المعنوية.».

و في المغني ج 1 ص 49: «الأدمي طاهر، و سؤره طاهر، سواء كان مسلما، أو كافرا، عند عامة أهل العلم».

و في عمدة القارئ للعيني الحنفي ج 2 ص 60: «الأدمي الحي ليس بنجس العين، و لا فرق بين الرجال و النساء».

لكن عن المحلى لابن حزم ج 1 ص 183: «الصوف، و الوبر، و القرن، و السن من المؤمن طاهر، و من الكافر نجس، و نسب الشوكانى في نيل الأوطار نجاسة الكافر الى مالك.

(2) كالفخر الرازي في تفسيره- ج 16 ص 24 طبعة مصر عام 1357- قال: «و اختلفوا في تفسير كون المشرك نجسا، نقل صاحب الكشاف عن ابن عباس أن أعيانهم نجسة، كالكلاب و الخنازير. و عن الحسن من صافح مشركا توضأ، و هذا قول الهادي من أئمة الزيدية. و أما الفقهاء فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم. و اعلم أن ظاهر القرآن يدل على كونهم أنجاسا فلا يرجع عنه الا بدليل منفصل و لا يمكن ادعاء الإجماع فيه لما بينا أن الاختلاف فيه حاصل.» ثم أخذ في مناقشة بقية الوجوه.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 87‌

..........

______________________________
إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ. «1».

و الاستدلال بها يبتنى على أمرين:

الأول: من ناحية الموضوع، و هو ان يكون المراد من المشرك ما يعم أهل الكتاب. أما اليهود و النصارى فيدل على كونهم مشركين قوله تعالى:

وَ قٰالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّٰهِ، وَ قٰالَتِ النَّصٰارىٰ الْمَسِيحُ ابْنُ اللّٰهِ. إلى قوله عز من قائل- سُبْحٰانَهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ «2»، فأطلق على عقيدتهم هذه الشرك. و أما المجوس- بناء على أنّهم من أهل الكتاب- فقائلون بألوهيّة يزدان و أهرمن، و النور و الظلمة، فهم أيضا مشركون، كاليهود و النصارى.

هذا من ناحية الموضوع.

و الثاني: من ناحية الحكم، و هو أن النجس- بالفتح- سواء أ كان مصدرا حمل على الذات مبالغة أو وصفا كالنجس- بالكسر- يراد به ما هو المصطلح عند المتشرعة، و حقيقة عندهم فعلا، و هو ضد الطهارة الشّرعية.

فالحقيقة الشّرعية و ان لم تكن ثابتة، إلّا أن الاستعمال الشرعي في هذا المفهوم ثابت، و عليه جرت استعمالات المتشرعة حتّى صارت حقيقة في لسانهم. فيكون المفهوم عند المتشرّعة هو المراد من اللفظ عند الشارع، كما في باقي الألفاظ الّتي ثبت لها حقائق عندهم، كالصلاة، و الزكاة، و نحوهما.

و الصحيح في الجواب أن يقال: إنّ كلا الأمرين محل منع و إشكال.

أما الأمر الأول فيرده: أن إطلاق المشرك على أهل الكتاب- و ان كان في الكتاب العزيز- مما لا يخلو عن نحو من العناية و التجوز، لأن المتبادر من المشرك عبّاد الأوثان، لا مطلق من صح توصيفه بالشرك بنحو من‌

______________________________
(1) التوبة 9: 28.

(2) التوبة 9: 30- 31.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 88‌

..........

______________________________
الاعتبار. و إلّا فصدق المشرك على المرائي أولى من صدقه على أهل الكتاب، و قد أطلق عليه المشرك في بعض الأخبار
«1»، مع انه لا يعمه الإطلاق قطعا.

و إن شئت فقل: إن قرينة المقابلة و تخصيص كل منهما بحكم تدل على أنّ المراد بالمشرك في الآية الكريمة غير اليهود و النصارى، فإنه عز من قائل قابل بين المشركين و بين أهل الكتاب في الذكر، ثمّ خص الأول بتحريم اقترابهم من المسجد الحرام، و خصّ الثاني بإعطاء الجزية، حيث قال تعالى- بعد منع المشركين من اقتراب المسجد الحرام- قٰاتِلُوا الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ. إلى أن قال تعالى مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حَتّٰى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ «2». و بالجملة: لا وجه لتعميم المشرك لأهل الكتاب.

و أما الأمر الثاني ففيه: أنّه لم يثبت إرادة المعنى المعهود- و هي النجاسة في مقابل الطهارة- من الآية الشريفة، لاحتمال عدم معهوديّتها في زمان نزول الآية الكريمة، للتدرج في الأحكام، و من المحتمل- قريبا- إرادة معنى آخر. و أنسب المعاني إلى معناه اللغوي- و هي القذارة- القذارة النفسانية، من جهة فساد العقيدة، لاقتضاء مناسبة الحكم و الموضوع لهذا المعنى، لأنه تعالى حرّم دخولهم في المسجد الحرام الّذي هو بيت التوحيد، فلا يباح دخوله لعدو اللّٰه المشرك و أما النجاسة المصطلحة فلا توجب حرمة‌

______________________________
(1) كما في صحيحة زرارة، و حمران عن أبى جعفر- ع- قال. «لو أن عبدا عمل عملا يطلب به وجه اللّٰه و الدار الآخرة، و أدخل فيه رضا أحد من الناس كان مشركا».

و قال أبو عبد اللّٰه- ع: «من عمل للناس كان ثوابه على الناس. يا زرارة كل رياء شرك».

وسائل الشيعة ج 1 ص 67 الباب 11 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث: 11. و نحوه الحديث: 13 و 16.

(2) التوبة 9: 29.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 89‌

..........

______________________________
الدخول في المسجد ما لم يكن موجبا للهتك أو السراية.

الاخبار و نجاسة أهل الكتاب و استدل على نجاسة أهل الكتاب أيضا بالأخبار المرويّة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام و هي العمدة في المقام، و لكنها متعارضة، فلا بد من البحث عنها في مقامين: الأول في الأخبار الّتي استدل بها على نجاستهم. و الثاني في الأخبار المعارضة لها، ثمّ النظر في العلاج جمعا أو طرحا.

أما المقام الأول، فالروايات الدالّة على النجاسة متوفرة:

منها: حسنة سعيد الأعرج، قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن سؤر اليهودي و النصراني فقال: لا» «1».

و إطلاق النهي فيها يدل على عدم جواز استعمال سؤرهم في الأكل و الشرب، و هو أثر النجاسة. و المسؤل عنه إنّما هو سؤرهم من حيث كونه سؤرا، فاحتمال كون النهي لأجل طرو نجاسة عرضيّة عليه- من جهة عدم اجتنابهم عن النجاسات كالخمر، و البول، و غيرهما فيتنجس سؤرهم بذلك لمباشرتهم له- خلاف الظاهر. كما أن حمل النهي على الكراهة كذلك. فهذه الرواية لا بأس بها سندا و دلالة.

و منها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام «في رجل صافح رجلا مجوسيّا. فقال: يغسل يده، و لا يتوضأ» «2».

بدعوى: أن المتبادر من الأمر بغسل اليد الملاقية للكتابي الإرشاد إلى النجاسة.

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 421 الباب 14 من أبواب النجاسات، الحديث: 8.

(2) وسائل الشيعة ج 3 ص 419 الباب 14 من أبواب النجاسات، الحديث: 3.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 90‌

..........

______________________________
هذا، و لكن الأمر بغسلها في الرواية تدور حاله بين أحد أمرين، إما حمله على الاستحباب مطلقا، أو الوجوب مع فرض الرطوبة في اليد فيدور الحال بين حمل الأمر على الاستحباب، أو التقييد بالمنفصل- اعنى بما دل على ان «كلّ شي‌ء يابس زكى»-
«1».

و ليس الثاني بأولى من الأوّل، لولا العكس، لوجود القرينة الداخلية و الخارجية على ذلك- أي على الحمل على الاستحباب. أما القرينة الداخلية فلاستلزام الحمل على وجود الرطوبة في اليد الحمل على الفرد النادر، لغلبة عدمها في اليد و أما القرينة الخارجيّة فهي:

رواية خالد القلانسي قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: ألقى الذّمي فيصافحني. قال: امسحها بالتراب و بالحائط. قلت: فالناصب؟ قال:

اغسلها» «2».

فإنّها تدل على عدم نجاسة يد الكتابي، لأن المسح بالتراب أو بالحائط ليس من جملة المطهرات، فلا بد من حمله على الاستحباب. أو على رفع القذارة المتوهمة. نعم أمره عليه السّلام في النّاصب بغسل اليد يدل على نجاسته، فلو لا هذه الرواية لأمكن حمل الأمر بغسل اليد في الصحيحة على الإرشاد إلى النجاسة، و على صورة الملاقاة بالرطوبة، كما هو الحال في أمثاله، إلّا أنّ هذه الرواية تصلح للقرينية. فهذه الصحيحة تقصر عن الدلالة على المطلوب أيضا.

و منها: صحيحة محمّد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن‌

______________________________
(1) تقدم ما يدل على ذلك في ص 68- 67.

(2) وسائل الشيعة ج 3 ص 420 الباب 14 من أبواب النجاسات. الحديث: 4.

ضعيفة بعلي بن معمر، لانه مجهول.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 91‌

..........

______________________________
آنية أهل الذمة و المجوس؟ فقال: لا تأكلوا في آنيتهم، و لا من طعامهم الّذي يطبخون، و لا في آنيتهم الّتي يشربون فيها الخمر»
«1».

و قد رواها في الحدائق «2» و مصباح الفقيه «3» بإسقاط قوله عليه السّلام: «لا تأكلوا في آنيتهم» و كيف كان فهي على خلاف المطلوب أدل.

أما أولا: فلقوة احتمال أن يكون المنع عن أكل طعامهم المطبوخ لأجل وجود الأشياء المحرّمة فيه، كالميتة، و الدم، و لحم الخنزير، و شحمة. و نحو ذلك من المحرّمات الّتي لا يحترزون عن أكلها.

و أما ثانيا: فلاحتمال أن يكون المنع عنه من جهة تنجس أوانيهم المعدّة للطبخ بنحو ما ذكر من النجاسات. فلا دلالة فيها على ان المنع انما كان لأجل مباشرتهم لها برطوبة مسرية، فالتقييد بالطبخ يوجب قلب الظهور. و لا أقل من الإجمال.

و أوضح منه إشكالا: تقييد الأواني بالّتي يشربون فيها الخمر دون ما يشربون فيها الماء و نحوه من الأشياء المحلّلة الطاهرة، فإن ظاهره انحصار وجه المنع في التنجس بالنجاسات الخارجية، دون مباشرتهم لها برطوبة مسرية. و أما الإطلاق في قوله عليه السّلام: «لا تأكلوا في آنيتهم» في صدر الجواب فمحمول على ذلك أيضا، بقرينة ما بعده. و بالجملة: ان هذه الرواية و ان كانت صحيحة السند، و لكنها قاصرة الدلالة، كسابقتها.

و منها: موثقة الكاهلي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن قوم مسلمين يأكلون و حضرهم رجل مجوسيّ، أ يدعونه إلى طعامهم؟ فقال: أما‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 419 الباب 14 من أبواب النجاسات، الحديث: 1.

(2) ج 5 ص 166، طبعة النجف الأشرف.

(3) في كتاب الطهارة ص 558.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 92‌

..........

______________________________
أنا فلا أو أكل المجوسي، و أكره أن أحرّم عليكم شيئا تصنعون في بلادكم»
«1».

و هذه أيضا قاصرة الدلالة- و إن عدت في الروايات الدالّة على نجاسة الكافر- لأن عدم مؤاكلة الإمام عليه السّلام المجوسي أعم من نجاسته، لاحتمال أن يكون ذلك من جهة عدم تناسبها لمقام الإمامة و أما كراهته عليه السّلام تحريم ما يصنعونه في بلادهم فهي على الطهارة أدل.

و منها: موثقة أبي بصير عن أحدهما عليه السّلام «في مصافحة المسلم اليهودي و النصراني. قال: من وراء الثّوب. فان صافحك بيده فاغسل يدك» «2».

و هذه أيضا قاصرة الدلالة، لأنهم لو كانوا أنجاسا لتنجس الثوب أيضا بمصافحتهم- مع الرطوبة فيه، أو في يد الكافر- و وجب غسله، فجواز المصافحة مع الثوب مطلقا و لو كان مع الرطوبة دال على طهارتهم، فلا بد من حمل الأمر بغسل اليد إذا صافحهم بها على الاستحباب. فمدلول الرواية هو استحباب التجنب عنهم، و محبوبيّة الاستخفاف بهم، بالمصافحة معهم من وراء الثياب أو بغسل اليد إذا صافحهم بها، أو بمسحها بالتراب أو بالحائط، كما في رواية القلانسي المتقدمة «3».

و منها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى عليه السّلام قال: «سألته عن مؤاكلة المجوسيّ في قصعة واحدة، و أرقد معه على فراش واحد، و أصافحه. قال: لا» «4».

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 419 في الباب المتقدم، الحديث، 2. و الكاهلي- و هو عبد اللّٰه بن يحيى- قد مدحه النجاشي بل هو ثقة لأنه من رجال كامل الزيارات الذين وثقهم مؤلفه كما تقدم في تعليقة ص 33.

(2) وسائل الشيعة ج 3 ص 420 الباب 14 من أبواب النجاسات، الحديث: 5.

(3) في الصفحة 80.

(4) وسائل الشيعة ج 3 ص 420 الباب 14 من أبواب النجاسات. الحديث: 6.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 93‌

..........

______________________________
و هذه- كسابقتها أيضا- في عدم الدلالة إلّا على كراهة الاختلاط مع الكافر، و ذلك بقرينة النهي عن الرقود معه في جملة الأمور المنهي عنها، إذ لا محذور فيه من جهة النجاسة. هذا مضافا إلى أن في إطلاق النهي عن المؤاكلة معه في قصعة واحدة قرنية اخرى على عدم إناطة المنع بالنجاسة، إذ المؤاكلة الممنوع عنها من جهة النجاسة تختص بصورة رطوبة الطعام ليس غير.

و نحوها: صحيحة هارون بن خارجة قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: إنّي أخالط المجوسيّ، فآكل من طعامهم، فقال: لا» «1».

و منها: صحيحة عليّ بن جعفر: أنه سأل أخاه موسى بن جعفر عليه السّلام عن النّصراني يغتسل مع المسلم في الحمّام. قال: إذا علم أنه نصرانيّ اغتسل بغير ماء الحمام. إلّا أن يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثمّ يغتسل.

و سأله عن اليهودي و النّصراني يدخل يده في الماء، أ يتوضأ منه للصلاة قال: لا إلّا أن يضطر إليه» «2».

و لا يخفى أنه لا بأس بالاستدلال بصدرها على نجاستهم، لأن الأمر بالاغتسال بغير ماء الحمام الّذي يغتسل منه النّصراني، و كذلك الأمر بغسل‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 420 الباب 14 من أبواب النجاسات. الحديث: 7. و هي صحيحة. و المراد ب‍ «محمد بن زياد»- في طريقها- هو ابن أبي عمير بقرينة روايته عن هارون صريحا في موارد أخر.

(2) وسائل الشيعة ج 3 ص 421 في الباب المتقدم. الحديث: 9. و في تعليقة الوسائل عن البحار ج 4 ص 155 و زاد: «سألته عن اليهودي و النصراني يشرب من الدورق أ يشرب منه المسلم قال: لا بأس» و «الدورق»: مكيال للشرب، و الجرة ذات العروة، معرب «دوره»- بالفارسية ج «دوارق»- كذا في أقرب الموارد- و في المنجد: «الدورق» الإبريق الكبير له عروتان. أقول: لو تمت هذه الزيادة لكانت الصحيحة على الطهارة أدل.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 94‌

..........

______________________________
الحوض ثم الاغتسال منه إذا اغتسل المسلم وحده بعد اغتسال النّصراني منه، لا وجه له سوى نجاسة النّصراني ذاتا، لظهور السؤال في كونه عن نفس العنوان- أعنى الكفر- دون النجاسة العرضيّة الحاصلة بملاقاة أبدانهم البول، أو المني، أو غيرهما مما لا يختص بالكافر. و من المعلوم أنه لا بد من حمل ماء الحمام في مفروض السؤال على الحياض الصغار عند انقطاع المادّة عنها، و إلّا فمع الاتصال بها لا وجه للاجتناب، و ان باشره الكافر.

هذا ما يرجع إلى صدر الرواية.

و أما ذيلها فهي على الطهارة أدل، فإنه سأل ثانيا عن التوضؤ بماء أدخل اليهودي أو النّصراني يده فيه، فأجابه الإمام عليه السّلام بالجواز مع الاضطرار، و هذا لا يلائم النجاسة، لأنه مع فرض انحصار الماء في النجس ينتقل الفرض إلى التيمم، فالجواز في هذه الحالة يلازم الطهارة. نعم يستحب التنزّه عنه في فرض عدم الانحصار. و حمل الاضطرار على التقية- كما عن الشيخ «قده»- خلاف الظاهر لا موجب للمصير إليه، لأن ظاهرها الاضطرار إلى الوضوء منه لانحصار الماء فيه، لا الاضطرار إلى أن يتوضأ بالماء النجس تقية.

و منها: صحيحة أخرى لعلي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن فراش اليهودي، و النّصراني ينام عليه. قال: لا بأس، و لا يصلّي في ثيابهما. و قال: لا يأكل المسلم مع المجوسي في قصعة واحدة، و لا يقعده على فراشه، و لا مسجده، و لا يصافحه. قال: و سألته عن رجل اشترى ثوبا من السّوق للبس لا يدري لمن كان، هل تصلح الصلاة فيه؟ قال: إن اشتراه من مسلم فليصلّ فيه، و إن اشتراه من نصرانيّ فلا يصلّي فيه حتّى يغسله» «1».

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 421 الباب 14 من أبواب النجاسات الحديث: 10.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 95‌

..........

______________________________
و هذه أيضا لا تدل على النجاسة الذاتية لأهل الكتاب أما صدرها فعلي الطهارة أدل، لأن إطلاق نفي البأس عن النوم على فراش اليهودي و النصراني يلازم الطهارة لعدم الخلو عن مسهم إياه برطوبة مسرية توجب تنجسه بملاقاة أبدانهم، فعدم البأس بنوم المسلم عليه مطلقا- و لو مع الرطوبة- دال على عدم نجاستهم. و أما النهي عن مؤاكلة المجوسيّ في قصعة واحدة، و إقعاده على فراش المسلم، و مسجده، و المصافحة معه فلا بد من حمله على كراهة المخالطة معهم كذلك، و استحباب التباعد عنهم، إذ النهي التحريمي الدال على نجاستهم يختص بما إذا كان ذلك مع الرطوبة فالإطلاق لا يلائم إلّا مع الكراهة و التنزّه. و أما الصلاة في ثياب اليهود و النصارى المستعارة أو المشتراة منهم فصحيحة لا بد من حمل النهي عنها على الكراهة، و حمل الأمر بغسلها قبل الصلاة على الاستحباب. أو على توهم النجاسة العرضيّة من جهة عدم اجتنابهم عن النجاسات، كالخمر، و الميتة، و الدم. لما في جملة من الأخبار
«1» من جواز الصلاة في الثوب المأخوذ منهم قبل الغسل.

و منها: رواية زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «في آنية المجوس. قال:

إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء» «2».

هذه و إن كانت تدل على نجاسة أوانيهم، لأن الأمر بغسلها بالماء إرشاد إلى ذلك، إلّا أنها لا تدل على نجاستهم الذاتية، لاحتمال أن‌

______________________________
(1) المروية في وسائل الشيعة ج 3 ص 518 و 521 في الباب 73 و 74 من أبواب النجاسات. فراجع.

(2) وسائل الشيعة ج 3 ص 422 الباب 14 من أبواب النجاسات. الحديث: 12.

ضعيفة بموسى ابن بكر، فإنه لم يوثق.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 96‌

..........

______________________________
يكون الأمر بالغسل من جهة تنجس الأواني بسائر النجاسات الّتي لا يجتنبون عنها في الأكل و الشرب- من الميتة، و الدم، و لحم الخنزير، و الخمر- لا من جهة مباشرتهم لها، فهذه أيضا قاصرة الدلالة.

فتحصل من جميع ما ذكرناه: أن الروايات الّتي استدل بها على نجاسة أهل الكتاب و إن كان بعضها قاصرا سندا، أو دلالة، إلّا أن في البعض المعتبر سندا، و الظاهر دلالة غنى و كفاية «1». لكنها معارضة بجملة كثيرة من الروايات المعتبرة سندا و دلالة، فيقع الكلام في:

المقام الثاني: و هو في ذكر الأخبار الدالّة على طهارة أهل الكتاب الّتي استدل بها القائلون بطهارتهم. و قد ذكرت في أبواب متفرقة جمعها في الحدائق «2» فلا بد من النظر فيها، و العلاج بينها و بين الأخبار المتقدمة.

الاخبار و طهارة أهل الكتاب منها: ما دل على جواز مؤاكلة المسلم في طعامه لأهل الكتاب إذا توضأ ك‍:

صحيحة العيص بن قاسم قال سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن مؤاكلة اليهود، و النصرانيّ، و المجوسيّ، فقال: إذا كان من طعامك، و توضّأ فلا بأس» «3».

فإن منطوقها و هو جواز المؤاكلة معهم إذا كان من طعام المسلم مع‌

______________________________
(1) كالرواية الاولى، و هي حسنة سعيد الأعرج و صدر الثامنة، و هي صحيحة على بن جعفر.

(2) ج 5 ص 169- 170. طبعة النجف الأشرف.

(3) وسائل الشيعة ج 3 ص 497 الباب 54 من أبواب النجاسات، الحديث: 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 97‌

..........

______________________________
توضؤ الكتابي يدل على عدم نجاستهم الذاتيّة، و إلّا فلا فرق بين طعامهم و طعام المسلم كما لا فرق بين التوضؤ- المراد به غسل اليد- و عدمه. و لا بد من حمل الطعام على الرطب، كالمرق و نحوه، و إلّا فاليابس- كالخبز، و التمر، و نحوهما- لا يفرق فيه بين طعامهم و طعام المسلم أيضا، لعدم سراية النجاسة مع اليبوسة. و مفهومها و إن كان عدم جواز مؤاكلتهم إذا كان من طعامهم، أو لم يتوضؤا، إلّا أنّه ليس إلّا لأجل النجاسة العرضيّة، لعدم خلوه من النجاسات، نحو الدم، و الميتة، و لحم الخنزير الّتي توجب نجاسة أيديهم بمباشرتها، و عليها تحمل الأخبار الناهية عن الأكل من طعامهم، كما سبق.

و منها: صحيحة إبراهيم بن محمود قال: «قلت للرضا عليه السّلام:

الجارية النصرانيّة تخدمك، و أنت تعلم أنها نصرانيّة لا تتوضّأ، و لا تغتسل من جنابة. قال: لا بأس تغسل يديها» «1».

و هذه كالصريحة في الطهارة، و أن الجارية النصرانيّة ليس فيها إلّا النجاسة العرضيّة المرتفعة بغسل يديها، كما ان ظاهر السؤال هو ذلك، و قد أقرّه الإمام عليه السّلام على ذلك. ثم إنه لا فرق في الدلالة بين أن يكون السؤال عن القضية الشخصية الواقعة للإمام عليه السّلام بان كانت عنده جارية نصرانيّة تخدمه، حيث أن الضمير فيها للخطاب- و إن كان بعيدا، لجلالة الراوي، إذ لا يحتمل في حقه أن يسأل عن فعل الإمام، كما لا يسأله عن قوله عليه السّلام فان فعله كقوله حجة لنا- أو القضيّة الحقيقيّة الفرضيّة، لأن السائل قد يفرض المخاطب مبتلى بالمسئول عنه، و هو كثير في المحاورات‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 497 الباب 54 من أبواب النجاسات، الحديث: 2.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 98‌

..........

______________________________
العرفية، و في الأسئلة من المجتهدين و العلماء كما أنه قد يفرض موضوع السؤال شخصا غائبا، و اخرى يفرضه نفس المتكلم و على الأول تكون جملة: «تغسل يديها» خبرية. و على الثاني إنشائية، تدل على وجوب غسل يديها لرفع النجاسة العرضيّة.

و منها: صحيحته الأخرى قال: «قلت للرضا عليه السّلام: الخيّاط أو القصّار يكون يهوديّا أو نصرانيّا، و أنت تعلم أنه يبول و لا يتوضأ، ما تقول في عمله؟ قال: لا بأس» «1».

و دلالتها ظاهرة، فان فرض عدم ملاقاة بدن الخياط للثوب مع الرطوبة و ان كان ممكنا- على ما فيه من البعد- فيحمل السؤال على صورة عدم العلم بالملاقاة. لكنه في القصّار- و هو غاسل الثياب- فرض ممتنع عادة، فنفي البأس عن عمله كالصريح في طهارته.

و منها: صحيحة إسماعيل بن جابر قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال: لا تأكله، ثم سكت هنيئة ثم قال: لا تأكله، ثم سكت هنيئة ثم قال: لا تأكله. و لا تتركه تقول: إنه حرام، و لكن تتركه تتنزّه عنه، إن في آنيتهم الخمر، و لحم الخنزير» «2».

و هذه صريحة في طهارة أهل الكتاب، بل تصلح لأن تكون شارحة لأخبار النجاسة و حاكمة عليها، بحمل النهي عن طعامهم فيها على التنزيه، من جهة عدم اجتنابهم من النجاسات، كالخمر، و لحم الخنزير.

و منها: رواية زكريا بن إبراهيم قال: «دخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقلت: إني رجل من أهل الكتاب، و إنّي أسلمت، و بقي أهلي كلهم على‌

______________________________
(1) الوافي ج 1 ص 32 م 4.

(2) وسائل الشيعة: الباب 54 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث: 4.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 99‌

..........

______________________________
النصرانيّة، و أنا معهم في بيت واحد لم أفارقهم بعد، فآكل من طعامهم؟ فقال:

لي يأكلون الخنزير؟ فقلت: لا، و لكنهم يشربون الخمر، فقال لي: كل معهم، و اشرب» «1».

فإن المستفاد منها: أن أهل الكتاب ليسوا أنجاسا بالذات، و إنّما يمنع عن مؤاكلتهم ابتلاؤهم بالنجاسات العرضيّة، من جهة أكل لحم الخنزير و نحوه و الظاهر، أن وجه التفصيل بينه و بين شرب الخمر، هو انه على الأول يتنجس الأواني- التي هي محل ابتلاء المسلم في أكله- بملاقاتها اللحم أو ما يلاقيه. و أما على الثاني فيما ان الخمر لها أوان مخصوصة معدّة لها يمكن الاجتناب عنها غالبا، أو انه عند شربها لا يتنجس سوى الشفتين، و هما يغسلان في كلّ يوم و لو مرة واحدة، فترتفع نجاستهما، و هذا بخلاف الطعام، لانه في معرض ملاقاة أكثر الأواني.

هذا، على ان غاية ما هناك دلالة الرواية على طهارة الخمر، فتكون هذه الفقرة منها في عداد الروايات الدالة على طهارتها، الّتي لا بد من علاجها جمعا أو طرحا، فلا ضير في الاستدلال على المطلوب بباقي الحديث.

و منها: موثقة عمار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن الرجل هل يتوضأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب منه على أنه يهودي؟

فقال: نعم. فقلت: من ذلك الماء الّذي يشرب منه!؟ قال: نعم» «2».

و هذه من قوة الدلالة على الطهارة بمكان لا يقل عن التنصيص.

______________________________
(1) وسائل الشيعة: الباب 54 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث: 5. و هي ضعيفة باشتمالها على القاسم بن محمد، المردد بين الثقة و غير الثقة. و على عبد الرحمن بن حمزة، و زكريا بن إبراهيم المجهولين.

(2) وسائل الشيعة ج 1 ص 229 الباب 3 من أبواب الأسئار، الحديث: 3.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 100‌

..........

______________________________
و منها: ما ورد في ذيل صحيحة علي بن جعفر المتقدمة
«1» حينما سأل أخاه عليه السّلام عن اليهودي و النصرانيّ يدخل يده في الماء، من قوله عليه السّلام: «لا، إلّا أن يضطر إليه». فإن حمل الاضطرار على التقية كما عن الشيخ «قده» بعيد، لا موجب له، بل المراد عدم وجدان ماء غيره، و بذلك تكون الرواية دالة على طهارة أهل الكتاب، و إلّا فلا فرق بين صورة الانحصار و عدمه في التنجس بالملاقاة، على تقدير النجاسة.

و منها: موثقة الكاهلي المتقدمة «2».

هذه عمدة ما وقفنا عليه من الأخبار الدالة على طهارة الكتابي.

و لعلك تطلّع على أكثر منها عند التتبع، و قد عرفت: أن دلالة جلها- لو لا الكل- كالصريح في الطهارة، و لا تعتريها شائبة إشكال من ناحية الدلالة. و المناقشة فيها بحملها على محامل بعيدة مردودة بظهورها. أو صراحتها في المطلوب. كما أن أكثرها معتبرة سندا، لما فيها من الصحاح، و الموثقات، بحيث يقطع بصدور بعضها عن المعصوم عليه السّلام و عليه تستقر المعارضة بينها و بين أخبار النجاسة، و لا بد من علاجها على النحو المقرر في سائر الأخبار المتعارضة.

الجمع بين الاخبار.

فنقول: إن مقتضى القاعدة المتبعة في أبواب الفقه هو الجمع العرفي بين الطائفتين، و مقتضاه تقديم أخبار الطهارة، كما ذكراه صاحبا المدارك و الذّخيرة، و معه لا تصل النوبة إلى إعمال قواعد الترجيح السندي. و حيث‌

______________________________
(1) في الصفحة 93.

(2) في الصفحة 91.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 101‌

..........

______________________________
أن أخبار الطهارة كالصريح في طهارة أهل الكتاب، و لا أقل من أظهريّتها من أخبار النجاسة فتقدم عليها، فيحمل الأمر بالغسل الوارد في أخبار النجاسة- كما في صحيحة عليّ بن جعفر المتقدمة
«1»، المتضمنة لقوله عليه السّلام: «فيغسله ثمّ يغتسل»- على الاستحباب. و النهي عن سئورهم كما في موثقة سعيد الأعرج أو حسنته المتقدمة «2» على الكراهة، جمعا بين الطائفتين.

إلا أن الأصحاب- رضوان اللّه تعالى عليهم- لم يرتضوا ذلك في خصوص المقام، فقدموا أخبار النجاسة، و حملوا أخبار الطهارة على التقية لأنها موافقة للعامة- كما عرفت- حتّى أن صاحب الحدائق «قده» «3» شدّد النكير على صاحبي المدارك و الذّخيرة، و حمل عليهما حملة قارصة، و أظهر التعجب مما تفردا به في كيفية الجمع، و مخالفة المشهور في المقام. و ذكر «قده» في وجه تقديم أخبار النجاسة، و حمل أخبار الطهارة على التقية ما عمدته أمران:

الأول: موافقة أخبار النجاسة للكتاب، و هو قوله تعالى «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» «4». و قد نطقت الأخبار «5» العلاجية بعرض الخبرين المتعارضين على كتاب اللّه تعالى، و الأخذ بما وافق الكتاب، و طرح ما خالف.

و يدفعه: ما ذكرناه فيما تقدم «6»، من عدم دلالة الآية الشريفة‌

______________________________
(1) في الصفحة: 93.

(2) في الصفحة: 89.

(3) ج 5 ص 172- 173.

(4) التوبة 9: 28.

(5) وسائل الشيعة: الباب 9 من أبواب صفات القاضي.

(6) في الصفحة 88- 87.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 102‌

..........

______________________________
على نجاسة المشركين- فضلا عن أهل الكتاب- لعدم معلومية إرادة النجاسة الشرعيّة منها، و إنما حكمنا بنجاسة المشرك من جهة قيام الإجماع و الضرورة. و على تقدير التسليم فأهل الكتاب ليسوا بمشركين.

الثاني: مخالفتها للعامة، و موافقة أخبار الطهارة لمذهبهم بلا خلاف و لا إشكال، كما صرح به جملة من الأصحاب، حتّى أن المرتضى- كما قدمنا ذكره- جعل القول بالنجاسة هنا من متفرّدات الإمامية، و لا بد من الأخذ بما يخالف العامة، لأن الرشد في خلافهم، كما في الأخبار العلاجية.

حتّى أن صاحب الحدائق «1» قال في وجه لزوم الأخذ بهذا المرجح- ردّا على ما ذهب إليه صاحبا المدارك و الذخيرة من حمل أخبار النجاسة على الكراهة و استحباب التنزّه- ما لفظه:

«أنه اجتهاد محض في مقابلة النصوص، و جرأة تامة على أهل الخصوص، لما عرفت من أنهم عليه السّلام قد قرّروا قواعد لاختلاف الأخبار، و مهّدوا ضوابط في هذا المضمار، و من جملتها العرض على مذهب العامة، و الأخذ بخلافه، و العامة هنا- كما عرفت «2»- متّفقون على القول بالطهارة، أو هو مذهب المعظم منهم، بحيث لا يعتد بخلاف غيرهم، و الأخبار المذكورة مختلفة باعترافهم. فعدولهم عما مهّده أئمتهم إلى ما أحدثوه بعقولهم، و اتخذوه قاعدة كلية في جميع أبواب الفقه بآرائهم، من غير دليل عليه من سنة، و لا كتاب جرأة واضحة لذوي الألباب. و ليت شعري لمن وضع الأئمة عليهم السّلام هذه القواعد المستفيضة في غير خبر من أخبارهم، إذ كانوا في جميع أبواب الفقه إنما عكفوا في الجمع بين الأخبار في مقام الاختلاف على هذه القاعدة، و‌

______________________________
(1) ج 5 ص 173. طبعة النجف الأشرف.

(2) تقدم في الصفحة 86.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 103‌

..........

______________________________
ألغوا العرض على الكتاب العزيز، و العرض على مذهب العامة كما عرفت هنا؟! و هل وضعت لغير هذه الشريعة؟! و أن المخاطب بها غير العلماء الشيعة؟ ما هذا إلا عجب عجاب من هؤلاء الفضلاء الأطياب!».

أقول: لا يخفى أنه لا بحث في أصل الكبرى، أعنى الرجوع إلى المرجّحات السندية عند التعارض، و لم يخالف صاحبا المدارك و الذخيرة القوم في هذه القاعدة، و إنما الكلام في الصغرى، و أنه هل هناك تعارض بين أخبار النجاسة و نصوص الطهارة أم لا. و الحق هو الثاني، لأن المعارضة بينهما إنما هي من تعارض النص و الظاهر، و لا بد من حمل الظاهر على النص، كما هو النهج الساري في جميع أبواب الفقه، و قد عرفت أن أخبار الطهارة كالنص في استحباب التنزّه و كراهة المخالطة مع أهل الكتاب، فلا يعارضها أخبار النجاسة الّتي غايتها ظهور النهي في التحريم، أو الأمر في الوجوب. و من المعلوم أنه مع الجمع الدلالي العرفي، و كون أحدهما قرينة على التصرف في الأخر، بحيث يرتفع التنافي بينهما عرفا، لا موضوع للمعارضة و لا مورد لها. كما هو الحال في المتعارضين بالعموم و الخصوص، أو الإطلاق و التقييد. و على هذا جرت سيرة الأصحاب قديما و حديثا، و منهم صاحب الحدائق «قده» نفسه في كافة أبواب الفقه، و إلّا لانسد باب الاستنباط. فإذا دل دليل على وجوب شي‌ء، و دلّ آخر على إباحته، لا بد من حمل الأمر على الاستحباب، و النهي على الكراهة، لصراحة الثاني في جواز الترك، و ظهور الأول في عدمه.

و لا يكاد ينقضي عجبي من صاحب الحدائق «قده»، فإنه مع تضلّعه في الأخبار، و تبحره في الروايات، و تسلّطه على كيفية الجمع بينها الّتي هي أساس الفقه، كيف ذهل عنه في المقام؟! و كيف شنّع على العلمين صاحبي‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 104‌

..........

______________________________
المدارك و الذّخيرة، شدّد الاعتراض عليهما بما لا يليق به و لا بهما؟! لكن الاشتباه من الأساطين ليس بعزيز، و إنما العصمة لأهلها.

على أنه لا يسعنا حمل أخبار الطهارة على التقيّة، لأن التقيّة إما أن تكون في القول- بمعنى أن الإمام عليه السّلام يتقي في مقام بيان الحكم- و إما أن تكون في مقام العمل- بمعنى أن الإمام عليه السّلام يتقي في مقام بيان الحكم- و إما أن تكون في مقام العمل- بمعنى أنه عليه السّلام يقصد أن يعمل السائلون على ما يوافق مذهب العامة، لئلا يصيبهم منهم سوء- و كلاهما بعيد غايته.

أما الأوّل فلأنه من البعيد جدا أن يكون عندهم عليهم السّلام في جميع موارد صدور هذه الأخبار- على كثرتها- من يتقون لأجله، و يخافون منه في حكمهم بنجاسة أهل الكتاب.

و أما الثاني فلأن ما تتضمنه تلك الأخبار لو كان مجرد حكم تكليفي محض لكان الأمر هيّنا، لإمكان القول بأنّ وجوب الاجتناب عند الاضطرار من جهة الابتلاء بالعامة حرجي يرتفع بالتقية، لكن الأمر ليس كذلك، لوجود آثار وضعيّة للنجاسة، لاستلزام نجاسة الكتابي تنجس من خالطه المستلزم لبطلان الوضوء و الغسل، المستلزم لبطلان الصلاة و الصوم، بل و سائر العبادات المتوقفة على الطهور، فمن المستبعد جدا أن يأمر الإمام عليه السّلام بمخالطتهم و مساورتهم من غير أن يبيّن لهم نجاستهم كي يتحفظوا عنها في طهورهم و صلاتهم، و لو بالتيمم بدلا من الوضوء و الغسل. مع أن العادة قاضية بقدرتهم على التيمم غالبا في بيوتهم من غير أن يترتب عليه مفسدة.

فالإنصاف انه لا يمكن الخدشة في أخبار الطهارة لا سندا، و لا دلالة، و لا جهة، و طرحها مخالف لموازين الفقاهة. فالّذي تقتضيه القاعدة المتبعة هو ما ذكره صاحبا المدارك و الذخيرة، من الجمع الدلالي العرفي بين الطائفتين،

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 105‌

..........

______________________________
و حمل أخبار النجاسة على التنزه و الاستحباب.

و يؤيد ذلك بل يدل عليه- إمعان النظر في أخبار الباب في كيفية الأسئلة فإنها أصدق شاهد على مغروسية طهارة أهل الكتاب في أذهان الرواة، و خلو أذهانهم عن نجاستهم، و هم من عظماء الشيعة، و حملة الأحاديث، و قد أقرّهم الإمام عليه السّلام على ذلك، و الّذي أوقعهم في السؤال عن مخالطتهم إنما هو عدم اجتنابهم عن النجاسات- كالميتة، و لحم الخنزير، و الخمر، و البول، و المني- فيكونوا بسبب ذلك في معرض النجاسة العرضيّة. و إليك نبذ منها و إن تقدم بعضها.

فمنها: صحيحتا إبراهيم بن أبي محمود المتقدمتان «1» المشتملتان على قول السائل: «و أنت تعلم أنها نصرانيّة، لا تتوضأ، و لا تغتسل من جنابة»، و قوله في الأخرى: «و أنت تعلم أنه يبول و لا يتوضأ».

إذ من الواضح أنه لو كان الكتابي نجسا ذاتا لم يكن حاجة في السؤال عن استخدامه إلى إضافة فرض تنجسه بالمني أو البول، و عدم غسله منهما، فلا حاجة إلى إضافة الجملتين في السؤال، بعد كفاية النجاسة الذاتيّة في السؤال عن حكم المخالطة معه.

و منها: صحيحة معاوية بن عمار قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الثياب السابريّة يعملها المجوس، و هم أخباث (إجناب)، و هم يشربون الخمر، و نساؤهم على تلك الحال، ألبسها، و لا أغسلها، و أصلّي فيها؟ قال:

نعم. قال معاوية: فقطعت له قميصا، و خططته، و فتلت له أزرارا و رداء من السّابريّ، ثمَّ بعثت بها إليه في يوم جمعة حين ارتفع النهار، فكأنه عرف ما‌

______________________________
(1) في الصفحة: 98- 97.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 106‌

..........

______________________________
أريد، فخرج بها إلى الجمعة»
«1».

فإنّ فرض تنجسهم بالجنابة أو الخمر يكون لغوا مع النجاسة الذاتيّة، فيكون ذلك دليلا على ارتكاز طهارتهم الذاتيّة، و إنما وقع السؤال عن النجاسة العرضيّة. نعم في بعض النسخ: «و هم أخباث» بدل «إجناب».

و لكن الظاهر أن الصحيح هو الثاني، بقرينة ذكر شرب الخمر الّذي هو أيضا نجاسة عرضيّة.

و منها: صحيحة عبد اللّه بن سنان قال: «سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر أني أعير الذّمي ثوبي، و أنا أعلم أنه يشرب الخمر، و يأكل لحم الخنزير، فيردّه على، فاغسله قبل أن أصلّي فيه؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

صلّ فيه، و لا تغسله من أجل ذلك، فإنك أعرته إياه و هو طاهر، و لم تستيقن أنه نجّسه، فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنه نجّسه» «2».

و هي كسابقتها في الدلالة على ارتكاز الطهارة، و أنّ منشأ السؤال هو احتمال النجاسة العرضيّة، و إلا لكان الأنسب في السؤال فرض احتمال إصابة عرق بدنه، أو يده مع الرطوبة للثوب.

و منها: ما في الاحتجاج عن محمّد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري:

«أنه كتب إلى صاحب الزمان عليه السّلام: عندنا حاكة مجوس يأكلون الميتة، و لا يغتسلون من الجنابة، و ينسجون لنا ثيابا، فهل تجوز الصلاة فيها من قبل أن تغسل؟ فكتب إليه في الجواب: لا بأس بالصلاة فيها» «3».

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 518 الباب 73 من أبواب النجاسات، الحديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج 3 ص 521 الباب 74 من أبواب النجاسات، الحديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج 3 ص 520 الباب 73 من أبواب النجاسات، الحديث: 9. و قد رواها في الاحتجاج ج 2 ص 304 طبعة نجف الأشرف عام 1386 مرسلا عن الحميري. و لكن في كتاب الغيبة للشيخ «قده» ص 228 طبعة النجف عام 1385: أنه أخبرنا جماعة عن أبى الحسن محمد بن أحمد بن داود القمي، أنه وجد بخط أحمد بن إبراهيم النوبختي، و إملاء أبي القاسم الحسين بن روح توقيعا من جملته الجواب على هذا السؤال الذي ذكر نصه في ص 233 من نفس الكتاب. و أبو الحسن ثقة، فإن حصل الاطمئنان بوثاقة، بعض تلك الجماعة- كما هو غير بعيد- فالرواية صحيحة، و الا فلا.

و قد ذكر أيضا في الوسائل ج 20 ص 31 طبعة الإسلامية طريق الشيخ «قده» في كتاب الغيبة إلى الحميري. و هو ما ذكرناه آنفا فالرواية المذكورة عن طريق الشيخ مسندة لا بأس بسندها.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 107‌

..........

______________________________
و منها: ما عن أبي جميلة عن أبا عبد اللّه عليه السّلام: «أنه سأله عن ثوب المجوسي، ألبسه، و أصلي فيه؟ قال: نعم. قلت: يشربون الخمر. قال: نعم نحن نشتري الثياب السّابريّة، فنلبسها، و لا نغسلها»
«1».

إلى غير ذلك من الأخبار الظاهرة في مغروسية الطهارة في أذهان أجلة الرواة و إلّا كان التقييد بالنجاسة العرضيّة لغوا محضا، فيستفاد من مثل هذا السؤال أن احتمال النجاسة الذاتية لأهل الكتاب لم يكن قد طرق بعد أذهان السائلين إلى زمان الغيبة الصغرى، و إنّما حدثت شهرة القول بالنجاسة في الأزمنة المتأخرة عن المعصومين عليهم السّلام، حتّى شاع و ذاع بين العوام، و صار مغروسا في أذهانهم من جهة اتّباع فتوى العلماء الأعلام، و مراجع التقليد بذلك، فلو تم في المقام دعوى سيرة المتشرعة على لزوم الاجتناب عنهم من جهة نجاستهم الذاتيّة فهو إلا انها منقطعة الأول لا يمكن إثبات اتصالها بزمان المعصوم، فالقول بالنجاسة في غاية الإشكال. لكن القول بالطهارة أشكل، لمخالفته لفتوى المشهور قديما و حديثا و انه يوحشنا الانفراد عنهم، فالأخذ بالاحتياط لزوما هو طريق النجاة. و اللّه العالم.

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 520 في الباب المتقدم، الحديث: 7.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 108‌

حتى المرتد بقسميه (1)، و اليهود، و النصارى، و المجوس (2).

و كذا رطوباته و اجزاؤه، سواء كانت مما تحله الحياة أولا (3).

______________________________
(1) لا ينبغي الإشكال في أن المرتدّ إذا دخل بارتداده في أحد العناوين المتقدمة، بأن صار يهوديا أو نصرانيّا، أو مجوسيا يلحقه حكمه، لتبعيّة الحكم لموضوعه، سواء أ كان مرتدا فطريّا أم مليّا. و أما إذا ارتد عن الإسلام إلى سائر الأديان و انتحل بعض وجوه الكفر و الضلال غير ما ذكر من العناوين الثلاثة فللتأمل في نجاسته مجال، لأن الأدلة اللفظية لا تشمل غير العناوين الثلاثة المزبورة، لاختصاصها بها، فلا إطلاق لها بالنسبة إلى غيرها. و أما الإجماع المنقول، و الشهرة المحقّقة فالمتيقن منهما غير المرتد، لانصرافهما عنه. فان تم الإجماع و ثبت التسالم على العموم فلا كلام، و إلّا فالحكم بالنجاسة مشكل.

(2) تقدم الكلام في أهل الكتاب.

(3) قال في الحدائق «1»: «الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في عموم النجاسة من الكافر لما تحله الحياة منه، و ما لا تحله الحياة.».

أقول: لو كان موضوع الأدلة نجاسة العناوين التالية، كاليهودي، و النصراني لزم الحكم بنجاسة جميع اجزائه حتّى ما لا تحله الحياة منها، كالعظم، و الشعر، و نحوهما، لصدق العنوان على المجموع، فيشمله الإطلاق بجميع اجزائه. نعم مقتضى ما ذكره السيد «قده» «2» من استثناء ما لا تحله الحياة من نجس العين- كالكلب، و الخنزير- هو استثناءها من الكافر أيضا. إلا أنه قد عرفت «3» أن دليل استثناءها إنما يختص بالميتة، بمعنى أن الموت لا‌

______________________________
(1) ج 5 ص 174. طبعة النجف الأشرف.

(2) الحدائق ج 5 ص 174. طبعة النجف الأشرف.

(3) في الصفحة 73.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 109‌

و المراد بالكافر من كان مكرا للالوهية، أو التوحيد، أو الرسالة (1).

______________________________
يؤثر في نجاسة ما لا حياة فيه، لا أن كلّ حيوان نجس العين- كالكلب، و الكافر- يستثني منه تلك الأجزاء. فلا وجه للاستثناء في شي‌ء من الحيوانات النجسة.

هذا لو كان المحكوم بالنجاسة في لسان الدليل العناوين المذكورة. و أما إذا كان الممنوع منه هو مصافحة الكافر، أو مؤاكلته و مساورته كما هو مورد الأسئلة في الروايات فيشكل الحكم بنجاسة ما لا تحله الحياة منه، لأن المتيقن من الأدلّة- حينئذ- نجاسته في الجملة، لعدم الملازمة بين نجاسة سؤره و نجاسة نفسه إلّا بهذا المقدار، أي بالمقدار الّذي يباشره الأكل. فمثل شعر الكافر لا يمكن إثبات نجاسته بذلك، فالحكم بطهارته لا يخلو من قوّة و لا استبعاد في ذلك بعد ثبوت نظيره في الشرع في الميتة، فدعوى: أن التفكيك في النجاسة الذاتيّة بين أجزاء الإنسان خلاف المرتكز العرفي غير مسموعة. كما أن الاكتفاء في العموم بإطلاق معاقد الإجماع غير صحيح، لعدم ثبوت إجماع تعبدي، إذ ليس في المقام إلّا المنقول منه، و هو ليس بحجة. نعم الشهرة الفتوائية على الإطلاق مما يمنعنا عن الإفتاء صريحا بطهارة ما لا تحله الحياة من الكافر، فحكمه حكم الكلب و الخنزير، لا الميتة، على الأحوط.

(1) ما يتحقق به الكفر يعتبر في حقيقة الإسلام الإيمان بأمور أربعة على وجه الموضوعية، بمعنى ان المنكر لها أو لبعضها يكون كافرا محكوما عليه بالنجاسة، و لو كان إنكاره هذا عن قصور، و غير معاقب عليه، فإنه مع ذلك يحكم عليه بالكفر، و يجري في حقه أحكامه من حيث النجاسة، و عدم الإرث، و عدم وجوب التجهيز، و حرمة النكاح، و لو كان من المستضعفين، و هي‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 110‌

..........

______________________________
كالآتي.

الأول: الإقرار بوجود صانع لهذا العالم، فالملحد المنكر لوجود الخالق في أعلى مراتب الكفر. و قد دل على ذلك الروايات «1» و الآيات، الّتي منها: قوله تعالى «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ.»* «2».

الثاني: الإقرار بوحدانيّته تعالى، و أنه لا شريك له، فالمشرك كافر، كما في كثير من الأخبار «3» و الآيات الّتي منها: قوله تعالى «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ.» «4».

الثالث: الإقرار بالرسالة. و هو أيضا مدلول جملة وافية من الأخبار، و الآيات منها: قوله تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّٰا نَزَّلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَدٰاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النّٰارَ الَّتِي وَقُودُهَا النّٰاسُ وَ الْحِجٰارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكٰافِرِينَ «5».

الرابع: الإقرار بالمعاد. و قد أهمل ذكره الأعلام في عداد الأمور المعتبرة في الإسلام، و لم يتضح لنا وجهه مع صراحة الآيات الكريمة في اعتباره في الإيمان كيف و قد قرن الإيمان به بالإيمان باللّه سبحانه في غير واحد من الموارد؟! منها: قوله تعالى إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ* «6»، و قوله تعالى إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ «7» و قوله‌

______________________________
(1) أصول الكافي في أبواب الايمان و الكفر ج 2 ص 25. الطبعة الثانية عام 1381 ه‍ مكتبة الصدوق. و الوافي ج 1 ص 18- 26. م 3.

(2) النور 24: 62.

(3) أصول الكافي في أبواب الايمان و الكفر ج 2 ص 25. الطبعة الثانية عام 1381 ه‍ مكتبة الصدوق. و الوافي ج 1 ص 18- 26. م 3.

(4) التوبة 9: 28.

(5) البقرة: 2: 23 و 24.

(6) النساء: 4: 59.

(7) البقرة: 2: 228.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 111‌

أو ضروريا من ضروريات الدين، مع الالتفات الى كونه ضروريا (1)، بحيث يرجع إنكاره إلى إنكار الرسالة: و الأحوط الاجتناب عن منكر الضروري مطلقا، و ان لم يكن ملتفتا الى كونه ضروريا.

______________________________
تعالى
مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ* «1»، إلى غير ذلك من الآيات. فالمعاد يكون في عداد الأمور الأخر معتبرة في الإسلام على وجه الموضوعيّة. و هل هناك أمر آخر يعتبر في حقيقة الإسلام على هذا الوجه بحيث يكون منكره كافرا و لو كان عن قصور أم لا؟ فيه خلاف يأتي بعيد هذا في البحث عن منكر الضروري.

(1) منكر الضروري هل يحكم بكفر منكر الضروري مطلقا؟ أو فيما إذا التفت إلى كونه ضروريا، بحيث يرجع إنكاره إلى إنكار الرسالة؟ و على الأول يكون سببا مستقلا للكفر على وجه الموضوعيّة، و على الثاني يكون طريقا لإنكار الرسالة، و يتحقق الكفر بإنكارها لا بإنكاره أو يفصّل بين الجاهل المقصّر فيحكم بكفره مطلقا، و القاصر فلا يكون كافرا؟ كما عن شيخنا الأنصاري «قده»، فإنه بنى على كفر المقصّر إذا أنكر بعض الأحكام الضروريّة، عملا بإطلاق النصوص و الفتاوي في كفر منكر الضروري، و على عدم كفر القاصر، لعدم الدليل على سببيّته للكفر، مع فرض عدم التكليف بالتدين بذلك الحكم، و لا بالعمل بمقتضاه، كما هو المفروض، و يبعد أن لا يحرم على الشخص شرب الخمر، و يكفر بترك التديّن بحرمته.

و المشهور هو الأوّل، كما في مفتاح الكرامة. لكن التحقيق هو الثاني، لعدم ثبوت دليل تعبدي على كفر منكر الضروري مطلقا. نعم لو كان مرجعه‌

______________________________
(1) البقرة: 2: 177.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 112‌

..........

______________________________
إلى إنكار الرسالة أوجب الكفر، و لا يكون ذلك إلا مع العلم و الالتفات إلى كونه ضروريا، كما أن لازمه كفر منكر الحكم المعلوم مطلقا، و لو لم يكن ضروريّا.

و عمدة ما يستدل به المشهور هي الأخبار، و هي على طوائف ثلاثة، لا دلالة لشي‌ء منها على المطلوب.

الأولى: ما دلت على أن إنكار مطلق الشي‌ء- و لو كان أمرا تكوينيا- موجب للكفر إذا دان به.

كصحيحة بريد العجلي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن أدنى ما يكون العبد به مشركا. فقال: من قال للنواة أنها حصاة، و للحصاة هي نواة، ثم دان به» «1».

و لا يخفى أنه لا يمكن العمل بإطلاقها في الأحكام الشرعية- فضلا عن الأمور التكوينية- إذ مقتضاه الحكم بكفر من التزم بحليّة ما كان حراما واقعا، و إن لم تكن حرمته ضرورية، أو معلومة، لصدق أنه تديّن بغير الواقع، نعم غاية ما هناك أنه تشريع محرّم، لا أنه موجب للكفر. فإذا لا بد من حمل مثل هذه الطائفة من الروايات على التوسعة في معنى الشرك، و أنه ذو مراتب أدناها أن يقول للحصاة أنها نواة، أو بالعكس، كما ورد «2» ذلك في المرائي، فان الرياء لا يوجب الشرك بمعناه الخاص الّذي هو موضوع لأحكام خاصة. نعم إنها تنافي الإخلاص في العبادة، فتكون مرتبة من مراتب الشرك موجبة للبعد من اللّه تعالى، و بطلان العبادة، و نحو ذلك من‌

______________________________
(1) الوافي ج 1 ص 42 م 3. و قال في بيانه: يعنى اعتقد بقلبه، و جعله دينا. و الوجه في كونه شركا: انه يرجع الى متابعة الهوى، أو تقليد من يهوى، فصاحبه و ان عبد اللّه و أطاعه فقد أطاع هواه أو من يهواه مع اللّه، و أشركه معه.

(2) وسائل الشيعة ج 1 ص 64 و 70 الباب: 11 و 12 من أبواب مقدمة العبادات.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 113‌

..........

______________________________
الآثار. فموضوع الأحكام الخاصة- كالنجاسة، و نحوها- إنما هو الشرك بمعناه الخاص، و هو إنكار الألوهية. و أما الشرك بمعناه العام- فهو أعم من الكفر، لصدقه على المرائي، و من تديّن بخلاف الواقع، و لو في الأمور التكوينية، و منكر الضروري من غير علم به يكون من مصاديقه بمعناه العام، لا الخاص.

الطائفة الثانية: ما دلت على أن جحد الفرائض، أو مطلق الحكم الشرعي يكون موجبا للكفر، ك؟:

رواية أبي الصباح الكناني عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قيل لأمير المؤمنين عليه السّلام من شهد أن لا إله إلّا اللّه و أن محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان مؤمنا؟ قال: فأين فرائض اللّه. إلى أن قال- ثمّ قال: فما بال من جحد الفرائض كان كافرا» «1».

و مكاتبة عبد الرحيم القصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام- في حديث- قال: «الإسلام قبل الإيمان، و هو يشارك الإيمان، فإذا أتى العبد بكبيرة من كبائر المعاصي، أو صغيرة من صغائر المعاصي الّتي نهى اللّه عنها كان خارجا من الإيمان، و ثابتا عليه اسم الإسلام، فإن تاب و استغفر عاد إلى الإيمان، و لم يخرجه إلى الكفر، و الجحود، و الاستحلال. و إذا قال للحلال هذا حرام، و للحرام هذا حلال، و دان بذلك، فعندها يكون خارجا من الإيمان و الإسلام إلى الكفر» «2».

و يردها: أن ظاهرها هو الإنكار مع العلم، لظهور لفظ الجحد في‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 1 ص 34 الباب 2 من أبواب مقدمة العبادات الحديث: 13.

ضعيفة بمحمد بن الفضيل، المشترك بين الثقة و الضعيف، و لم يحصل التمييز.

(2) وسائل الشيعة ج 1 ص 37 الباب 2 من أبواب مقدمة العبادات. الحديث: 18 و في الباب 10 من أبواب حد المرتد. و هي ضعيفة بعبد الرحيم القصير لانه لم يوثق.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 114‌

..........

______________________________
ذلك، كما في قوله تعالى
وَ جَحَدُوا بِهٰا وَ اسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ. «1». فلا دلالة لها على أن مجرد إنكار الضروري موجب للكفر من حيث هو و إن لم يعلم بكونه ضروريا بل تدل على أن إنكار الحكم المعلوم مطلقا يوجب الكفر، و ليس ذلك إلّا من جهة استلزامه تكذيب النبي صلّى اللّه عليه و آله. بل التعبير بالفرائض في الرواية الأولى- المراد بها الضروريات- لا يخلو من الدلالة على كونها معلومة، لعدم خفاء وجوبها على المسلمين.

الطائفة الثالثة: ما دلّت على كفر مرتكب الكبيرة بزعم أنها حلال، ك‍:

صحيح عبد اللّه بن سنان قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يرتكب الكبيرة، فيموت، هل يخرجه ذلك من الإسلام، و ان عذب كان عذابه كعذاب المشركين، أم له مدّة و انقطاع؟ فقال: من ارتكب كبيرة من الكبائر، فزعم أنها حلال أخرجه ذلك من الإسلام، و عذّب أشدّ العذاب، و إن كان معترفا أنه ذنب، و مات عليها أخرجه من الإيمان، و لم يخرجه من الإسلام، و كان عذابه به أهون من عذاب الأول» «2». و نحوها غيرها «3».

و هذه هي العمدة في المقام، و مقتضى إطلاقها الحكم بكفر منكر الضروري من حيث هو، و به يتم الاستدلال على المطلوب. و لكنه يشمل يشمل العالم، و الجاهل، مقصّرا كان أو قاصرا، لصدق ارتكاب الحرام بزعم أنه حلال في جميع ذلك.

______________________________
(1) النمل 27: 14.

(2) وسائل الشيعة ج 1 ص 33 الباب 2 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث: 10.

(3) كرواية مسعدة بن صدقة في نفس الباب، الحديث: 11.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 115‌

..........

______________________________
و من هنا ربما يورد على الاستدلال بها- كما يلوح من كلام المحقق الهمداني و غيره- بعدم إمكان العمل بإطلاقها لشمولها للضروري و غيره حتّى في الجاهل القاصر، كجديد العهد بالإسلام، و المفتين المخطئين، و مقلديهم فإنهم قد يفتون خطأ بحليّة ما هو حرام واقعا- أو بالعكس- لعدم قيام دليل عندهم على الواقع. فإذا لا بد من تقييدها إما بالضروري، أو بالعلم، حتّى يرجع إلى إنكار الرسالة، و حيث أنه لا مرجح لأحد التقييدين على الأخر- إذ ليس الأول بأولى من الثاني، لو لا أولوية العكس، بقرينة ما اشتمل منها في الطائفة الثانية على التعبير بالجحود المختص بالعلم- تصبح الرواية مجملة لا يمكن العمل بإطلاقها.

و يمكن دفعه: بان مقتضى القاعدة هو الأخذ بالإطلاق، إلّا فيما قام الدليل على خلافه، و الصحيحة- بإطلاقها- تشمل جميع الأقسام العالم بالحكم الضروري و غيره و الجاهل به، قصورا أو تقصيرا، و يخرج منه بالإجماع الجاهل القاصر، كالمجتهد المخطئ، و مقلده، و نحوهما و يبقى الباقي تحت الإطلاق، و منه منكر الضروري.

هذا، و لكن يرد على الاستدلال بها إشكال آخر، و هو منافاتها لما دل من الروايات صريحا على كفاية الشهادتين في الحكم بالإسلام ظاهرا، من دون زيادة عليهما بشي‌ء، فإنها قد صرحت بترتب أحكام الإسلام، من حقن الدماء، و حرمة المال، و جواز المناكحة بمجرد ذلك، مثل:

موثق سماعة المروي في الكافي قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

أخبرني عن الإسلام و الإيمان، أ هما مختلفان؟ فقال: إن الايمان يشارك يشارك الإسلام، و الإسلام لا يشارك الإيمان. فقلت: فصفهما لي، فقال الإسلام: شهادة أن لا إله إلّا اللّه، و التصديق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 116‌

..........

______________________________
به حقنت الدماء، و حرمت المناكح، و المواريث، و على ظاهره جماعة الناس.

و الإيمان: الهدى، و ما يثبت في القلوب من صفة الإسلام.» «1».

و نحوها رواية حمران بن أعين «2» و غيرها «3».

فإذا لا بد من حمل مثل صحيحة بن سنان من الروايات الدالّة على كفر المعترف بالتوحيد و الرسالة إذا أخل بغيرهما من أحكام الإسلام كما إذا ارتكب الكبيرة «4» أو كان منكرا للولاية «5» أو تاركا للصلاة «6» أو الزكاة «7» أو الحج «8» أو الصوم «9» أو كان مرتكبا للزّنا أو الكذب «10» بل مطلق المعاصي كما ورد ذلك في تفسير قوله تعالى إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً «11» على بعض المراتب الضعيفة من الكفر مما لا يتنافى حقيقة‌

______________________________
(1) أصول الكافي ج 2 ص 25. الطبعة الثانية عام 1381 ه‍. و الوافي ج 1 ص 18 م 3.

باب أن الايمان أخص من الإسلام.

(2) أصول الكافي ج 2 ص 26. و الوافي ج 1 ص 18 م 3.

(3) يراجع المصادر المتقدمة آنفا.

(4) وسائل الشيعة ج 15 ص 123 الباب 46 من أبواب الجهاد، كالحديث 18.

(5) وسائل الشيعة: الباب 10 من أبواب حد المرتد و فيه عدة روايات مصرحة بأن منكر الولاية يكون كافرا و لكن لا يتنافى ذلك ترتب آثار الإسلام الظاهري عليه كما ذكر في الشرح.

(6) وسائل الشيعة ج 4 ص 41 الباب: 11 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها.

(7) وسائل الشيعة ج 9 ص 32 الباب: 4 من أبواب ما يجب فيه الزكاة. كالحديث 3، 5، 7، 8، 9.

(8) وسائل الشيعة ج 11 ص 29 الباب: 7 من أبواب وجوب الحج.

(9) وسائل الشيعة ج 1 ص 13 الباب: 1 من أبواب مقدمة العبادات.

(10) الوافي ج 1 ص 26. و ص 170 م 3.

(11) الإنسان: 76: 3. و في صحيح حمران بن أعين قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوله عز و جل «إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ السَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً». قال: «اما آخذ فهو شاكر، و إما تارك فهو كافر» وسائل الشيعة: ج 1 الباب 2 من أبواب مقدمة العبادات. الحديث 5 و نحوها: الحديث: 6.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 117‌

..........

______________________________
الإسلام الّذي هو موضوع للآثار الشرعيّة. و لا بأس بأن نعبّر عن مثل هؤلاء الأشخاص بمسلمي الدّنيا و كافري الآخرة إذ من المعلوم أن منكر الولاية، أو تارك الصلاة و الزكاة، أو الزاني و الكاذب، أو مطلق العاصي لا يكون كافرا بمعناه الأخص، الّذي هو موضوع للآثار المعهودة من النجاسة، و غيرها. بل هو مقتضى الجمع بين الطائفتين من الروايات المذكورة.

و على الجملة: قد يراد من الكفر ما يقابل الإسلام، و هو الموضوع للآثار الشرعيّة، من النجاسة، و هدر الدماء و الأعراض و الأموال، و عدم جواز المناكحة و التوارث. و العبرة فيه: بإنكار ما يعتبر في حقيقة الإسلام، من الاعتراف بالشهادتين، و المعاد.

و قد يراد منه ما يقابل الإيمان، و هو محكوم بالطهارة، و سائر أحكام المسلمين، إلّا أنه يجرى مجرى الكفار في الآخرة، دون الدنيا.

و قد يراد منه ما يقابل المطيع، لإطلاقه على العاصي، كما ورد في تفسير الآية الشريفة و غيرها كما أشرنا. و إطلاق الكافر عليه أيضا يكون بلحاظ الآخرة و يكون تعذيبه عذاب الكفار، أو أهون منه.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه: أن موجب الكفر المصطلح إنما هو إنكار التوحيد، أو الرسالة، أو المعاد، أو ما يرجع إلى ذلك بإنكار حكم معلوم، سواء أ كان ضروريا أم لا، لأن إنكاره مع العلم تكذيب للنبي صلّى اللّه عليه و آله.

و أما مع الجهل فلا يوجبه، و إن كان الحكم ضروريا في نفسه إذا اعترف بما يعتبر في الإسلام، لعدم ثبوت دليل على ان إنكار الضروري سبب مستقل للكفر في نفسه، و إن كان الأحوط الاجتناب عنه.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 118‌

ولد الكافر يتبعه في النجاسة (1).

______________________________
(1)
ولد الكافر البحث في نجاسة ولد الكافر إنما هو بعد الفراغ عن نجاسة والديه.

نعم لا يتوقف ذلك على نجاسة أهل الكتاب، لكفاية نجاسة المشركين في فائدة هذا البحث.

ثم إن محلّ البحث في ولد الكافر إنما هو التبعيّة من حيث النجاسة دون سائر الأحكام، كالتبعيّة في جواز الاسترقاق، و التملك. إذ لا خلاف و لا إشكال ظاهرا في التبعيّة في الثاني، لقيام سيرة المسلمين على ذلك، فإنهم كانوا يأسرون الإباء مع أولادهم و يسترقّونهم جميعا من دون نكير في ذلك.

إلّا أنه لا ملازمة بين ثبوت التبعيّة فيه، و بين التبعيّة في النجاسة، فلا يصح الاستدلال بالسيرة المستمرة على التبعيّة في الأسر و التملك على التبعيّة في النجاسة، لإمكان التفكيك بينهما ثبوتا، و إثباتا.

كما أن محل الكلام إنما هو غير المميز العاقل، و أما هو فيستقل في الإسلام و الكفر، بإظهار ما هو المناط فيهما، من الإقرار بالشهادتين و المعاد، و إنكار ذلك. فإذا كان الولد عاقلا مميزا و أظهر الكفر فهو كافر بالاستقلال، لصدق أنه يهودي، أو نصرانيّ، أو مشرك حقيقة، و إن لم يكن مكلفا بالفروع، و معاقبا على تركها، إذ لا منافاة بينه و بين ثبوت النجاسة الّتي هي من الأحكام الوضعية له، كالنجاسة العرضيّة. و حديث: «رفع القلم.» «1» لو سلم شموله للمقام فإنما هو رافع للتكليف دون الوضع، فالبحث إنما يكون في الولد الصغير، رضيعا كان أو بعد الفطام، قبل كونه مميزا، بحيث لا اختيار له في الاعتقاد بشي‌ء.

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 1 ص 42 الباب 4 من أبواب مقدمة العبادات، كالحديث 11.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 119‌

..........

______________________________
و يستدل على نجاسته بوجوه:

الوجه الأول: أن التقابل بين الكفر و الإسلام تقابل العدم و الملكة، فعدم الإسلام يكفي في صدق الكفر.

و فيه أوّلا: أن الظاهر من الأخبار الّتي تقدم بعضها «1» أن الإسلام و الكفر إنما يكونان بالاعتراف و الإظهار في مقام الإثبات، فالكفر و إن كان أمرا عدميّا لأنه عبارة عن عدم الاعتقاد بالتوحيد و الرسالة و المعاد إلّا أنه عدم خاص و هو العدم المبرز، كما أن الإسلام هو الاعتقاد المبرز، فالإظهار و الإبراز معتبر في حقيقة الإسلام و الكفر.

و إن شئت فقل: إن التقابل بينهما تقابل الضدين، لاعتبار الإبراز الّذي هو أمر وجودي في كل منهما، فمن لم يبرز شيئا لم يحكم عليه بالإسلام و لا الكفر، و حيث أن ولد الكافر لم يظهر منه شي‌ء منهما فلا يمكن الحكم بكفره و لا إسلامه.

و ثانيا: أنه لو تم ذلك لكان في المحل القابل، و هو الطفل المميّز، و أما الرضيع. و نحوه فليس فيه ملكة الإسلام، و لا شأنية له لذلك، فهو كالحيوان.

الوجه الثاني: استصحاب نجاسة حال كونه دما أو علقة و هو في بطن أمّه.

و فيه أولا: منع ظاهر، من جهة عدم بقاء الموضوع، فإن الإنسان غير الدم و العلقة. ثانيا: أنه من الاستصحاب في الشبهات الحكميّة الّذي لا نقول به.

الوجه الثالث: الروايات الدالّة على تبعيّة أولاد الكفار لا بأيهم، ك‍:

صحيحة عبد اللّه بن سنان قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن‌

______________________________
(1) في الصفحة: 116. و يأتي في الصفحة: 123.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 120‌

..........

______________________________
أولاد المشركين يموتون قبل أن يبلغوا الحنث. قال: كفّار، و اللّه أعلم بما كانوا عاملين، يدخلون مداخل آبائهم»
«1».

و رواية وهب بن وهب عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليه السّلام قال:

«قال علي عليه السّلام: أولاد المشركين مع آبائهم في النار، و أولاد المسلمين مع آبائهم في الجنة» «2».

و مرسل الكافي «3»: «أما أطفال المؤمنين فإنّهم يلحقون بآبائهم، و أولاد المشركين يلحقون بآبائهم، و هو قول اللّه تعالى بِإِيمٰانٍ أَلْحَقْنٰا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ. «4».

و فيه أولا: أن هذه الروايات لا يمكن العمل بظاهرها، لأنها مخالفة لأصول العدليّة، فإنه سبحانه و تعالى أجلّ من أن يعذّب الأطفال الصغار من دون توجه تكليف إليهم في دار الدنيا. و مجرد علمه سبحانه و تعالى بما كانوا يعملون- لو بقوا أحياء- غير كاف في تعذيبهم، و إلّا لبطل إرسال الرسل، و إنزال الكتب، و بطل التكليف و الخلق، لعلمه تعالى أزلا بما يفعله العباد من الطاعة و العصيان، و إنما خلقهم و كلّفهم بالطاعة، ليهلك من هلك عن بينة، و يحيى من حيّ عن بيّنة، و لئلا يكون للناس على اللّه حجّة، بل للّه الحجة البالغة. فلا بد من تأويل مثل هذه الروايات، أورد علمها إلى أهلها.

بل في بعض الروايات «5»: أنه يؤجّج للأطفال نار يوم القيمة، و‌

______________________________
(1) الوافي ج 3، ص 100 م 13. و الحنث: الإثم و الذم، و بلغ الغلام الحنث: أى المعصية، و الطاعة.

(2) الوافي ج 3. ص 100 م 13. ضعيفة بوهب بن وهب.

(3) الوافي ج 3. ص 100 م 13. ضعيف بالإرسال.

(4) الطور 52: 21.

(5) كصحيحة زرارة عن أبى جعفر عليه السّلام قال: «إذا كان يوم القيمة احتج اللّه على سبعة، على الطفل، و الذي مات بين النبيين، و الشيخ الكبير الذي أدرك النبي و هو لا يعقل، و الأبله، و المجنون الذي لا يعقل، و الأصم، و الأبكم، كل واحد منهم يحتج على اللّه عز و جل. قال: فيبعث اللّه تعالى إليهم رسولا فيؤجج لهم نارا، فيقول ان ربكم يأمركم أن ثبوا فيها، فمن وثب فيها كانت عليه بردا و سلاما، و من عصى سيق الى النار» الوافي ج 3 ص 100 م 13.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 121‌

إلا إذا أسلم بعد البلوغ، أو قبله، مع فرض كونه عاقلا مميزا، و كان إسلامه عن بصيرة، على الأقوى (1).

______________________________
يؤمرون بدخولها، فمن كان منهم من أهل الطاعة، و الانقياد، و الإيمان في علم اللّه تعالى، بان كانت نفسه مفطورة على الخير- لو كان يبقى إلى البلوغ و الإدراك لأمن، و دخلها، و تكون عليه بردا و سلاما، و إن يكن الأخر يأبى و يهاب، فيمتنع من الدخول، فيؤمر به إلى النار.

و ثانيا: أنها خارجة عما نحن فيه، لأنها تتضمن بيان حكمهم في الآخرة، مما يرجع إلى مسألة الثواب و العقاب، و بحثنا إنّما يكون في نجاستهم في الدّنيا. و لا ملازمة بين الأمرين- كما هو ظاهر- إذ من الممكن أن يكونوا محكومين بالطهارة في الدنيا، و لكنهم في الآخرة يدخلون في النار، و الأحكام الفقهيّة إنما ترجع إلى عالم الدنيا، و للاخرة أحكام أخر.

الوجه الرابع: الإجماع كما حكى دعواه عن جماعة. و لكن تحصيل الإجماع المصطلح مشكل، و المنقول منه ليس بحجة. كما أن الشهرة المحقّقة، و قيام السيرة على التبعيّة في الأسر و الاسترقاق لا يلازم التبعيّة في النجاسة. و إن كان الأحوط الاجتناب، كما في أصل نجاسة أهل الكتاب، خروجا عن مخالفة المشهور، و الإجماع المنقول. هذا كله في الولد الملحق بأبويه، و لو بنكاح صحيح عندهم.

(1) لإطلاق ما دل «1» على كفاية الإقرار بالشهادتين في إسلام المقر‌

______________________________
(1) كموثقة سماعة المتقدمة في ص 116.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 122‌

..........

______________________________
بهما فإنه يشمل لما قبل البلوغ، إذا كان ذلك عن تعقل للمعنى المراد منهما، كما يشمل بعد البلوغ، فيحكم بطهارتهما بلا فرق بينهما. و عدم إلزام الصبي غير البالغ بالإسلام بمقتضى حديث
«1» رفع القلم لا ينافي صحته منه. و الإجماع على نجاسة ولد الكافر لو تم فإنما هو في غير المميز المعترف بالإسلام.

ما يثبت به الكفر أو الإسلام بقي الكلام فيمن يحكم بكفره أو إسلامه ظاهرا. فنقول هل العبرة في الحكم بالإسلام بمجرد الاعتقاد القلبي و إن لم يبرزه باللسان؟ أو بالإقرار بالشهادتين و إن لم يعلم مطابقته للاعتقاد، بل و إن علم الخلاف؟ أو المعتبر فيه كلا الأمرين معا؟ الصحيح هو التفصيل بين الإسلام التبعي و الاستقلالي، أي بين من ولد على الإسلام من أبوين مسلمين، أو من مسلم و كافر، و حكم بإسلامه تبعا لوالديه، أو أحدهما، و نشأ على ذلك، و بين من لم يكن كذلك، و لا بد من الحكم بإسلامه ابتداء و استقلالا، كالمتولد من كافرين.

أما الأول فلا يعتبر في إسلامه شي‌ء من الأمرين، فما لم يجحد، و لم يظهر الكفر يحكم بإسلامه. و يدل على ذلك السيرة المستمرة على معاملة الإسلام مع أولاد المسلمين من دون توقف على إلزامهم بالإقرار بالشهادتين عند البلوغ، بل يكتفى بمجرد نشوه من مسلمين، أو مسلم واحد، إلّا أن يظهر الكفر، و الجحود. هذا مضافا إلى شهادة جملة من الروايات بذلك:

منها: صحيحة محمّد بن مسلم قال: «كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام جالسا عن يساره، و زرارة عن يمينه، فدخل عليه أبو بصير، فقال: يا أبا‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 1 ص 45 الباب 4 من أبواب مقدمة العبادات، كالحديث: 11.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 123‌

..........

______________________________
عبد اللّه، ما تقول فيمن شك في اللّه؟ فقال: كافر، يا أبا محمّد. قال: فشك في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: كافر. ثمّ التفت إلى زرارة، فقال: إنما يكفر إذا جحد»
«1».

و منها: رواية زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا و لم يجحدوا لم يكفروا» «2».

إذا المراد بالعباد هم المعروفون بالإسلام بظاهر الحال إذا خطر في قلوبهم الشك، و عرضت لهم الشبهات الناشئة من جهالتهم، فهم لا يخرجون بذلك من زمرة المسلمين ما لم يجحدوا ذلك الشي‌ء الّذي شكّوا فيه. و ذلك بقرينة قوله: «لم يكفروا»، إذ لا معنى له بالإضافة إلى غير المسلمين، فالمسلم التبعي لا يعتبر في الحكم بإسلامه شي‌ء من الأمرين، و لو بعد البلوغ.

و أما الثاني- أي من كان كافرا و لو تبعا و أراد أن يسلم- فيكفي فيه مجرد الإقرار باللسان، و إن لم يكن عن اعتقاد قلبي. و يدل عليه:

أولا: السيرة النبويّة، فإنه صلّى اللّه عليه و آله كان يكتفى في الحروب و غيرها بمجرد الإقرار بالشهادتين، مع العلم بعدم اعتقاد أكثرهم- بل جميعهم- بهما، لقرب عهدهم بالإسلام. بل إن بعض المنافقين لم يؤمنوا باللّه طرفة عين، و مع ذلك كانوا يظهرون الشهادتين باللسان، و هو صلّى اللّه عليه و آله مع علمه بحالهم لم يحكم بكفرهم.

و ثانيا: الكتاب العزيز، حيث قال عز من قائل «وَ اللّٰهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ لَكٰاذِبُونَ» «3». مع أن النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يعامل معهم معاملة‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة: الباب 10 من أبواب حد المرتد، الحديث: 56.

(2) وسائل الشيعة ج 1 ص 32 الباب 2 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث: 8. ضعيفة بمحمّد بن سنان.

(3) المنافقون 63: 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 124‌

و لا فرق في نجاسته بين كونه من حلال، أو من الزنا، (1) و لو في مذهبه.

______________________________
الإسلام في الطهارة و سائر الأحكام. و قال تعالى
قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ آمَنّٰا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا وَ لَمّٰا يَدْخُلِ الْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ. «1». فان مفاده كفاية الإقرار باللسان في حقيقة الإسلام، و إن لم يكن كافيا في حقيقة الإيمان.

و ثالثا: الأخبار الدالّة على أن الإسلام ليس إلّا الشهادتين- كما تقدم في رواية الكافي عن سماعة «2» بل ورد ذلك في بعض روايات العامّة أيضا ففي صحيح البخاري «3» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «أمرت أن أ قاتل الناس حتّى يشهدوا أن لا إله إلّا اللّه، و أن محمّدا رسول اللّه، و يقيموا الصلاة، و يؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماء هم و أموالهم.»‌

فتحصل: أنه يكفى في الإسلام الإقرار باللسان، و إن لم يكن عن اعتقاد قلبي. إلّا أن مثله مسلم الدنيا يترتب عليه فيها أحكامه، من الطهارة، و حقن الدماء، و احترام المال، و جواز النكاح، و لكنه يجرى عليه في الآخرة أحكام الكافر، كما أشرنا إليه.

(1) ولد الكافر من الزنا.

قد يتوهم عدم تبعيّة ولد الزنا لأبويه الكافرين في النجاسة، لنفي كونه ولدا لهما شرعا، فلا يتبعهما في الأحكام، و منها النجاسة، فيحكم بطهارته لا محالة.

______________________________
(1) الحجرات 49: 14.

(2) في الصفحة 116.

(3) ج 1 ص 13.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 125‌

و لو كان أحد الأبوين مسلما فالولد تابع له إذا لم يكن عن زنا، بل مطلقا (1) على وجه مطابق لأصل الطهارة.

______________________________
و يندفع: بان ولد الزنا ولد لأبويه لغة، و عرفا، بل و شرعا. أما العرف و اللغة فلأن المراد بالولد فيهما هو المخلوق من ماء الرجل أو المتكون في بطن الام. و أما شرعا فلانه لم يرد دليل شرعي على نفي الولديّة في ولد الزنا، و إنّما نفي عنه الإرث خاصة، و قد ورد نظيره في الولد القاتل لأبيه، أو من كان رقا، أو كافرا، حيث لا توارث بينهما في هذين الموردين أيضا، و نفي التوارث لا يلازم نفي الولدية من سائر الجهات. و أما قوله عليه السّلام في عدّة روايات:

«الولد للفراش و للعاهر الحجر» «1». فهو حكم ظاهري في مقام الشك في أن الولد من الزوج أو الزنا، لا حكم واقعي في مقام بيان الواقع. فلو تم إجماع على نجاسة ولد الكافر تبعا فمقتضى إطلاق معقده عدم الفرق بين الولد الحلال أو الحرام.

(1) قد عرفت أن المستند في النجاسة التبعية لولد الكافر إنما هو الإجماع، و القدر المتيقن منه إنما هو المتولد من كافرين، و أما المتولد من مسلم و كافر فلا يشمله الإجماع على النجاسة، لو لم يكن منعقدا على خلافه، كما عن بعض. و لا أقلّ من الشهرة على الطهارة. و هذا من دون فرق بين أن يكون عن زنا من الطرفين، أو من طرف واحد، سواء المسلم أو الكافر، لأن نفي الولد- كما عرفت- إنما يختص بالإرث، دون سائر الأحكام، فنفي ولديته عن المسلم الزّاني بلحاظ الإرث لا يوجب نفي ولديته عنه بلحاظ آخر، و لا يلحقه بالكافر، فالمرجع فيه مطلقا قاعدة الطهارة.

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 21 ص 173 الباب 58 من أبواب نكاح العبيد و الإماء، الحديث: 2، 3، 4، 7.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 126‌

[ (مسألة 1): الأقوى طهارة ولد الزنا من المسلمين]

(مسألة 1): الأقوى طهارة ولد الزنا (1) من المسلمين، سواء كان من طرف أو طرفين، بل و ان كان أحد الأبوين مسلما، كما مر.

______________________________
(1)
طهارة ولد الزنا قال في الحدائق «1»: «المشهور بين الأصحاب- سيّما المتأخرين- القول بطهارة ولد الزنا، و الحكم بإسلامه، و دخول الجنة. و عن ابن إدريس القول بكفره و نجاسته، و نقل عن العلامة في المختلف القول بالكفر عن المرتضى، و ابن إدريس، و نقل جملة منهم عن الصدوق أيضا القول بالنجاسة و الكفر.»‌

و لا يخفى أنه قد استدل على نجاسة ولد الزنا بجملة من الروايات الّتي يأتي ذكرها. و أما القول بكفره فمبني على دعوى الملازمة بين النجاسة و الكفر، بدعوى: أن المسلم لا يكون نجسا، و أنه لا واسطة بين الكفر و الإسلام. و في كلتا المقدمتين نظر، و إشكال.

و كيف كان فقد استدل على نجاسته بجملة من الروايات الّتي تقصر دلالة أو سندا عن المطلوب، بحيث لا توجب الخروج عن أصالة الطهارة، و أصالة الإسلام، الدال عليهما حديث الفطرة، و الأخبار الكثيرة «2» الدالة على صيرورة المكلف بإقراره بالشهادتين و تدينه بهما مسلما، بل غايتها الدلالة على ثبوت القذارة المعنوية، و الخباثة الباطنية، و الشقاوة الذاتية.

فمنها: مرسلة الوشاء عمن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: أنه كره سئور ولد الزنا، و سئور اليهودي، و النصراني، و كلّ من خالف الإسلام، و كان أشدّ ذلك عنده سئور الناصب» «3».

______________________________
(1) ج 5 ص 10.

(2) الوافي ج 1 ص 18 م 3 باب: أن الايمان أخص من الإسلام.

(3) وسائل الشيعة ج 1 ص 229 الباب 3 من أبواب الأسئار، الحديث 2.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 127‌

..........

______________________________
و فيه: أن الكراهة أعم من النجاسة المصطلحة، فإن الكراهة في الأخبار و إن لم تكن ظاهرة في الكراهة المصطلحة، لكنها ليست ظاهرة في خصوص الحرمة فيمكن أن يكون الوجه فيه القذارة المعنوية. و ذكر ولد الزنا في سياق الأنجاس لا يصلح قرينة لإرادة النجاسة، لإمكان أن يكون الوجه في الجميع هو القذارة المعنوية، كما يشهد لذلك التصريح بأشدّية سئور الناصب، فإنها هي القابلة للتشكيك دون النجاسة الظاهرية.

و منها: رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لا تغتسل من البئر الّتي يجتمع فيها غسالة الحمام، فان فيها غسالة ولد الزنا، و هو لا يطهر إلى سبعة آباء، و فيها غسالة الناصب، و هو شرهما. إن اللّه لم يخلق خلقا شرا من الكلب، و أن الناصب أهون على اللّه من الكلب» «1».

و فيه: أن المراد الخباثة المعنوية، لأن النجاسة المصطلحة لا تتعدي عن ولد الزنا إلى أولاده، و أما القذارة المعنوية فيمكن فيها ذلك.

و منها: غيرها من الروايات الدالّة على المنع عن استعمال غسالة الحمّام المجتمعة من غسالة ولد الزنا، و الجنب، و اليهود، و النصارى، ك‍:

رواية حمزة بن أحمد عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام قال: «سألته- أو سأله غيري- عن الحمّام. قال: أدخله بمئزر، و غضّ بصرك، و لا تغتسل من البئر الّتي تجتمع فيها ماء الحمّام، فإنه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب، و ولد الزّنا، و الناصب لنا أهل البيت، و هو شرهم» «2».

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 1 ص 219 الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحديث: 4. و هي ضعيفة بإرسال الكافي، و بابن جمهور الواقع في طريقها- و هو محمد بن حسن بن جمهور و بمحمد بن القاسم المردد بين الثقة و غيره.

(2) وسائل الشيعة ج 1 ص 218 الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحديث: 1. ضعيفة بحمزة ابن أحمد المجهول.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 128‌

..........

______________________________
و رواية عليّ بن الحكم عن رجل عن أبي الحسن عليه السّلام- في حديث- أنه قال: «لا تغتسل من غسالة ماء الحمّام، فإنه يغتسل فيه من الزّنا، و يغتسل فيه ولد الزنا، و الناصب لنا أهل البيت، و هو شرهم»
«1». و نحوها غيرها.

و هذه الروايات لا دلالة فيها على النجاسة المصطلحة، غايتها الدلالة على القذارة المعنوية، بقرينة عطف الجنب، و الزّاني، و غير ذلك الظاهر في مانعية نفس العنوان دون التنجس بالمني.

و منها: غير ذلك من الأخبار الّتي تكون أضعف دلالة مما سبق، و إنما ذكروها من باب التأييد، و لا تأييد بها، ك‍:

موثقة زرارة، قال: «سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: لا خير في ولد الزّنا، و لا في بشره، و لا في شعره، و لا في لحمه، و لا في دمه، و لا في شي‌ء منه، يعني ولد الزنا» «2».

و عدم دلالتها على النجاسة المصطلحة ظاهرة. و عدم الخير في شي‌ء منه إنّما يناسب القذارة الذاتيّة المعنوية.

و كحسنة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لبن اليهوديّة، و النصرانيّة و المجوسيّة أحب إلى من ولد الزنا.» «3».

و مرفوعة محمّد بن سليمان الدّيلمي إلى الصادق عليه السّلام قال: «يقول ولد الزّنا يا ربّ فما ذنبي؟ فما كان لي في أمري صنع! قال: فيناديه مناد فيقول: أنت شر الثلاثة أذنب والداك فتبت عليهما، و أنت رجس، و لن‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 1 ص 219 الباب المتقدم، الحديث: 3. مرسلة.

(2) البحار ج 5 ص 285. الحديث: 6 المطبوع عام 1376 ه‍.

(3) وسائل الشيعة ج 21 ص 462 الباب 75 من أبواب أحكام الأولاد. الحديث: 2.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 129‌

[ (مسألة 2) لا إشكال في نجاسة الغلاة]

(مسألة 2) لا إشكال في نجاسة الغلاة (1).

______________________________
يدخل الجنّة إلّا طاهر»
«1».

و رواية أبي بصير عن الصادق عليه السّلام قال: «إن نوحا حمل في السفينة الكلب و الخنزير، و لم يحمل فيها ولد الزّنا، و إن الناصب شر من ولد الزنا» «2».

و الأخبار «3» الدالّة على مساواة ديته لدية اليهودي ثمانماءة درهم، إلى غير ذلك من الروايات الّتي تشترك مع ما مر في الضعف، و القصور، فالصحيح أن ولد الزنا محكوم بالطهارة و الإسلام، و لو كان أحد أبويه مسلما و الأخر كافرا- كما في المتن-

(1) نجاسة الغلاة لا بد أوّلا من تحقيق مقالة الغلاة و النظر فيما يعتقدون ثمّ الحكم بكفرهم، و نجاستهم، أو عدمه.

و هم ينقسمون بحسب معتقدهم، أو ما يحتمل في اعتقادهم إلى أقسام.

الأوّل: من يعتقد بألوهية أمير المؤمنين أو أحد الأئمّة الأطهار عليهم السّلام بمعنى أن الإمام عليه السّلام ربّ مجسم نازل من السماء، و هو القديم الواجب. و هؤلاء إن أنكروا وجود صانع غيره فلا ريب في أنّهم كفّار بالذات إن كانوا عقلاء، و إلّا فقد رفع عنهم القلم. و إن أثبتوا وجود خالق آخر معه‌

______________________________
(1) البحار ج 5 ص 285. الحديث: 5. المطبوع عام 1376 ه‍.

(2) البحار ج 5 ص 287. الحديث: 13. المطبوع عام 1376 ه‍.

(3) وسائل الشيعة ج 29 ص 222 الباب 15 من أبواب ديات النفس من كتاب الديات.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 130‌

..........

______________________________
فهم مشركون، إذ لا فرق في ثبوت الكفر و الشرك بين إثبات الألوهيّة لمثل أمير المؤمنين، أو الأصنام، أو شخص آخر. و إن اعتقدوا بالحلول فقد كفروا من جهة إنكار الضروري، لما استقل به العقل، و ثبت في الشرع ضرورة أن اللّه تعالى أجلّ، و أعظم من أن يحلّ في بشر يأكل و ينام، أو يفعل شيئا آخر من أفعال خلقه. و الخلاصة أنه لو تمت نسبة هذه العقيدة إلى الغلاة فهم بين كافر باللّه تعالى، أو مشرك، أو منكر للضروري، و على كل تقدير فهم أنجاس بلا إشكال.

الثاني: من يعتقد بأن أمير المؤمنين عليه السّلام أو الأئمّة الأطهار عليهم السّلام قد فوّض اللّه إليهم أمر التشريع، و التكوين من الخلق و الرّزق و الإحياء و الإماتة، و غير ذلك من الأمور التكوينية تفويضا تاما على نحو انعزال الباري تعالى و تقدس عن الخلق انعزالا كاملا بحيث يكون ذلك أشبه شي‌ء بانعزال ملك عن ملكه، و تفويضه الأمور إلى وزيره، و هذا هو الاعتقاد بالتفويض و هو لا يوجب الكفر بالذّات إلّا أنه مخالف لضرورة الدين، لما ثبت في الشّرع من أن أمر التشريع و التكوين مختص به تعالى، كما دلّ عليه الكتاب العزيز. كقوله تعالى أَلٰا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبٰارَكَ اللّٰهُ رَبُّ الْعٰالَمِينَ «1» و قوله تعالى قُلِ اللّٰهُ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَ هُوَ الْوٰاحِدُ الْقَهّٰارُ «2» فالحكم بكفر هؤلاء مبنيّ على التفصيل المتقدم «3» في كفر منكر الضروريّ، لأن هذه العقيدة و إن كانت باطلة في نفسها إلّا أنها لا توجب الكفر بالذات، بل إنما توجبه بلحاظ إنكار الضروريّ، فإن قلنا بأن إنكاره يوجب الكفر مطلقا فهم كفّار، و إن لم يلتفتوا إلى أنه إنكار للضرورة، و إن قلنا بأنه لا‌

______________________________
(1) الأعراف 7: 54.

(2) الرعد 13: 16.

(3) في الصفحة 111.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 131‌

..........

______________________________
يوجبه إلّا مع الاعتقاد بأنه خلاف الضرورة فلا يحكم بكفرهم لو كان ذلك عن جهل بالحال، أو لشبهة حاصلة من الكلام المأثور عنهم عليهم السّلام في بعض الروايات
«1».

أو الأدعية «2».

______________________________
(1) منها: ما في نهج البلاغة من كتاب أمير المؤمنين عليه السّلام الى معاوية ذكر فيه في مقام بيان فضائله عليه السّلام: «فإنا صنائع ربنا و الناس بعد صنائع لنا.»- شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج 15 ص 182- إذ قد يتوهم من هذه العبارة أن الناس مخلوقون لهم و هم مخلوقون للّه تعالى.

و لكن يدفعه أولا أن اللام في قوله عليه السّلام: «صنائع لنا» ظاهر في التعليل لا التعدية فيكون المعنى ان الناس خلقوا لأجلنا. كما في قوله تعالى خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً- البقرة: 29- و من هنا لم يذكر اللام في قوله عليه السّلام «فإنا صنائع ربنا» و ثانيا: لو سلم كونه للتعدية كان المراد ان الناس مصنوعون لهم في الهداية و الرشاد، فإنهم الهادون للخلق، و مرشد و هم إلى الحق، فيكون المعنى ان اللّه تعالى هادينا، و نحن هادون للخلق. قال ابن أبى الحديد في ج 15 ص 194 من شرحه: «هذا كلام عظيم عال على الكلام، و معناه عال على المعاني، و صنيعة الملك من يصطنعه الملك، و يرفع قدره، يقول: ليس لأحد من البشر علينا نعمة، بل اللّه تعالى هو الذي أنعم علينا، فليس بيننا و بينه واسطة، و الناس بأسرهم صنائعنا، فنحن الواسطة بينهم و بين اللّه تعالى، و هذا مقام جليل ظاهرة ما سمعت، و باطنه أنهم عبيد اللّه، و أن الناس عبيدهم».

و منها: ما عن أمير المؤمنين عليه السّلام أيضا في خصال الصدوق: «إياكم و الغلو فينا قولوا:

انا عبيد مربوبون، و قولوا في فضلنا: ما شئتم»- البحار ج 25، باب- 9- نفي الغلو ص 270 حديث 15 طبع دار الكتب الإسلامية- إذ لعله يتوهم منه: أن عموم قوله عليه السّلام «قولوا في فضلنا:

ما شئتم» يشمل التفويض. و لكن يدفعه أن نهيه عليه السّلام عن الغلو في حقهم و إثبات العبودية و المربوبيّة لهم عليهم السّلام ينفيان التفويض، كما هو واضح. فيكون المعنى قولوا في فضلنا ما شئتم مما يناسب العبودية و المربوبية.

(2) كما في الدعاء المروي في التوقيع الشريف من الناحية المقدسة برواية الشيخ «قده» في مصباح المتهجد عن محمد بن عثمان بن سعيد رضى اللّه عنه في شأن ولاة الأمر: انه يدعى به في كل يوم من أيام رجب «اللهم إني أسألك بمعاني جميع ما يدعوك به ولاة أمرك. إلى قوله عليه السّلام فجعلتهم معادن لكلماتك، و أركانا لتوحيك و آياتك، و مقاماتك التي لا تعطيل لها في كل مكان، يعرفك بها من عرفك، لا فرق بينك و بينها الا أنهم عبادك و خلقك، فتقها و رتقها بيدك.».

إذ قد يتوهم من قوله عليه السّلام «لا فرق بينك و بينها»: أنه لا فرق بينه تعالى و بين ولاة أمره في ثبوت المقامات الإلهية لهم عليهم السّلام سوى أنهم عباده و خلقه، فيدل على التفويض.

و يدفعه: أن هذا الدعاء مع إجمال عباراته و عدم ثبوت صحة سنده- لان الشيخ يرويه عن أحمد بن محمد بن عياش الجوهري و لم يثبت وثاقته- لا دلالة فيه على التفويض لان قوله عليه السّلام:

«فتقها و رتقها بيدك.» ينفى التوهم المزبور لدلالته على أن كل ما يكون لهم عليهم السلام من الشئون و المقامات عطاء ربوبى، و مع ذلك فتقها و رتقها بيده تعالى، لأنهم عباده و خلقه. فلاحظ الدعاء بتمامه، و قد ذكره المحدث القمي في مفاتيحه في الأدعية الرجبية. و رواه المجلسي في البحار ج 98 ص 392- 393: طبعة الإسلامية.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 132‌

..........

______________________________
و الزيارات
«1» الّتي ظاهرها تفويض الأمر إليهم عليهم السّلام في تلك‌

______________________________
(1) منها ما في زيارة الحسين عليه السّلام المروية في الكافي- ج 4 ص 577 طبعة دار الكتب الإسلامية- عن الصادق عليه السّلام: «ارادة الرب في مقادير أموره تهبط إليكم، و تصدر من بيوتكم، و الصادر عما فصل من أحكام العباد.» إذ قد يتوهم: دلالته على أن الأئمة الأطهار عليهم السلام كما انهم مصادر للأحكام الشرعية و الإرادة التشريعية الإلهية كذلك هم مصادر لمقدرات الأمور و الإرادة التكوينية فيكون المعنى أنه قد فوض إليهم أمر التشريع و التكوين جميعا، فيؤخذ منهم الأحكام الشرعية، و يتصرفون في الكون ما شاؤا. و يندفع: بأنه لا معنى لهبوط ارادة الرب التكوينية إليهم عليهم السلام، لأن إرادته تعالى احداثه و فعله، كما فسرها به الأئمة الأطهار عليهم السلام فيما روى عنهم- في أصول الكافي ج 1 ص 109 باب أن الإرادة من صفات الفعل- و لا معنى حينئذ لهبوطها إليهم. و توهم:

إيكال الإرادة الإلهية إليهم عليهم السلام بمعنى أنهم إذا شاؤا شاء اللّه تعالى خلاف ظاهر العبارة جدا، فلا محالة لا يخلو الحال من ارادة أحد أمرين. الأول: أن يكون المراد أنهم يعلمون بإرادة اللّه تعالى التكوينية أي بما يفعله تعالى في الأمور الكونية فيكون المعنى انه تعالى يطلعهم على ما قدره في خلقه و عباده من الأمور الغيبية، و هم يخبرون بها إذا شاؤا.

و يؤيد ذلك ما ورد في جملة من الروايات- المروية في البحار ج 26 باب 6 ص 109 طبعة الإسلامية- من أنه لا يحجب عنهم علم السموات و الأرض، فيهبط إليهم علم خلق اللّه تعالى، و يصدر من بيوتهم.

و منه يعلم: أنه لو كانت الإرادة الإلهية من صفات الذات لا الفعل، كما عليه أكثر الحكماء، بمعنى أنها الابتهاج و الرضا في مرحلة الذات المتحد مع العلم مصداقا و ان كان مغايرا له مفهوما لاستقام المعنى أيضا، لأن المراد حينئذ أنهم عليهم السلام يعلمون بها أى يطلعهم اللّه تعالى على إرادته و مشيته في مقدرات الأمور الكونية، و ان شاؤا أخبروا بها، و يكون حاصل المعنى: أنه تعالى يطلعهم على خلقه أو إرادته فيه و هذا من فضل اللّه تعالى يؤتيه من يشاء انه ذو فضل عظيم.

و قال تعالى وَ مٰا كٰانَ اللّٰهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشٰاءُ فَآمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ.- آل عمران 3: 179- أى فإذا اجتباه يطلعه على غيبه، كما أطلع النبي- صل اللّه عليه و آله- على حال المنافقين. و قال تعالى أيضا عٰالِمُ الْغَيْبِ فَلٰا يُظْهِرُ عَلىٰ غَيْبِهِ أَحَداً إِلّٰا مَنِ ارْتَضىٰ مِنْ رَسُولٍ- الجن 72: 26- 27- و هاتان الايتان يخصص بهما إطلاق الآيات الدالة على اختصاص الغيب به تعالى.

الثاني ان يكون المراد الإرادة التشريعية و نزول الأحكام الشرعية إليهم عليهم السّلام و لو بواسطة الرسول الأكرم- صلّى اللّه عليه و آله- فتكون الجملة الثانية «و الصادر عما فصل من أحكام العباد» كتوضيح أو تأكيد للجملة الاولى، و هذا هو الأنسب، لأن بيوتهم بيوت الوحي و التنزيل، و يكون قوله عليه السّلام «و الصادر عما فصل» مبتدإ و خبره مقدر بقرينة ما سبق، اى يصدر من بيوتكم.

و منها: ما في الزيارة الجامعة الكبيرة المروية في الفقيه- ج 2 ص 370 طبعة دار الكتب الإسلامية- عن الإمام الهادي عليه السّلام «بكم فتح اللّه، و بكم يختم، و بكم ينزل الغيث، و بكم يمسك السماء أن تقع على الأرض الا باذنه، و بكم ينفس الهم، و يكشف الضر» و قريب منها ما في الزيارة المتقدمة للحسين عليه السّلام: «بكم تنبت الأرض أشجارها و بكم تخرج الأشجار أثمارها، و بكم تنزل السماء قطرها و رزقها.» المروية في الكافي ج 4 ص 576- 577- و لكن الظاهر من هذه الفقرات و نحوها أن الأئمة الأطهار عليهم السّلام وسائط للفيوضات الربانية لا المباشرون لها، بمعنى انه تعالى بسبب وجودهم ينزل الغيث، و يمسك السماء و هكذا، لا أنه تعالى يستعين بهم في هذه الأمور.

و منها: ما في الزيارة الجامعة أيضا: «و استرعاكم أمر خلقه» أي استحفظكم إياه، و ولى أمره إليكم.

بتوهم: أن إطلاق الأمر يعم التشريعي و التكويني كما أن إطلاق الخلق يعم غير الإنسان، فتدل هذه الجملة على إيكال مطلق أمر الخلق إليهم عليهم السّلام. و يدفعه: انه لو سلم الإطلاق، و لم يحمل على خصوص التشريع، لاحتفافه بما يحتمل القرينية من قوله عليه السّلام قبلها» فبحق من ائتمنكم على سره» و بعدها «و قرن طاعتكم بطاعته» لم يدل على إيكال الأمر إليهم عليهم السّلام على نحو التفويض التام، بحيث يستلزم انعزال الباري تعالى عن أمر خلقه بالمرة، كما لا يخفى، فان رعايتهم لأمر الخلق انما يكون بعطاء من الرب، و الاعتقاد بذلك لا يوجب كفرا، و لا غلوا، كما ذكر في الشرح في القسم الثالث.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 134‌

..........

______________________________
الأمور (الثالث) من يعتقد بأنّ الأئمّة عليهم السّلام عباد مكرمون و هم أشرف المخلوقات على الإطلاق، و لذلك كرّمهم اللّه تعالى، فجعلهم وسائط للفيض، فيسند إليهم أمور التشريع، و التكوين على ضرب من الإسناد، كما يسند الإماتة إلى ملك يسند الإماتة إلى ملك الموت
«1» و الرزق إلى ميكائيل، و المطر إلى ملك المطر «2» بل في الكتاب العزيز إسناد الخلق و شفاء المرضى و إحياء الموتى إلى عيس بن مريم عليهما السّلام في قوله تعالى أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ. فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّٰهِ، وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتىٰ بِإِذْنِ اللّٰهِ. «3» فالاعتقاد بأنّهم عليهم السّلام رازقو الخلق، و محيوهم، و مميتوهم بهذا المعنى أي بمعنى قدرتهم على ذلك بإقدار من اللّٰه تعالى بحيث لا يرجع إلى الاعتقاد بربوبيّتهم، و لا بتفويض الأمر إليهم لا محذور فيه، و لا يوجب الكفر، بل هو من الغلو الحسن الّذي لا بد من الالتزام به في الجملة «4» إذ لا تنافي بين‌

______________________________
(1) كما في قوله تعالى قُلْ يَتَوَفّٰاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ السجدة 32: 11.

(2) راجع سفينة البحار ج 2 ص 546 تهتدي الى أبواب البحار في بيان أوصاف الملائكة، و أصنافهم، و ما أوكل إليهم من الأعمال.

(3) آل عمران 3: 49.

(4) أقول: ظاهر جملة من الآيات الكريمة صدور خوارق العادات من الأنبياء عليهم السلام صدور الفعل من فاعله، بحيث كانوا يتصرفون في الأمور التكوينية بإرادتهم، الا ان ذلك كان بإقدار من اللّٰه العزيز الحكيم لهم على ذلك، و مما يدلنا على ذلك قوله تعالى في شأن عيسى بن مريم- عليه السّلام أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّٰهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتىٰ بِإِذْنِ اللّٰهِ.- آل عمران 3: 49- فقد نسب عيسى عليه السّلام خلق الطير و إبراء الأكمه و الأبرص و احياء الموتى الى نفسه، و ظاهر النسبة صدور هذه الأفاعيل منه عليه السّلام الا أنه بإذن من اللّٰه تعالى، أى برخصته، تعالى فالفعل فعله لكنه بإقدار و اذن منه تعالى، و لا موجب للحمل على الإسناد المجازي- كما قيل في بعض التفاسير- بعد إمكان الحمل على الحقيقة و عدم وجود قرينة على الخلاف، إذ لا محذور في إعطاء اللّٰه عز و جل قدرة خرق العادة، و التصرف في الكون لبشر كما أقدره على الأفعال العادية، من الأكل، و الشرب، و نحوهما، فيتمكن من احياء الموتى، كما يتمكن من الأكل و الشرب قُلِ اللّٰهُمَّ مٰالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشٰاءُ، وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشٰاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشٰاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشٰاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ- آل عمران 3: 26- إذ من جملة ما يكون ملكا له تعالى، و تعمه قدرته إقدار عبد من عباده الصالحين على فعل خارق للعادة- كإحياء الموتى- لعدم كونه من المحالات العقلية كي لا تتعلق به القدرة، و لا يكون ملكا له تعالى، و تكرار الاذن في كلامه عليه السّلام مما يشعر بإصراره على استناد الآيات المذكورة الى اللّٰه تعالى في الحقيقة، لأنها بقدرته تعالى، و لما كان من المترقب ان يضل فيها الناس، فيعتقدوا بألوهيته استدلالا بالآيات المعجزة الصادرة عنه عليه السّلام قيد كل آية يخبر بصدورها منه مما يمكن أن يضلوا بها كالخلق، و احياء الموتى باذن اللّٰه تعالى، ثم ختم الكلام بقوله إِنَّ اللّٰهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هٰذٰا صِرٰاطٌ مُسْتَقِيمٌ آل عمران 3: 51- و من الجائز أيضا أن يكون تكرار الاذن للإشارة الى أن الأنبياء عليهم السّلام لا يصدر منهم خرق العادات إلا بإذن خاص من اللّٰه تعالى في كل مورد بخصوصه، كما في الشفاعة، قال اللّٰه تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلّٰا بِإِذْنِهِ- البقرة 2: 255- و من الآيات الظاهرة في صدور الفعل الخارق للعادة من الأنبياء قوله تعالى في شأن سليمان عليه السّلام «فَسَخَّرْنٰا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخٰاءً حَيْثُ أَصٰابَ»- ص 38: 36- إذ هي دالة على أن الريح كانت تجري بأمره، و هو المجرى لها الا انه بتسخير من اللّٰه العزيز للريح له بجعله تحت أمره، كما دل عليه قوله تعالى في مقام الامتنان عليه هٰذٰا عَطٰاؤُنٰا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسٰابٍ- ص 38: 39- و قد ورد في تفسير دعاء سليمان عليه السّلام رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لٰا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي- ص 38: 35- ان اللّٰه تعالى سخر له الريح، و الشياطين، و علمه منطق الطير، و مكن له في الأرض كي لا يشتبه على أحد أنه أخذ الملك ظلما، و هذا هو المراد من قوله عليه السّلام ان يهب له ملكا لا ينبغي لأحد من بعده- لا حظ تفسير الصافي ج 2 ص 447. و عليه لا موجب لحمل الأمر في قوله تعالى:

«تَجْرِي بِأَمْرِهِ» على الدعاء، أى بدعاءه. و من تلك الآيات قوله تعالى في آصف بن برخيا قٰالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتٰابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ.- النمل- 27: 40- لدلالتها على أن آصف ابن برخيا الذي عنده علم من الكتاب كان متمكنا من إحضار عرش بلقيس من مكان بعيد بزمن أقصر من طرفة عين، و ظاهر الآية الكريمة إسناد الفعل إليه مباشرة، فكان ذلك من فعل آصف الا انه بإقدار من اللّٰه تعالى، و هذا تصرف في الكون بأمر خارق للعادة من دون أسباب ظاهرية، و هو المطلوب، و انما لم يفعل ذلك سليمان بنفسه مع انه كان نبيا لا علامة للناس أن آصف هو الوصي من بعده- كما ورد في الحديث المروي في ج 14 من البحار ص 124 طبعة الإسلامية.

و على الجملة ظاهر الآيات الكريمة المتقدمة صدور الأفعال المذكورة- كخلق الطير، و إبراء الأكمه و الأبرص، و احياء الموتى، و اجراء الريح، و الإتيان بعرش بلقيس- من الأنبياء عليهم السلام و لا ينافي ذلك ظهور جملة من الآيات الأخر في أن معجزات الأنبياء كانت من أفعال اللّٰه تعالى، كقوله عز من قائل في قصة إبراهيم عليه السّلام يٰا نٰارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلٰاماً عَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ- الأنبياء 69: 21- لدلالتها على أن صيرورة النار بردا و سلاما على إبراهيم عليه السّلام كانت من أفعاله تعالى.

و هكذا قوله تعالى في ناقة ثمود وَ آتَيْنٰا ثَمُودَ النّٰاقَةَ- الإسراء 17: 59- و قوله تعالى في داود عليه السّلام وَ أَلَنّٰا لَهُ الْحَدِيدَ- سبا: 34: 10- قوله تعالى في قصة عصا موسى عليه السّلام قٰالَ أَلْقِهٰا يٰا مُوسىٰ، فَأَلْقٰاهٰا فَإِذٰا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعىٰ، قٰالَ خُذْهٰا وَ لٰا تَخَفْ سَنُعِيدُهٰا سِيرَتَهَا الْأُولىٰ.- طه 20: 21- لدلالتها على أن اعادة الحية عصا كانت من فعله تعالى كأصل قلبها حية و ان فعل موسى عليه السّلام كان مجرد إلقاء العصا الذي هو مقدمة لانقلابها حية.

وجه عدم المنافاة هو إمكان الالتزام بان معجزات الأنبياء كانت على نوعين «أحدهما» ما كان فعلا له تعالى و لكن على يد أنبيائه عليه السّلام، كالقرآن الكريم المنزل على رسوله الأكرم صلّى اللّٰه عليه و آله، فإنه كلام اللّٰه عز و جل، و كتبريد النار على إبراهيم عليه السّلام، و خلق ناقة ثمود، و تليين الحديد لداود عليه السّلام، و قلب العصا حية لموسى عليه السّلام، و «الثاني» ما كان فعلا للأنبياء عليهم السّلام كالأفعال المتقدمة المحكية عن عيسى و سليمان و آصف بن برخيا عليهم السّلام، و لا يوجب ذلك شركا و لا كفرا بعد الاعتراف بأنها سلطنة إلهية فإن ثبوت القدرة لهم على خوارق العادات باذن من اللّٰه تعالى لا يلزم حصر صدورها بهم عليهم السّلام، و انه تعالى لا يفعل شيئا من ذلك.

هذا كله في الأنبياء و قد ثبت بما ذكرنا ثبوت ولايتهم التكوينية على الكائنات ولاية إلهية اعطائية باذن و رخصة منه تعالى و تقدس فيما اقتضتها المصلحة و الحكمة الربانية و أشرفهم و خاتمهم محمد صلّى اللّه عليه و آله، و قد تواترت الاخبار بصدور المعجزات عنه صلّى اللّه عليه و آله بل قد دل عليه الكتاب العزيز في قوله تعالى اقْتَرَبَتِ السّٰاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ بناء على ما ورد في التفاسير و الروايات من انشقاق القمر بإشارته و أمره صلّى اللّه عليه و آله.

و أما الأئمة الأطهار فيدل على ثبوت الولاية التكوينية لهم على الوجه المذكور مضافا الى المعجزات المحكية عنهم عليهم السّلام التي تواترت بها الاخبار- و من جملتها ما رواه في البحار ج 46 و 47 في باب معجزات الباقر و الصادق- عليهما السّلام- و في بعضها قول الباقر عليه السّلام لجابر: «ان اللّه أقدرنا على ما نريد و لو شئنا ان نسوق الأرض بأزمتها لسقناها»- البحار ج 46 ص 240 ح 23- الى غير ذلك من الاخبار المذكورة في البابين، و مضافا الى قاعدة اللطف المقتضية للزوم إعطاء هذه القدرة لهم عليهم السّلام كي يبرهنوا بها على إمامتهم إتماما للحجة متى اقتضته الحال- الأخبار الدالة على ان اللّه تعالى قد أعطاهم جميع ما أعطاه للأنبياء السابقين كقول الصادق عليه السّلام في حديث- «كل نبي ورث علما أو غيره فقد انتهى الى آل محمد صلّى اللّه عليه و آله» راجع كتاب الكافي- ج 1 ص 23 باب ما عند الأئمة من آيات الأنبياء عليهم السّلام- فتحصل من جميع ما ذكرناه: ان القول بثبوت الولاية التكوينية للأنبياء و الأئمة الأطهار عليهم السّلام بمعنى تمكنهم من التصرف في الكون باذن من اللّه تعالى لا محذور فيه أصلا، بل يساعده العقل، و يدل على تحققها الكتاب العزيز، و الاخبار البالغة فوق حد التواتر أعنى بها الواردة في أبواب معجزات الأنبياء و الأئمة- كما أشرنا- فلا حظ و قد أطلنا الكلام في المقام دفعا لشبهة وقعت في الأوهام و من اللّه الاعتصام.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 137‌

..........

______________________________
النسبتين
«1» أي نسبة الخلق و الرزق و الموت و الحياة إليه تعالى و تقدس، و إليهم عليهم السّلام بالمعنى المذكور، اعنى التوسيط في الأمر لا الاستقلال فإن إثبات شي‌ء من أوصاف الباري تعالى لبعض مخلوقاته لا يوجب الخروج عن حد الإسلام بعد الاعتراف بكون‌

______________________________
(1) إذ لا بد من الجمع بين نسبة الإماتة- مثلا- اليه تعالى في جملة من الآيات كقوله تعالى اللّٰهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهٰا- الزمر 39: 42- و قوله تعالى وَ اللّٰهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفّٰاكُمْ.- النحل 16: 70- و بين نسبتها الى ملك الموت في قوله تعالى قُلْ يَتَوَفّٰاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ- السجدة 32: 11- أو الى رسل اللّه تعالى الذين هم أعوان ملك الموت في قوله تعالى حَتّٰى إِذٰا جٰاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنٰا وَ هُمْ لٰا يُفَرِّطُونَ- الأنعام 6: 61- فإن نسبة الموت اليه تعالى نسبة التسبيب و الأقدار، و نسبته الى ملك الموت نسبة المباشرة.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 138‌

و الخوارج (1).

______________________________
الموصوف بتلك الصفة من مخلوقاته تعالى، فان كان هذا معنى الغلو فليس تجاوزا عن الحد في حقّ الأنبياء، أو الأئمّة عليهم السّلام كما قد يفسر الغلو بذلك، فما حكى عن القميين من الطعن في بعض الرجال برميهم بالغلو بمجرد ذلك، حتّى أنه حكى الصدوق عن شيخه ابن الوليد انه قال: ان أول درجة الغلو نفي السهو عن النبي صلّى اللّه عليه و آله لا يمكننا المصير إليه.

(1) نجاسة الخوارج حكى عن جماعة دعوى الإجماع على نجاسة الخوارج، و لا حاجة إليه إن كان المراد بهم من يعتقد ما تعتقده الطائفة الملعونة الّتي خرجت على أمير المؤمنين عليه السّلام في صفّين، فاعتقدت كفره، و تقربت إلى اللّه تعالى ببغضه، و عداوته إلى أن انتهى أمرهم إلى قتله عليه السّلام إذ لا إشكال في كفرهم، و نجاستهم، لأنه مرتبة عالية من النصب الّذي هو بمعنى نصب العداوة لأمير المؤمنين عليه السّلام و أولاده المعصومين عليهم السّلام، و يأتي الحكم بكفر هم و يؤيده ما في المرسل عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في وصفهم «أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» «1».

و عن الفضل أنه دخل على أبي جعفر عليه السّلام رجل محصور عظيم البطن، فجلس معه على سريره فحياه، و رحب به، فلما قام قال: هذا من الخوارج كما هو قال: قلت مشرك؟ فقال: مشرك، و اللّه مشرك» «2».

و أما لو أريد منهم مطلق من خرج على الإمام عليه السّلام طمعا‌

______________________________
(1) سفينة البحار ج 1 ص 383.

(2) سفينة البحار ج 1 ص 383.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 139‌

و النواصب (1).

______________________________
للرّئاسة و الوصول إلى الأغراض الدنيويّة من المال و الجاه، مع الاعتقاد بإمامته، و الاعتراف بسيادته- كما في خروج الحر على الحسين عليه السّلام- فيشكل اندراجه في عنوان الناصب، إذ المراد بالنصب نصب العداوة و البغضاء، و هذا ليس من مصاديقه. و من هنا يحكم بإسلام الأوّلين الغاصبين لحق أمير المؤمنين عليه السّلام إسلاما ظاهريا لعدم نصبهم- ظاهرا- عداوة أهل البيت، و إنما نازعوهم في تحصيل المقام، و الرئاسة العامة، مع الاعتراف بما لهم من الشأن و المنزلة، و هذا و إن كان أشد من الكفر و الإلحاد حقيقة إلّا أنه لا ينافي الإسلام الظاهري، و لا يوجب النجاسة المصطلحة.

(1) نجاسة النواصب لا خلاف في نجاستهم، بل ادّعى الإجماع عليها في كلمات جمع من الأصحاب. و المراد بهم من نصب العداوة لأهل البيت عليهم السّلام كمعاوية، و يزيد لعنهما اللّه، و كثير ممن حضر لمقاتلة الحسين عليه السّلام. و هذا من دون فرق بين خروجهم على الإمام و عدمه، فهم أعم من الخوارج.

و يدل على نجاستهم جملة من الروايات لعله تبلغ حد الاستفاضة أحسنها:

موثقة ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام- في حديث- قال: «و إياك أن تغتسل من غسالة الحمام، ففيها تجتمع غسالة اليهودي، و النصرانيّ، و المجوسي، و الناصب لنا أهل البيت، فهم شرهم، فإن اللّه تبارك و تعالى لم يخلق خلقا أنجس من الكلب، و أن الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه» «1». و نحوها غيرها، ك‍:

______________________________
(1) وسائل الشيعة: الباب 11 من أبواب الماء المضاف. الحديث: 5.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 140‌

..........

______________________________
رواية الكافي عن ابن أبي يعفور عن أبي عليه السّلام قال: «لا تغتسل من البئر الّتي يجتمع فيها غسالة الحمام، فإن فيها غسالة ولد الزنا، و هو لا يطهر إلى سبعة آباء، و فيها غسالة الناصب، و هو شرهما. إن اللّه لم يخلق خلقا شرا من الكلب، و أن الناصب أهون على اللّه من الكلب»
«1».

و رواية القلانسي قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ألقى الذّميّ، فيصافحني؟

قال: امسحها بالتراب، و بالحائط. قلت: فالناصب؟ قال: اغسلها» «2».

و مرسلة الوشاء عمن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: أنّه كره سؤر ولد الزنا، و سؤر اليهودي، و النصرانيّ، و المشرك، و كل من خالف الإسلام، و كان أشد ذلك عنده سؤر الناصب» «3».

و رواية علي بن حكم عن رجل عن أبي الحسن عليه السّلام- في حديث- أنه قال: «لا تغتسل من غسالة ماء الحمام، فإنه يغتسل فيه من الزّنا، و يغتسل فيه ولد الزنا، و الناصب لنا أهل البيت، و هو شرهم» «4».

فلا حاجة في الاستدلال على نجاستهم بالروايات الدالّة على كفر المخالف- الّذي هو أعم من الناصب- الّتي تأتي جملة منها بعيد هذا، لأن المراد بالكفر في تلك الأخبار ما يقابل الإيمان، لا ما يقابل الإسلام، كما في الناصب.

و المناقشة في دلالتها: بأن النجاسة القابلة للزيادة و النقيصة إنما هي النجاسة الباطنيّة بمعنى الخباثة المعنوية دون النجاسة المصطلحة.

______________________________
(1) وسائل الشيعة في الباب المتقدم. الحديث: 4. ضعيفة كما تقدم في تعليقة ص 127.

(2) وسائل الشيعة: الباب 14 من أبواب النجاسات. الحديث: 4. ضعيفة بعلي ابن معمر و هو مجهول و بخالد القلانسي المردد بين الثقة و غيره و ان كان المعروف هو الثقة.

(3) وسائل الشيعة: الباب 3 من أبواب الأسئار. الحديث: 2.

(4) وسائل الشيعة: الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحديث: 2. و هي: مرسلة.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 141‌

..........

______________________________
مندفعة: بأن أشديّة نجاسة الناصب من الكلب لعلها من جهة أنه نجس ظاهرا و باطنا، لخبث باطنه، بخلاف الكلب، فإنه حيوان لم يكلف بشي‌ء كي يعصي أو يطيع، فتتمحض نجاسته في الظاهرية.

و أما المناقشة في دلالة بعضها: بوقوع الناصب في سياق المغتسل من الزنا، و ولد الزنا- كما في رواية عليّ بن حكم- و مقتضى وحدة السياق إرادة مجرد الخباثة الباطنية في الجميع، لعدم نجاسة المغتسل من الزنا، أو ولد الزنا.

فمندفعة: بان سياق الموثقة- الّتي هي العمدة في الاستدلال- على خلاف ذلك، لوقوع الناصب فيها في سياق اليهود، و النصارى، و المجوس.

و أما الإشكال في الحكم بكفرهم و نجاستهم: بشيوع النصب في دولة بني أميّة- لعنهم اللّه- و اختلاط أصحاب الأئمّة عليهم السّلام مع النصّاب، و الخوارج، و لم يعرف تجنب الأئمّة عليهم السّلام و أصحابهم عنهم، بل الظاهر أنهم كانوا يعاملون معهم معاملة المسلمين من حيث المعاشرة و تنزيل هذه المعاشرة في الأعصار الطويلة على التقية في غاية البعد.

فالجواب عنه: هو ما نبّه عليه شيخنا الأنصاري «قده»، من أن أغلب الأحكام الشرعيّة انتشرت في عصر الصادقين عليهما السّلام، فلا مانع من أن يكون كفر النواصب منها، بحيث لم يكن الأصحاب يعرفون ذلك قبل عصرهما، فأصحاب الأئمة الّذين كانوا يخالطون النواصب في دولة بني أميّة لم يكونوا يعلمون هذا الحكم. و أما الأئمّة عليهم السّلام فلم يعلم حال معاشرتهم مع النواصب و الخوارج في غير مورد التقيّة. و الصحيح هو ما أفاده «قده»، لأن كثرة النواصب إنما كانت في عهد معاوية، و من بعده إلى عصر العباسيّين، لأنه أمر الخطباء بسبب أمير المؤمنين عليه السّلام على المنابر في البلاد الإسلامية، و هو أيضا كان مستمرا على فعل ذلك، حتّى كثرت النواصب في البلدان، لأن‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 142‌

و أما المجسمة (1)،

______________________________
الناس على دين ملوكهم. و لعلّ سكوت الأئمة عليهم السّلام عن بيان كفرهم، و نجاستهم في تلك الأعصار كان من أجل التقيّة، أو عدم التضييق على الشيعة، فتأخر بيان ذلك إلى عصر العباسين، حيث أنهم كانوا يوالون الأئمّة ظاهرا، إلّا قليلا منهم، فانقلب الناس عما كانوا عليه، و ارتفع المانع عن بيان الحكم الواقعي في زمن الصادقين عليهما السّلام.

(1) حكم المجسمة و هم فرقتان، إحداهما: المجسمة حقيقة، و هم القائلون بأنه تعالى جسم كسائر الأجسام و ثانيتهما المجسمة اسما أي القائلون بأنه جسم لا كالأجسام، كما ورد: انه شي‌ء لا كالأشياء «1».

و قد حكى في الجواهر «2» عن المنتهى، و الدروس، و ظاهر القواعد، و المبسوط و التحرير: نجاسة المجسمة مطلقا، و عن المسالك، و البيان. تقييد الحكم بالنجاسة بالفرقة الأولى.

فنقول: أما الطائفة الأولى فإن التزموا بلازم مقالتهم أيضا، من الحدوث، و الحاجة إلى الحيز و المكان، فلا إشكال في كفرهم، و نجاستهم، لأنه في الحقيقة إنكار لوجوده سبحانه. و أما إذا لم يلتزموا بذلك، و اعتقدوا بالقدم، و عدم الحاجة إلى الحيز فلا دليل على نجاستهم، إذ مجرد الملازمة الواقعيّة بين التجسم و بين الحدوث و التحيز، من دون التفات إليها، لا يوجب كفرا، لأن العبرة في الكفر- بسبب إنكار الضروري- إنما تكون بالعلم و‌

______________________________
(1) الكافي ج 1 ص 82- 85 الطبعة الحديثة. و الوافي ج 1 ص 83.

(2) ج 6 ص 51 طبعة النجف الأشرف عام 1379.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 143‌

..........

______________________________
الالتفات، لا بمجرد اللزوم الواقعي، كما سبق.

و ربما يستدل على نجاستهم: بأن إثبات و صف الجسميّة له تعالى في نفسه مخالف للضرورة، و لو من دون التزام بلوازمها، من الحدوث، و التحيز.

و يندفع: بان عدم الجسمية ليس من الضروريات، و إنما هو حكم عقلي لا بد من الاستدلال عليه بالبراهين العقلية. كيف و قد يوهم كثير من الآيات، و الأخبار ثبوت الجسميّة له تعالى، مثل قوله عز من قائل الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوىٰ «1» و قوله تعالى ثُمَّ دَنٰا فَتَدَلّٰى فَكٰانَ قٰابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنىٰ «2»، و قوله تعالى يَدُ اللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ «3»؟! و مما ذكرنا يظهر حكم الطائفة الثانية، فإن القول بأنه تعالى جسم بالتسمية، و جسم لا كالأجسام، أنه ليس له مادة، و لا يكون حادثا و محتاجا إلى مكان لا يكون مخالفا للضرورة بطريق أولى. كيف و أكثر المسلمون- لقصور فهمهم- يعتقدون بأنه تعالى جسم جالس على عرشه، و من ثمة يتوجهون نحوه توجه جسم إلى جسم مثله، لا على نحو التوجه القلبي؟!.

بل ذهب صدر المتألهين إلى هذا القول، حيث ذهب إلى أنه جسم إلهي. قال في شرحه على الكافي «4» ما ملخصه: أن الأجسام على أربعة أقسام، (فمنها): جسم مادي، و هو كالأجسام الخارجيّة المشتملة على المادة لا محالة.

و (منها): جسم مثالي، و هي الصورة الحاصلة للإنسان من الأجسام‌

______________________________
(1) طه 20: 5.

(2) النجم 53: 9.

(3) الفتح 48: 10.

(4) في الحديث الثامن من الباب الحادي عشر من كتاب التوحيد.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 144‌

..........

______________________________
الخارجيّة أي الصور الذهنيّة، و هي جسم لا مادة لها.

و (منها): جسم عقلي، و هو الكلي المتحقق في الذهن. و هو أيضا مما لا مادة له، بل و عدم اشتماله عليها أظهر من سابقه.

و (منها): جسم إلهي، و هو فوق الأجسام بأقسامها، و عدم حاجته إلى المادّة أظهر من عدم الحاجة إليها في الجسم العقلي.

و قد صرح بان المقسم لهذه الأقسام الأربعة هو الجسم الّذي له أبعاد ثلاثة، من الطول، و العرض، و العمق.

و هذا القول أيضا باطل، لأن ماله هذه الأبعاد الثلاثة كيف لا يشتمل على المادة، و لا يكون محتاجا، مع حاجة كلّ من الأبعاد الثلاثة إلى الأخر؟! و لا يكون مركبا، مع تركبه من هذه الأبعاد؟! إلّا أن عدمه ليس ضروريا، كما ذكرنا. فالالتزام به لا يوجب الكفر، و النجاسة.

و أما الاستدلال على نجاسة المجسمة مطلقا بما ورد في الخبر، من قول الرضا عليه السّلام: «من قال بالتشبيه و الجبر فهو كافر مشرك» «1».

بناء على أن التجسيم نوع من التشبيه.

فضعيف، أما أوّلا: فلضعف سند الرواية «2». و أما ثانيا: فلضعف دلالتها، لاحتمال إرادة التشبيه من حيث الحدوث، و المكان و الحاجة، دون مجرد القول بالتجسيم، الّذي قد عرفت أنه لا يوجب الكفر. أو إرادة بعض مراتب الكفر أو الشرك الّذي لا ينافي الإسلام الثابت بالشهادتين من دون اعتبار أمر آخر، كعدم القول بالتجسيم في تحققه بهما. فيكون إطلاق الكافر أو‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة كتاب الحدود و التعزيرات: الباب 10 من أبواب حد المرتد. الحديث:

5.

 (2) بأحمد بن هارون، و على بن معبد، فإنهما مجهولان.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 145‌

و المجبرة (1)

______________________________
المشرك عليه كإطلاقه على المرائي و أضرابه.

(1) حكم المجبرة حكى القول بنجاستهم عن المبسوط، و قوّاه كاشف اللثام، و عن جمع: التصريح بطهارتهم، بل في الجواهر «1» أنه لم يجد موافقا صريحا للشيخ على القول بالنجاسة.

و لا يخفى أن مجرد القول بالجبر- كالقول بالتجسيم- و إن كان باطلا، إلّا أنه لا يوجب الكفر، لأن عدمه ليس من الضروريات، كيف و ظواهر جملة من الآيات و الأخبار يؤيّد هذا القول، و قد حار كثير من الأعاظم الخائضين لجج بحار الجبر و التفويض، و لم يأت أكثرهم بما يشفي العليل، و يروى الغليل. نعم لازم هذا القول هو بطلان الثواب و العقاب، بل بطلان الأحكام و النبوّات، و هو مخالف لضرورة الدين، فان كان القائل بالجبر ملتفتا إلى هذا اللازم، و ملتزما به أيضا فهو كافر، لإنكاره الضروري باعتبار اللازم المذكور. و أما إذا لم يكن ملتفتا إليه، و كان في غفلة من هذا، أو لم يكن ملتزما به- كما هو كذلك فلا موجب للكفر و النجاسة، كما ذكرنا.

و المجبّرة قد التزموا بصحة التكاليف، و ترتب الثواب و العقاب على كسب العبد دون فعله، لخروجه عن اختياره و قدرته. مستشهدين لذلك بجملة من الآيات الّتي اعتمدت على كسب العبد، كقوله تعالى «وَ لٰا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلّٰا عَلَيْهٰا.» «2» و قوله عزّ من قائل:

______________________________
(1) ج 6 ص 55: طبعة النجف الأشرف. عام 1379.

(2) الانعام: 6: 124.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 146‌

..........

______________________________
«لَهٰا مٰا كَسَبَتْ وَ عَلَيْهٰا مَا اكْتَسَبَتْ.» «1»، و قوله تعالى لَهٰا مٰا كَسَبَتْ وَ لَكُمْ مٰا كَسَبْتُمْ.* «2»، و قوله تعالى كُلُّ امْرِئٍ بِمٰا كَسَبَ رَهِينٌ «3». إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

فهم لا يعترفون باللازم و ان كان يلزمهم ذلك واقعا، إلّا أنه قد عرفت أن مجرد الاستلزام الواقعي لإنكار الضروريّ لا يوجب الكفر، ما لم يكن ملتفا إليه، و ملتزما به.

و على الجملة: ان مقتضى عموم ما دل من الأخبار على تحقق الإسلام بالشهادتين- اللتين عليهما أكثر الناس- تحققه في المجبّرة أيضا. بمجرد الاعتراف بهما «4». هذا مضافا إلى استبعاد نجاستهم و كفرهم- على كثرتهم- فإن القائل بهذا القول هم الأشاعرة، و هم أكثر من غيرهم، و لم ينقل عن الأئمّة عليهم السّلام و أصحابهم أو أحد الشيعة أنه كان يجتنب عن هؤلاء. هذا كله في المجبرة.

______________________________
(1) البقرة: 2: 286.

(2) البقرة: 2: 134.

(3) الطور: 52: 21.

(4) و لا مخصص لهذه الاخبار سوى ما يتوهم من بعض الروايات الدالة على كفر المجبرة كقول الرضا عليه السّلام: «من قال بالتشبيه و الجبر فهو كافر مشرك، و نحن منه برآء في الدنيا و الآخرة». و كقوله عليه السّلام: «القائل بالجبر كافر، و القائل بالتفويض مشرك». و قول الصادق عليه السّلام: «ان الناس في القدر على ثلاثة أوجه، رجل يزعم أن اللّه تعالى أجبر الناس على المعاصي، فهذا قد أظلم اللّه في حكمه، فهو كافر، و رجل يزعم أن الأمر مفوض إليهم، فهذا قد أوهن اللّه في سلطانة، فهو كافر.»- المروية في وسائل الشيعة: الباب 10 من حد المرتد الحديث: 5، 4، 10- الا انه لا يمكن الالتزام بمضمونها، لقيام السيرة- المظنون، أو المعلوم، استمرارها الى زمن المعصوم عليه السّلام على عدم اجتناب سئور المخالفين، و أكثرهم المجبرة، بل لعل غيرهم- كما قيل- قد انقرض في بعض الطبقات. فتنزل هذه الاخبار على بعض مراتب الكفر غير المنافية للإسلام. أو على ارادة الكفر الأخروي، أو على صورة الالتزام بلوازم مذهبهم، من إنكار الضروري.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 147‌

..........

______________________________
حكم المفوّضة و أما المفوّضة- و هم القائلون بتفويض الأمر إلى العباد، و استقلالهم في أفعالهم في قبال المجبّرة- فحكمهم حكم المجبّرة، فإن لم يلتزموا بلازم مذهبهم من الشرك باللّه تعالى، و النقص في سلطانه- كما هو كذلك فهم محكومون بالإسلام و الطهارة. و إن التزموا بذلك فيحكم بكفرهم و نجاستهم، فان هذه الطائفة إنما أرادت الفرار بذلك عما يلزم المجبّرة من إسناد الظلم إلى اللّه سبحانه و تعالى، لأن العقاب على غير المقدور ظلم، و لكنهم وقعوا في محذور آخر أشد، و هو جعل الشريك للّه تعالى، و الوهن في سلطانه، ففي كلّ من القولين محذور لا يمكن الالتزام به.

و من هنا ورد في روايات الأئمّة الأطهار عليهم السّلام ما لا محذور فيه أصلا، من نفي كلا القولين، و إثبات الأمر بين الأمرين، و أنه لا جبر و لا تفويض، بل منزلة بينهما «1». و ذلك: لأن للفعل إسنادين، إسناد إلى اللّه سبحانه و تعالى، و هو إسناد الإفاضة و الإقدار، و إسناد إلى العبد، و هو إسناد الصدور و الإيجاد، و كلتا النسبتين حقيقيتان لا مجاز في شي‌ء منها- كما فصلنا الكلام في ذلك في الأصول- و لنعم ما افاده شيخنا الأستاد «قده» في هذا المقام، من ان لهذه الأخبار الدلالة الواضحة على ولايتهم و إمامتهم، صلوات اللّه عليهم أجمعين، فإن الالتفات إلى هذه النكتة و الدقيقة الّتي يقرها العقل السليم، و الّتي يتحفظ بها على عدالته تعالى و سلطانه معا لا يكون إلّا‌

______________________________
(1) عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا جبر و لا تفويض، و لكن أمر بين أمرين.» و عنه عليه السّلام: انه سئل عن الجبر و القدر فقال. لا جبر و لا قدر، و لكن منزلة بينهما، فيها الحق التي بينهما، لا يعلمها الا العالم، أو من علمها إياه العالم». الوافي ج 1 ص 120 و نحوهما غير هما في نفس الباب.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 148‌

و القائلون بوحدة الوجود من الصوفية (1) إذا التزموا بأحكام الإسلام فالأقوى عدم نجاستهم

______________________________
عن منشإ إلهي. و قد ذكر المحقق الهمداني «قده» ان تصور هذه الدقيقة و الإذعان بها و إن كان صعبا لدي الالتفات التفصيلي، لكنه مغروس في أذهان عامة الناس.

فتحصّل: أن القول بالتفويض بمجرده لا يوجب الكفر و النجاسة. و أما ما في بعض الروايات «1»: من أن القائل بالجبر كافر، و القائل بالتفويض مشرك، فلا بد من تأويلها بإرادة بعض المراتب غير المنافية للإسلام، كشرك المرائي.

(1) حكم القائلين بوحدة الوجود الاحتمالات- أو الأقوال- في وحدة الوجود أربعة:

أحدها: و هو المسمّى عند الفلاسفة بالتوحيد العامي ان يقال بكثرة الوجود و الموجود، بمعنى أن يكون للوجود حقيقة واحدة، بحيث لا تعدد في أصل حقيقته، فيطلق على الواجب و الممكن على حدّ سواء، إلّا أن له مراتب مختلفة بالشدّة و الضعف، فالواجب في أعلى مراتب القوة و الشدّة، و الممكن في أدنى مراتب الضعف، و إن كان كلاهما موجودا حقيقة، و أحدهما خالق و الأخر مخلوق. و هذا القول لا يوجب الكفر و النجاسة، بل هو ما عليه أكثر الناس و عامتهم، بل مما اعتقده المسلمون، و أهل الكتاب و عليه ظاهر الآيات و الأدعية، كما ورد في بعضها: «أنت الخالق و أنا المخلوق، و أنت الربّ و أنا المربوب.» «2» إلى غير ذلك مما يدل على تعدد الواجب و‌

______________________________
(1) تقدم بعضها في تعليقة ص 146.

(2) كما في مناجات أمير المؤمنين عليه السّلام. و دعاء يستشير.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 149‌

..........

______________________________
الممكن وجودا.

ثانيها: و هو المسمّى عندهم بتوحيد خاص الخاص أن يقال بوحدة الوجود و الموجود في قبال القول الأوّل، أي ليس هناك إلّا موجود واحد، إلّا أن له أطوارا مختلفة، و شئونا متكثرة، فهو في السماء سماء، و في الأرض أرض، و في الخالق خالق، و في المخلوق مخلوق، و هكذا. و هذا القول نسبه صدر المتألهين إلى بعض جهلة الصوفيّة، حتّى قال: إنّه ليس في جبتي إلّا اللّه، و أنكر نسبته إلى أكابر الصوفيّة. و هذا القول مما لا يساعده العقل السليم، بل لا ينبغي صدوره عن عاقل و كيف يلتزم بوحدة الخالق و المخلوق، و يقال باختلافهما اعتبارا؟! إذ يلزمه القول بأن الواجب و النبي صلّى اللّه عليه و آله واحد غير أنهما يختلفان بالاعتبار، كما أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و أبو جهل- مثلا- كذلك. و هذا القول يوجب الكفر و الزندقة، لأنه إنكار للواجب حقيقة.

ثالثها: و هو توحيد خاصيّ أن يقال بوحدة الوجود و كثرة الموجود. و هو المنسوب إلى اذواق المتألهين، بزعمهم أنهم بلغوا أعلى مراتب التوحيد. و المراد به: ان الموجود بالوجود الاستقلالي و الحقيقي واحد، و هو الواجب سبحانه و تعالى، و إطلاق الموجود عليه إنما يكون من جهة أنه نفس مبدء الاشتقاق، انما التعدد في الموجود بالوجود الانتسابي، و هي الممكنات بأسرها، حيث أنها منتسبة إلى الموجود الحقيقي نحو انتساب، و ليست هي متصفة بالوجود حقيقة، لعدم قيام المبدء بها. فلا يكون إطلاق الموجود على الممكن نظير إطلاق العالم على زيد القائم به العلم حقيقة، بل ينسب إلى الموجود الحقيقي لقيام المبدء بغيره، كما في اللّابن و التامر. ضرورة عدم قيام اللّبن و التمر ببايعهما، غير أن البائع لما كان مسندا و مضافا إليهما نحو إسناد و إضافة من جهة كونه بايعا لهما صح إطلاق اللّابن و التامر على‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 150‌

..........

______________________________
بايعهما، فكذلك الحال في إطلاق الموجود على الممكن. و قد إختار هذا القول بعض الأكابر ممن عاصرناهم
«1».

و كان مصرا عليه أشدّ الإصرار. مستشهدا له بجملة من الآيات و الأخبار و قد أطلق عليه تعالى في بعض الأدعية «2» انه الموجود. و هذا القول و إن كان باطلا في نفسه، لابتنائه على أصالة الماهيّة المقر في محله بطلانها، إلّا أنه لا يوجب الكفر و النجاسة، لعدم كونه منافيا للتوحيد، أو إنكارا لضروريّ الدين.

رابعها: و هو توحيد أخص الخواص. أن يقال بوحدة الوجود و الموجود في عين كثرتهما. و هذا إن أريد به الاختلاف بحسب المرتبة، و ان الموجود الحقيقي واحد، و هو اللّه سبحانه و تعالى، و باقي الموجودات المتكثرة ظهورات نوره، و شئونات ذاته، لأنها رشحات وجودية ضعيفة منه تعالى و تقدس فهو راجع إلى القول الأول. و إن أريد به أن الوجود مع فرض وحدته الحقيقيّة متكثر و متعدد بحسب المصاديق من دون رجوعه إلى اختلاف المراتب، فانا لم نتصوره إلى الان، و لم نتحققه مع كمال الدقة و التأمل. و قد صاحبت بعض العرفاء و أردت منه توضيح هذه المقالة صحيحة كانت أو فاسدة فلم أ تحصل منه معنى معقولا، لأنه لا يخلو عن المناقضة.

و مع ذلك فقد اختاره و حققه صدر المتألهين، و نسبه إلى الأولياء و العرفاء من عظماء أهل الكشف و اليقين، مدّعيا: أن الان حصحص الحق، و اضمحلت الكثرة الوهميّة، و ارتفعت الأوهام. و لكن قد أشرنا إلى حقيقة الأمر في ذلك، و أنه على تقدير يرجع إلى القول الأوّل، و على التقدير الأخر‌

______________________________
(1) هو السيد احمد الكربلائي «قده».

(2) كما في دعاء المجير «سبحانك يا معبود. تعاليت يا موجود أجرنا من النار يا مجير.».

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 151‌

[ (مسألة 3): غير الاثنى عشرية من فرق الشيعة إذا لم يكونوا ناصبين و معادين]

(مسألة 3): غير الاثنى عشرية من فرق الشيعة إذا لم يكونوا ناصبين و معادين لسائر الأئمة و لا سابين لهم طاهرون (1)

______________________________
ليس له معنى محصل معقول. و كيف كان فهو لا يوجب الكفر، لعدم استلزامه إنكار الواجب تعالى و تقدس.

(1) حكم المخالفين. و باقي فرق الشيعة لا بأس بالتكلم في مقامين. الأوّل: في حكم المخالفين. الثاني: في حكم غير الاثني عشرية من فرق الشيعة.

أما الأوّل: فقد وقع الكلام فيه بين الأعلام في أن إنكار الولاية هل يكون كإنكار الرسالة موجبا للكفر و النجاسة، أو أنه لا يوجب إلّا الخروج عن الإيمان مع الحكم بإسلامه و طهارته؟

قال صاحب الحدائق «1» «قده»: «إن المشهور بين متأخري الأصحاب هو الحكم بإسلام المخالفين و طهارتهم، و خصّوا الكفر و النجاسة بالنواصب، كما أشرنا إليه في صدر الفصل. و هو عندهم من أظهر عداوة أهل البيت عليهم السّلام و المشهور في كلام أصحابنا المتقدمين هو الحكم بكفر هم و نصبهم و نجاستهم، و هو المؤيّد بالروايات الإمامية.».

و قد أصرّ هو «قده» على اختيار هذا القول أشدّ الإصرار، و نسبه إلى جمع من الأصحاب، كالسيّد المرتضى «قده» و غيره من الأعلام.

و ما يمكن أن يستدل به على كفرهم و نجاستهم وجوه ثلاثة:

الأول: الأخبار البالغة حد الاستفاضة أو التواتر، الدالّة على كفر المخالفين، و قد حكى أكثرها في الحدائق «2».

______________________________
(1) ج 5 ص 175 طبعة النجف الأشرف.

(2) ج 5 ص 181- 183 طبعة النجف الأشرف.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 152‌

..........

______________________________
منها: ما رواه في الكافي بسنده عن مولانا الباقر عليه السّلام قال: «إن اللّه عزّ و جلّ نصب عليّا عليه السّلام علما بينه و بين خلقه، فمن عرفه كان مؤمنا، و من أنكره كان كافرا، و من جهله كان ضالا، و من نصب معه شيئا كان مشركا، و من جاء بولايته دخل الجنّة»
«1».

و منها: ما رواه عن أبي حمزة قال: «سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول:

إن عليّا عليه السّلام باب فتحه اللّه عزّ و جلّ، فمن دخله كان مؤمنا، و من خرج منه كان كافرا، و من لم يدخل فيه و لم يخرج منه كان في الطبقة الّذين قال اللّه تبارك و تعالى فيهم المشيئة» «2». إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة.

هذا، و لكن يعارضها غير واحد من الروايات «3» الدّالة على تحقق الإسلام بمجرد الإقرار بالشهادتين- كما تقدم- «4» و أنهما تكفيان في تحقق الإسلام، و حقن الدماء، و التوارث، و جواز النكاح، و هي الّتي عليها أكثر الناس. فإذا لا بد من حمل الكفر في الأخبار المذكورة على أحد معنيين. إما الكفر الواقعي الّذي لا ينافي الإسلام الظاهري، بمعنى أنهم في حكم الكافر في الآخرة، و يعذبون بعذابهم من الخلود في النار. و إما الكفر في مقابل الإيمان. و‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة: الباب 10 من أبواب حد المرتد، الحديث: 48.

(2) الباب المتقدم، الحديث: 49.

(3) كموثق سماعة المتقدم ص 116- و نحوه صحيح حمران بن أعين عن ابى جعفر عليه السّلام قال: «سمعته يقول: الإيمان ما استقر في القلب، و أفضى به الى اللّه، و صدقه العمل بالطاعة للّه، و التسليم لأمر اللّه. و الإسلام ما ظهر من قول أو فعل، و هو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها، و به حقنت الدماء، و عليه جرت المواريث، و جاز النكاح، و اجتمعوا على الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج، فخرجوا بذلك من الكفر، و أضيفوا الى الايمان.».

و نحوهما غيرهما من الروايات المذكورة في الوافي ج 1 ص 18 م 3. باب ان الايمان أخص من الإسلام.

(4) في الصفحة 116، 122- 124.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 153‌

..........

______________________________
يشهد للثاني قرينة المقابلة بينهما- أي الإيمان و الكفر- في تلك الروايات فراجع.

إلّا أنه لا يبعد القول بإرادة المعنى الأوّل، بل هو الأظهر لما في الروايات الكثيرة، من أن الإسلام بني على خمس، و عدّ منها الولاية. «1»

بل في بعضها: أنه لم يناد أحد بشي‌ء منها كما نودي بالولاية. «2» فبانتفاء الولاية ينتفي الإسلام واقعا، و إن ثبت ظاهرا بمجرد الإقرار بالشهادتين، للأخبار المتقدمة.

على أن السيرة القطعية جارية على معاملة الأئمّة الأطهار و أصحابهم و شيعتهم مع المخالفين معاملة الطهارة في اللحوم المأخوذة منهم، و كذلك غيرها، من الجلود، و الجبن، و الألبان، و الأدهان، و غيرها من المائعات، و لم يسمع اجتنابهم عن شي‌ء من هذه الأشياء المأخوذة منهم.

يكون من أفراد النواصب.

و ذلك كما في مكاتبة محمّد بن عيسى قال: «كتبت إليه- يعنى علي بن محمّد عليه السّلام- أسأله عن الناصب، هل احتاج في امتحانه إلى أكثر من‌

______________________________
(1) كموثقة فضيل بن يسار عن أبي جعفر- ع-، قال: «بني الإسلام على خمس، على الصلاة، و الزكاة، و الحج، و الصوم، و الولاية.» وسائل الشيعة ج 1 ص 13 الباب 1 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث: 1. و نحوها غيرها من نفس الباب.

(2) عن أبي حمزة عن أبى جعفر عليه السّلام قال: «بني الإسلام على خمس، على الصلاة، و الزكاة، و الصوم، و الحج، و الولاية. و لم يناد بشي‌ء ما نودي بالولاية». الوسائل الباب المتقدم، الحديث:

10. و نحوها: ذيل رواية فضل المتقدمة، المقطعة في الوسائل، المروية في الكافي ج 2 ص 18 باب دعائم الإسلام، الحديث: 3. و تمامه: «و لم يناد بشي‌ء كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بأربع و تركوا هذه- يعني الولاية-» و نحوهما: الحديث 8 من نفس الباب ص 21.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 154‌

..........

______________________________
تقديمه الجبت و الطاغوت، و اعتقاده بإمامتهما!؟ فرجع الجواب: من كان على هذا فهو ناصب»
«1».

و رواية معلى بن خنيس قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت، لأنك لا تجد أحدا يقول: أنا أبغض آل محمّد، و لكن النّاصب من نصب لكم، و هو يعلم أنكم تتولونا، و تبرؤون من أعدائنا. و قال: من أشبع عدوا لنا فقد قتل وليّا لنا» «2».

و قريب منهما رواية عبد اللّه بن سنان «3».

أقول: إن رجع النصب للشيعة إلى النصب لأمير المؤمنين عليه السّلام و الأئمّة المعصومين عليهم السّلام- بان كان سبب العداوة مع الشيعة حبّهم لأهل البيت عليهم السّلام- كان ذلك من النصب الحقيقي، إذ هو عين النصب لهم عليهم السّلام. و أما إن كان النصب للشيعة فقط، مع عدم النصب لولاتهم، بل ربما يجتمع مع حبّ أهل البيت، و إنما كانوا يبغضون الشيعة لعدم متابعتهم لمن يرونه خليفة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلا دليل على نجاسة الناصبيّة بهذا المعنى و انما دليل النجاسة يختص بناصب أهل البيت، كما سبق «4» و لا يمكن‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 9 ص 19 الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث: 14. و هي ضعيفة لجهالة محمد بن أحمد بن زياد، و موسى بن محمد. و كذا صاحب المسائل، و هو محمد بن على بن عيسى.

(2) وسائل الشيعة ج 29 ص 132 الباب 68 من أبواب القصاص في النفس، الحديث:

2. و هي ضعيفة بمحمد بن على ماجيلويه، لعدم ثبوت وثاقته، و بمعلى بن خنيس، لتضعيف النجاشي له.

(3) وسائل الشيعة: الباب المتقدم، الحديث: 3، و هي ضعيفة بإبراهيم بن إسحاق، لعدم ثبوت وثاقته. أو تردده بين الثقة و غيره. و بعبد اللّه بن حماد، إذ ليس فيه الأقوال النجاشي: انه من شيوخ أصحابنا، و مجرد الشيخوخة في الإجازة لا يجدى في ثبوت العدالة أو الوثاقة بل لا يجدى في ثبوت الحسن كما نبه على ذلك السيد الأستاذ دام ظله في معجم رجال الحديث ج 1 ص 89.

(4) في الصفحة: 139- 140.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 155‌

..........

______________________________
التعدي عنها لما تقدم
«1» من الروايات الدالّة على طهارة من أقرّ بالشهادتين، و من السيرة القطعية على معاملة الطهارة مع المخالفين إذا لم يكونوا ناصبين لأهل البيت عليهم السّلام «2».

الوجه الثالث: أن المخالفين منكرون لضرورة الدين، لإنكارهم الولاية الثابتة بالضرورة، لما تواتر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله عند الفريقين، من إثبات الولاية لأهل البيت عليهم السّلام.

أقول: الولاية بمعنى المحبة و إن كانت ثابتة بالضرورة إلّا أن المخالفين لا ينكرونها، و أما الولاية بمعنى الخلافة و ولاية الأمر فهي من ضروريات المذهب لا من ضروريات الدين، لأن العامة يفسّرون ما ورد في ولاية علي عليه السّلام و أهل بيته بالحب دون الإمامة، و إنكار ضروريّ المذهب لا يوجب الكفر. و أمر الولاية و إن كان حقا واقعا لمن أمعن النظر، و تجنب عن التكلف و التعصب. لكن قد ذكرنا: أن إنكار الضروريّ لا يوجب الكفر إلّا مع الالتفات، و أكثرهم غير ملتفتين إلى ذلك نعم من كان منهم في صدر الإسلام، و سمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يدعو إلى زعامة علي عليه السّلام و أهل بيته، و إلى إمامتهم و متابعة الناس لهم، و علموا بذلك و أنكروه كانوا كفرة فجرة.

و من هنا ورد: في الأخبار «3» أنه ارتد الناس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلّا ثلاث أو أربع. و لكن مع ذلك كان يعامل معهم معاملة الطهارة و الإسلام، للاضطرار و التقية.

______________________________
(1) في الصفحة: 116، 122- 124.

(2) على أن الروايات المذكورة- أعني المفسرة للناصب بما ذكر- ضعيفة كما أشرنا.

(3) سفينة البحار ج 1 ص 517.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 156‌

..........

______________________________
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أنه لا دليل على نجاسة المخالفين، و ان كل ما قيل في وجه ذلك فهو ضعيف.

فرق الشيعة المقام الثاني في حكم فرق الشيعة غير الاثنى عشرية كالكيسانيّة «1». و الزيديّة «2»، و الفطحيّة «3»، و‌

______________________________
(1) و هي فرقة قالت بإمامة محمد بن الحنفية، لأنه صاحب راية أبيه يوم البصرة دون أخويه، فسموا «الكيسانية». و انما سموا بذلك لما قيل من أن المختار بن أبى عبيدة الثقفي كان رئيسهم، و كان يلقب بكيسان، و هو الذي طالب بدم الحسين بن على صلوات اللّه عليهما. و اختلف في وجه تسميته بكيسان، قيل: انما لقب به لان صاحب شرطته- المكنى بأبي عمرة- كان اسمه كيسان. و قيل: انه سمى بكيسان مولى على بن أبى طالب عليه السّلام، و هو الذي حمله على المطالبة بدم الحسين عليه السّلام، و دله على قتلته، و كان صاحب سره و مؤامرته و الغالب على أمره.

هذا و لكن لم يثبت عنه قول الكيسانية قط، بل الأصح صحة عقيدة المختار، و ما نسب اليه من الانحراف فهو من مفتعلات أعدائه تشويها لسمعته. و لعل وجه نسبة الكيسانية إليه هو ما رواه ابن نما من خروجه بإذن الإمام زين العابدين، و محمد بن الحنيفة، لا أنه كان يعتقد بإمامته، كما هو مذهب الكيسانية، فراجع: «كتاب فرق الشيعة المنسوب إلى النوبختي مع تعليقته ص 23، طبعة النجف الأشرف عام 1355. و تنقيح المقال للمامقانى ج 3 ص 203- 206 في حال المختار».

(2) و هم يقولون: ان من دعا الى اللّه عز و جل من آل محمد صلّى اللّه عليه و آله فهو امام مفترض الطاعة. و يقولون: كان على بن أبى طالب عليه السّلام إماما في وقت ما دعا الناس، و أظهر أمره ثم كان بعده الحسين عليه السّلام اماما، عند خروجه و قبل ذلك، إذ كان مجانبا لمعاوية و يزيد حتى قتل، ثم زيد بن على بن الحسين المقتول بالكوفة، ثم يحيى بن زيد بن على المقتول بخراسان، ثم عيسى بن زيد بن على، ثم محمد بن عبد اللّه بن الحسن الملقب بالنفس الزكية، ثم من دعا إلى طاعة اللّه من آل محمد صلّى اللّه عليه و آله فهو امام. و يسمون بالزيدية لانتسابهم الى زيد بن على بن الحسين عليه السّلام راجع «فرق الشيعة للنوبختى ص 58 طبعة النجف الأشرف عام 1355. و الأنوار النعمانية ج 2 ص 244 طبعة تبريز».

(3) و هم القائلون بإمامة عبد اللّه الأفطح ابن جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام لانه كان عند وفات الامام عليه السّلام أكبر ولده سنا، و جلس مجلس أبيه و ادعى الإمامة و وصية أبيه اليه.

و استدلوا بحديث يروونه عن أبى عبد اللّه عليه السّلام انه قال: «الإمامة في الأكبر من ولد الامام» فمال الناس الى عبد اللّه و القول بإمامته، الا من عرف الحق، فامتحنوا عبد اللّه بمسائل فلم يجدوا عنده علما. و قد رجع جماعة منهم في حياة عبد اللّه الى موسى بن جعفر عليهما السلام، ثم رجع عامتهم بعد وفاته عن القول به. و بقي بعضهم على القول بإمامته، ثم امامة موسى بن جعفر من بعده. و عاش عبد اللّه بن جعفر بعد أبيه سبعين يوما أو نحوه.

و انما سمى أصحابه بالفطحية لأن عبد اللّه كان أفطح الرأس أو أفطح الرجلين- أى عريضهما- راجع «فرق الشيعة للنوبختى ص 77. و الأنوار النعمانية ج 2 ص 254».

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 157‌

..........

______________________________
الإسماعيليّة
«1»، و الواقفية «2»، و غيرهم. و قد ظهر حكم هذه الفرق مما أسلفناه في المخالفين، من أن إنكار الولاية لا ينافي ثبوت الإسلام الظاهري و الطهارة، إذ لا فرق بين إنكار جميع الأئمّة أو بعضهم، كما ورد: أن من أنكر واحدا منهم كان بحكم إنكار جميعهم «3». و قد عرفت أن عمدة الوجه في الحكم بطهارة المخالفين‌

______________________________
(1) هي فرقة زعمت ان الامام بعد جعفر بن محمد عليه السّلام ابنه إسماعيل، و أنكرت موت إسماعيل في حياة أبيه. و قالوا كان ذلك على جهة التلبيس من أبيه على الناس، لانه خاف عليه فغيبه عنهم. و زعموا أن إسماعيل لا يموت حتى يملك الأرض يقوم بأمر الناس، و انه هو القائم. و منهم المباركية، و هم القائلون بإمامة محمد بن إسماعيل بعد أبيه. و الخطابية، و هم القائلون بنبوة أبي الخطاب.

راجع «فرق الشيعة للنوبختى ص 67- 69. و الأنوار النعمانية ج 2 ص 241.»

(2) هي فرقة زعمت انقطاع الإمامة بموسى بن جعفر عليه السّلام و لم يقولوا بإمامة من بعده، و لم يتجاوزوه الى غيره، و من ذلك سميت بالواقفة، لوقوفها على إمامته عليه السّلام دون من بعده.

و قالوا: ان الرضا عليه السّلام و من قام بعده ليسوا بأئمة. و لكنهم خلفاء واحدا بعد واحد، و على الناس القبول منهم، و الانتهاء إلى أمرهم. و قد زعموا: أن الامام موسى بن جعفر عليه السّلام هو القائم الذي يملأ الأرض قسطا و عدلا، فبعضهم قال بغيبته، و قال بعض آخر انه مات و لكنه يرجع في وقت قيامه راجع «فرق الشيعة للنوبختى ص 81. و الأنوار النعمانية ج 2 ص 254».

(3) كما في الروايات المروية في وسائل الشيعة: الباب 10 من أبواب حد المرتد، كرواية أبي خالد- في حديث- «من أبغضنا وردنا أورد واحدا منا فهو كافر باللّه و بآياته» الحديث: 29. و نحوه الحديث: 27، 33، 34، 38، 40 من نفس الباب.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 158‌

..........

______________________________
الأخبار الدالّة على كفاية الشهادتين في تحقق الإسلام، و السيرة على المعاملة معهم معاملة الطهارة، و الوجهان آتيان في باقي فرق الشيعة أيضا.

فتلخص: ان الصحيح هو الحكم بإسلام جميع الفرق المخالفة للإمامية- السنة و غيرهم- و طهارتهم، و ان كانوا بحكم الكفار في الآخرة. إلّا إذا انطبق عليهم أحد العناوين النجسة «1».

______________________________
(1) و هناك روايات دلت على ان الزيدية و الواقفية بمنزلة النصاب و قد اعتمد عليها صاحب الحدائق «قده»- في ج 5 ص 189 طبعة النجف الأشرف- في الحكم بنجاسة سائر الفرق من الشيعة لما بنى عليه من نجاسة المخالفين بضميمة ان من أنكر واحدا منهم كان كمن أنكر الجميع.

مثل ما رواه الكشي عن ابن أبى عمير عمن حدثه قال: «سألت محمد بن على الرضا عليه السّلام عن هذه الآية- وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة؟، قال: نزلت في النصاب و الزيدية و الواقفة من النصاب»- رجال الكشي طبعة دانشگاه مشهد ص 229 ح 411.

و ما وراه عن منصور عن الصادق على بن محمد بن الرضا عليه السّلام: «ان الزيدية و الواقفة و النصاب بمنزلة عنده سواء»- المصدر المتقدم ص 229 ح 410- و ما رواه عن عمر بن يزيد قال: «دخلت على أبى عبد اللّه عليه السّلام فحدثني مليا في فضائل الشيعة، ثم قال: ان من الشيعة بعدنا من هم شر من النصاب. فقلت: جعلت فداك، أ ليس ينتحلون حبكم و يتولونكم و يتبرأون من عدوكم؟ قال: نعم. قلت: جعلت فداك، بين لنا نعرفهم، فلعلنا منهم. قال: كلا يا عمر ما أنت منهم، انما هم قوم يفتنون بزيد، و يفتنون بموسى عليه السّلام» المصدر المتقدم ص 459 ح 869.

و ما رواه القطب الراوندي في كتاب الخرائج عن أحمد بن محمد بن مطهر قال: «كتب بعض أصحابنا الى أبى محمد عليه السّلام من أهل الجبل يسأله عمن وقف على أبى الحسن موسى عليه السّلام أتولاهم أم أتبرّأ منهم؟ فكتب: لا تترحم على عمك لا رحم اللّه عمك و تبرأ منه، أنا الى اللّه بري‌ء منهم فلا تتولهم، و لا تعد مرضاهم، و لا تشهد جنائزهم، وَ لٰا تُصَلِّ عَلىٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مٰاتَ أَبَداً، من جحد اماما من اللّه تعالى، أو زاد اماما ليست إمامته من اللّه كان كمن قال ان اللّه ثالث ثلاثة. ان الجاحد أمر آخرنا جاحد أمر أولنا.»- وسائل الشيعة: الباب 10 من أبواب حد المرتد الحديث: 40- و لا بد من حمل هذه الروايات على تنزيل الفرق الضالة من الشيعة منزلة النصاب أو الكفار في عذاب الآخرة، لما عرفت من دلالة الروايات الكثيرة على كفاية الإقرار بالشهادتين في الإسلام، و الطهارة، مضافا الى السيرة على طهارتهم. على أن هذه الروايات كلها ضعاف.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 159‌

و أما مع النصب، أو السب (1) للأئمة الذين لا يعتقدون بإمامتهم، فهم مثل سائر النواصب.

[ (مسألة 4): من شك في إسلامه و كفره طاهر]

(مسألة 4): من شك في إسلامه و كفره طاهر، و ان لم يجر عليه سائر أحكام الإسلام (2)

______________________________
(1) قد تقدم الدليل على نجاسة الناصب. و أما السابّ لهم عليهم السّلام فان كان عن نصب و عداوة فهو نجس، لكونه ناصبيّا حينئذ. و أما إذا لم يكن كذلك بل كان بداع آخر، سواء كان مواليا أو غير مبغض، فلا دليل على نجاسته. و إن وجب قتله، و وجوب القتل لا يلازم النجاسة، كما في مرتكب الكبيرة في المرة الثالثة أو الرابعة، و غيره. فالسب من حيث هو لا يوجب النجاسة.

(2) المشكوك إسلامه المشكوك كفره و إسلامه إذا كان مسبوقا بالإسلام و لو تبعا- كما إذا كان أحد أبويه أو كلاهما مسلما- استصحب إسلامه، لما ذكرنا سابقا من أن خروجه عن الإسلام- حينئذ- متوقف على الإنكار و الجحود، فما لم يعلم جحده فهو محكوم بالإسلام، و يترتب عليه آثاره، من الطهارة، و جواز النكاح، و الإرث و وجوب التجهيز، و غيرها. و إذا كان مسبوقا بالكفر- و لو تبعا- كما إذا كان متولدا من كافرين و شك في إسلامه استصحب كفره، لأن خروجه عن الكفر حينئذ يتوقف على الإقرار بالشهادتين- كما سبق- فما لم يعلم إقراره فهو محكوم بالكفر، و يترتب عليه آثاره، من النجاسة و غيرها.

و أما إذا لم تعلم حالته السابقة من الإسلام و الكفر- و لو التبعي- فلا يحكم بإسلامه و لا كفره. و أما بالنسبة إلى الأحكام فلا بد من التفصيل بين‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 160‌

..........

______________________________
الطهارة و غيرها من أحكام الإسلام، فيحكم بطهارته، لقاعدتها، لا لكونه مسلما. و أما سائر أحكام الإسلام، من الإرث، و جواز النكاح، و وجوب التجهيز، و نحوها فلا يجري في حقه، لعدم ثبوت موضوعها إذ لا دليل على إسلامه.

و قد يتوهم: أن مقتضى استصحاب عدم الإسلام ثبوت الكفر، بدعوى: ان التقابل بين الكفر و الإسلام تقابل العدم و الملكة، فالكفر عبارة عن عدم الإسلام ممن شأنه أن يكون مسلما، فإذا أحرز قابلية المحل بالوجدان لكونه بالغا عاقلا فقد أحرز تمام الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل.

و يندفع: بان الكفر و إن كان من قبيل العدم و الملكة، إلّا أنه ليس مركبا من أمرين، العدم و قابلية المحل- كما يوهمه ظاهر العبارة- حتّى يقال بان العدم يحرز باستصحابه أزلا، و قابلية المحل وجدانية فرضا و بهما يحرز تمام الموضوع بل المراد انه عدم خاص- و هو المقيد بقابلية المحل- و يكون من البسائط، و إنما يعبّر عنه بالعدم و الملكة لضيق التعبير، كما هو الحال في جميع ما كان من هذا القبيل، كالعمى، فإنه عبارة عن عدم البصر في المحل القابل، و المراد أنه عدم خاص يكشف عنه التعبير بالعدم و الملكة، لا أنه مركب منهما، كي يجري استصحاب عدم البصر أزلا، و بضمه إلى القابلية المحرزة بالوجدان يحكم بكونه أعمى.

و بالجملة: الكفر عبارة عن عدم خاص، فلا يجري استصحاب عدمه الأزلي، لعدم وجود حالة سابقة له حينئذ.

هذا إذا كان الكفر أمرا عدميا، و أما إذا قلنا بأنه أمر وجودي فاستصحاب عدم الإسلام لإثباته يكون من أوضح أنحاء الأصل المثبت.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 161‌

..........

______________________________
فتحصل: أن المشكوك إسلامه و كفره لا يكون محكوما بأحدهما، و لم يترتب عليه آثار شي‌ء منهما، سوى الطهارة، لقاعدتها، لا لكونه مسلما.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net