فصل في كيفية تنجس المتنجسات 

الكتاب : فقه الشيعة - كتاب الطهارة ج‌3   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 10521

فقه الشيعة - كتاب الطهارة؛ ج‌3، ص: 323

[فصل في كيفية تنجس المتنجسات]

______________________________
كيفية تنجس المتنجسات‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 324‌

..........

______________________________
اشتراط سراية النجاسة بالرطوبة.

ملاقاة ميت الإنسان. تنجس المائعات. عدم تنجس العالي بملاقاة السافل. كيفية تنجس الجوامد. تنجس المتنجس. تنجيس المتنجس. ملاقاة النجس في الباطن. فروع و تطبيقات.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 325‌

فصل في كيفية تنجس المتنجسات يشترط (1) في تنجس الملاقي للنجس أو المتنجس أن يكون فيهما أو في أحدهما رطوبة مسرية، فإذا كانا جافين لم ينجس.

______________________________
(1)
فصل في كيفية تنجس المتنجسات اشتراط السراية بالرطوبة المسرية يشترط في تنجس الملاقي للنجس أو المتنجس ان يكون فيهما أو في أحدهما رطوبة مسرية، فمع جفاف المتلاقيين لا تؤثر النجاسة.

و يدل على ذلك أمران:

الأول: الارتكاز العرفي على عدم السراية مع الجفاف، لان تنجس الشي‌ء عندهم عبارة عن انتقال النجس اليه، و لا انتقال الا مع الرطوبة المسرية.

الثاني: الأخبار الدالة على عدم السراية مع اليبوسة، ك‍:

حسنة محمّد بن مسلم- في حديث- «ان أبا جعفر عليه السّلام وطأ على عذرة يابسة، فأصاب ثوبه، فلما أخبره قال: أ ليس هي يابسة؟ فقال: بلى.

فقال: لا بأس» «1»، و ما عن:

عبد اللّه بن بكير قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يبول، و لا يكون عنده الماء، فيمسح ذكره بالحائط؟ قال: كل شي‌ء يابس زكى» «2»، و:

صحيح البقباق: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا أصاب ثوبك من‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 444 الباب: 26 من أبواب النجاسات، الحديث: 14.

(2) وسائل الشيعة ج 3 ص 351 الباب: 31 من أبواب أحكام الخلوة، الحديث: 5.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 326‌

..........

______________________________
الكلب رطوبة فاغسله، و إن مسّه جافا فاصبب عليه الماء.»
«1»

و نحوها غيرها من الروايات «2» الدالة على ذلك في موارد مختلفة غير ما ذكر، كالمني، و الخنزير، و الميتة.

هذا مضافا الى ظهور الروايات الإمرة بغسل ما اصابه النجس في انتقاله الى المتنجس، لان الغسل عبارة عن إزالة الأثر، و لا يتأثر المتنجس الا مع الرطوبة. و ذلك ك‍:

صحيحة محمّد بن مسلم قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الكلب يصيب شيئا من جسد الرجل؟ قال: تغسل المكان الذي اصابه» «3»، و:

حسنته قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الكلب السلوقي، فقال:

إذا مسسته فاغسل يدك» «4».

و نحوهما غيرهما «5».

فإن الأمر بغسل المكان أو اليد بإصابة الكلب يكون ظاهرا في تأثر الملاقي بالكسر- من الملاقي- بالفتح- و لا تأثر مع الجفاف.

و أما الروايات الدالة على نجاسة ملاقي النجس، أو المتنجس، من غير تقييدها بالرطوبة فهي على نوعين:

الأول: ما ورد في ملاقاة النجاسات المائعة، أو في ملاقاة الماء القليل مع النجاسات أو ملاقاة الماء المتنجس لغيره، و ذلك كالأخبار الإمرة بغسل‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 439 الباب: 26 من أبواب النجاسات، الحديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج 3 ص 441 الباب: 26 من أبواب النجاسات.

(3) وسائل الشيعة ج 3 ص 415 الباب: 12 من أبواب النجاسات، الحديث: 4.

(4) وسائل الشيعة ج 3 ص 416 الباب: 12 من أبواب النجاسات، الحديث: 9.

(5) في الباب المتقدم و غيره.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 327‌

و ان كان ملاقيا للميتة (1)، لكن الأحوط غسل ملاقي ميت الإنسان قبل الغسل و ان كانا جافين. و كذا لا ينجس إذا كان فيهما، أو في

______________________________
ما أصابه البول
«1» أو الدم «2» أو المني «3» و الاخبار الدالة على وجوب الاجتناب عن الماء القليل إذا أصابه نجس «4» و ما ورد فيه الأمر بغسل كل ما اصابه الماء المتنجس، كموثقة عمار «5». و الرطوبة في مثل هذه الاخبار مفروغ عنها لا محالة، و لا معنى للتقييد بها فيها، لانه لغو محض، فلا دلالة فيها على نفى اعتبار الرطوبة في السراية.

الثاني: ما ورد في ملاقاة النجاسات الجامدة، من دون تقييدها بما إذا كان في أحد المتلاقيين رطوبة، و ذلك كروايتي محمّد بن مسلم المتقدمتين «6» الواردتين في الكلب. و نحوهما غيرهما «7» مما ورد في ملاقاة الخنزير أو الميتة. و مقتضى إطلاقها و ان كان عدم اعتبار الرطوبة، الا انه لا بد من تقييدها بالارتكاز العرفي، أو بالروايات الدالة على اعتبارها. بل قد عرفت أن الأمر بالغسل بنفسه دال على اعتبار إزالة الأثر من المتنجس، و لا يكون ذلك الا مع الرطوبة.

(1) ملاقاة الميتة أو ميت الإنسان قد عرفت آنفا: أن مقتضى الارتكاز العرفي هو اعتبار الرطوبة‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 395 الباب: 1 من أبواب النجاسات.

(2) وسائل الشيعة ج 3 ص 429 الباب: 20 من أبواب النجاسات.

(3) وسائل الشيعة ج 3 ص 428 الباب: 19 من أبواب النجاسات.

(4) وسائل الشيعة ج 1 ص 180 الباب 8 من أبواب الماء المطلق.

(5) وسائل الشيعة ج 1 ص 142 الباب 4 من أبواب الماء المطلق، الحديث: 1.

(6) في الصفحة: 326.

(7) وسائل الشيعة ج 3 ص 416 الباب 12 من أبواب النجاسات، الحديث: 9.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 328‌

أحدهما، رطوبة غير مسرية (1).

______________________________
في سراية النجاسة، فتحمل الإطلاقات على ما هو المرتكز عندهم، و منها الإطلاقات الواردة في ملاقاة الميتة أو ميت الإنسان
«1». و ان ذهب بعضهم الى القول بوجوب الغسل مطلقا- مع الرطوبة، أو عدمها- في ميت الإنسان، أو غيره، كالعلامة في النهاية، ناسبا له إلى الأصحاب، كما تقدم الكلام في ذلك في بحث نجاسة الميتة في ذيل المسألة العاشرة من مسائلها «2»، فلا بد من تقييد رواياتها بما ذكر. أو الحمل على الاستحباب.

و احتاط المصنف هنا و في تلك المسألة، خصوصا في ميت الإنسان، لوجود القول بذلك لا سيما في الثاني، بل عن بعضهم: نسبته الى المعروف من المذهب، أو المشهور. فراجع ما ذكرناه هناك.

نعم لا إشكال في وجوب الغسل بمس ميت الأدمي قبل الغسل و بعد البرد، الا ان الكلام في المقام انما هو من حيث الخبث لا الحدث.

(1) الرطوبة غير المسرية الرطوبة التي يعتبر وجودها في السّراية انما هي الرطوبة المسرية، و هي ما تستقل بالوجود بحيث تحمل النجاسة من جسم الى آخر، و أما الرطوبة غير المسرية، المعبّر عنها بالنداوة، فهي بنظر العرف ليست من الأجسام القابلة للانتقال و ان سرت بنفسها من جسم الى آخر، فإنها في نظرهم من الاعراض المنتقلة كالالوان، و هي ليست من النجس، و لا موجبة لانتقال النجس إلى ملاقيه، و ان كانت بحسب الدقة الفلسفية جسما أيضا،

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 461 الباب: 34 من أبواب النجاسات، كالحديث: 3، 2، 1.

(2) راجع الجزء الثاني من كتابنا ص 452.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 329‌

ثم ان كان الملاقي للنجس أو المتنجس مائعا تنجس كله (1)، كالماء القليل، و المضاف مطلقا، و الدهن المائع، و نحوه من المائعات. نعم لا ينجس العالي بملاقاة السافل، كالفوارة.

______________________________
لاستحالة انتقال العرض بلا محل، حتى في مثل صبغ الأجسام بالألوان فإن العرف يرون انتقال اللون من جسم الى آخر- كانتقال لون الحناء الى اليد- ممكنا، الا انه بحسب الدقة و البرهان العقلي يستحيل ذلك بدون انتقال الأجسام الصغار الحاملة للألوان الى جسم آخر.

و عليه فلو وضع شي‌ء- كالملح و الفرش- في محل متنجس مرطوب- كالسرداب و نحوه- فانتقلت الرطوبة منه الى ذاك الشي‌ء لم يحكم بنجاسته. كما ان المصبوغ بالحناء المتنجس أو بالدم بعد زوال عينه محكوم بالطهارة.

و بالجملة: الرطوبة اما مسرية للنجاسة الى ملاقيها و اما سارية بنفسها، و الاولى توجب انتقال النجاسة، دون الثانية، لأنها تحمل النجاسة في نظر العرف، فإنها في نظرهم من قبيل الاعراض لا الأجسام: و يقابل الاولى الجفاف، كما انه يقابل الثانية اليبوسة.

(1) تنجس المائعات الملاقي للنجس قد يكون مائعا، و اخرى يكون جامدا، و المائع قد يكون ماء مطلقا، و أخرى غيره، سواء أ كان ماء مضافا أم غيره، كالدهن المائع، و الزيت.

اما الماء فينجس كله بملاقاة النجس إذا كان أقل من الكر، سواء فيه موضع الملاقاة و غيره، و سواء فيه السطح العالي و السافل، لصدق الوحدة في جميع ذلك. إلا إذا كان هناك جريان و دفع من العالي أو السافل كالماء‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 330‌

..........

______________________________
المنصب من الإبريق على اليد النجسة، و الفوارة، فإنه لا ينجس العالي- في الأول- بملاقاة السافل، و لا ينجس السافل- في الثاني- بملاقاة العالي، لتعدد الماء في نظر العرف حينئذ، كما تقدم تفصيله في بحث المياه
«1». و منه يظهر الحال في غيره من المائعات، فيحكم بنجاسة كله بالملاقاة، سواء فيه الماء المضاف و غيره، كان بمقدار الكر أو أقل، لصدق الوحدة في جميع ذلك! و الاعتصام بالكرية انما يختص بالماء المطلق دون غيره. و قد تقدم الكلام في ذلك في بحث المياه «2» ايضا. و ما ذكرناه من عدم الانفعال في صورة الدفع و الجريان مما لا يفرق فيه بين الماء و غيره من المائعات- كما أشار إليه في المتن- لوحدة الملاك في الجميع.

تنجس الجوامد و أما إذا كان الملاقي للنجس جامدا- كالثوب، و الأرض، و نحوهما- فلا يتنجس الا موضع الملاقاة منه، سواء أ كان باقي الجسم جافا، أم مرطوبا برطوبة سارية أو مسرية. اما في الأولين فواضح، لاختصاص الملاقاة بموضع خاص، و لا موجب لسراية النجاسة منه الى مجاورة، و ان كان فيه رطوبة سارية- اى النداوة- لما عرفت من عدم كفايتها لنقل النجاسة و لو مع الملاقاة للنجس، فمقتضى القاعدة بقاء غير موضع الملاقاة على طهارته، و اختصاص النجاسة بموضعها.

على ان المستفاد من النصوص ذلك ايضا، ك‍:

صحيحة زرارة قال: «قلت أصاب ثوبي دم رعاف، أو غيره، أو‌

______________________________
(1) في الجزء الأول في القسم الثاني ص 41.

(2) في الجزء الأول في القسم الثاني ص 38.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 331‌

من غير فرق في ذلك بين الماء و غيره من المائعات و ان كان الملاقي جامدا اختصت النجاسة بموضع الملاقاة سواء كان يابسا- كالثوب اليابس إذا لاقت النجاسة جزأ منه- أو رطبا- كما في الثوب المرطوب، أو الأرض المرطوبة- فإنه إذا وصلت النجاسة إلى جزء من الأرض أو الثوب لا يتنجس ما يتصل به، و ان كان فيه رطوبة مسرية، بل النجاسة مختصة بموضع الملاقاة. و من هذا القبيل الدهن و الدبس الجامدان. نعم لو انفصل ذلك الجزء المجاور ثم اتصل تنجس موضع الملاقاة منه، فالاتصال قبل الملاقاة لا يؤثر في النجاسة و السراية، بخلاف الاتصال بعد الملاقاة. و على ما ذكر فالبطيخ و الخيار و نحوهما مما فيه رطوبة مسرية إذا لاقت النجاسة جزأ منها لا تتنجس البقية، بل يكفي غسل موضع الملاقاة. إلا إذا انفصل بعد الملاقاة ثم اتصل.

______________________________
شي‌ء من مني الى ان قلت: فانى قد علمت انه قد أصابه، و لم أدر أين هو فاغسله. قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى انه قد أصابها.»
«1».

فإنها تدل على وجوب غسل خصوص الناحية التي أصابها الدم، أو المني، دون غيرها، و هذا ظاهر.

و أما في الثالث، أعنى ما إذا كان في الجسم رطوبة مسرية- كالأرض الممطورة أو البطيخ و الخيار و نحو هما مما فيه رطوبة مسرية- فهل تسرى النجاسة من موضع الملاقاة إلى غيره من اجزاء الجسم أم لا؟

قد يتوهم ذلك، نظرا الى اتصال اجزائه، و رطوبتها، فإذا تنجس جزء منه تنجس جزؤه المتصل به بملاقاته معه، و هو يلاقي الجزء الثالث المتصل به فينجسه، و هكذا الى تمام الأجزاء.

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 402 الباب: 7 من أبواب النجاسات، الحديث: 2. و نحوها غيرها من نفس الباب.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 332‌

..........

______________________________
و يندفع: بان المستفاد من الروايات ان موضوع التنجس في غير المائعات انما هو الإصابة و الملاقاة مع النجس، و لا إصابة و لا ملاقاة إلا مع بعض الجامد، و اما اتصال الأجزاء الأخر بهذا البعض الحاصل قبل الملاقاة فلا يكفي في السراية، لعدم شمول الأدلة له، بل قام الدليل على عدمها، و هي الروايات الواردة في إصابة السمن و الزيت، و العسل
«1» إذا كانت جامدة، الدالة على اختصاص النجاسة بموضع الملاقاة منها لا غير، مع ان في بعض مراتب الجمود رطوبة مسرية.

هذا مضافا الى انه لو كان الاتصال الحاصل قبل الملاقاة موجبا لسراية النجاسة مع وجود الرطوبة المسرية للزم الحكم بنجاسة جميع الراضي البلد الواحد المبتلة بنزول المطر، بمجرد ملاقاة جزء منها للنجاسة، و هذا مقطوع البطلان. هذا كله في الاتصال قبل الملاقاة. و أما الاتصال بعدها، كما لو انفصل جزء من الجسم المتنجس بعضه ثم اتصل به ثانيا- كالأمثلة المذكورة في المتن- فإنه يوجب تنجس موضع الملاقاة منه مع الجزء المتنجس أولا، لوجود الرطوبة المسرية على الفرض، و صدق الإصابة و الملاقاة في هذا الفرض، دون الفرض السابق. و الفارق بين الموردين- في تطبيق موضوع النجاسة على أحدهما دون الأخر- هو العرف. نعم لو كان الجسم مائعا- كالماء و نحوه- يتنجس جميعه بملاقاة بعضه، لصدق الوحدة في المائعات، فهو ماء واحد، أو دهن واحد- مثلا- فملاقاة بعضه مع النجاسة يساوق ملاقاة الكل.

______________________________
(1) الوسائل: الباب: 43 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث: 2. و نحوها غيرها من نفس الباب.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 333‌

[مسألة 1: إذا شك في رطوبة أحد المتلاقيين]

«مسألة 1»: إذا شك في رطوبة أحد المتلاقيين، أو علم وجودها و شك في سرايتها، لم يحكم بالنجاسة (1) و أما إذا علم سبق وجود المسرية، و شك في بقائها فالأحوط الاجتناب، و ان كان الحكم بعدم النجاسة لا يخلو عن وجه «1» (2).

______________________________
(1) للشك في تحقق شرطها- و هو وجود الرطوبة المسرية- فيرجع إلى قاعدة الطهارة، كما هو الحال فيما إذا شك في أصل الملاقاة.

(2) إذا علم سبق وجود رطوبة مسرية و شك في بقائها، فقد يتوهم:

لزوم الحكم بالنجاسة، بمقتضى استصحاب الرطوبة المسرية، إذ به يحرز شرط التنجس، و يتم موضوعه بضم الوجدان الى الأصل، لأن الملاقاة محرزة بالوجدان، و الرطوبة المسرية تحرز بالأصل.

و يندفع بأنه لو كان موضوع التنجس مجرد ملاقاة الشي‌ء مع النجس أو المتنجس، حال رطوبتهما، أو رطوبة أحدهما، لتم ما ذكر، لإحراز تمام الموضوع، بضم الوجدان الى الأصل، كما ذكرنا و أما إذا كان موضوعه السراية الخارجية فلا يصح الحكم بالنجاسة، لأن استصحاب الرطوبة لا يثبت تحقق السراية الفعلية من النجس إلى ملاقيه، الا على القول بالأصل المثبت، و لا نقول به. و الثاني هو الأظهر لأنه المستفاد من الأدلة بمقتضى الارتكاز العرفي، فإن العرف لا يرون أن مجرد الملاقاة مع النجس كاف في تنجس الملاقي، ما لم تسر منه الى ملاقيه، و ينفعل به، و يتأثر بأثره، و لذلك اعتبرنا الرطوبة المسرية في التنجس و قد أشرنا في التعليقة إلى أن الأظهر هو الحكم بعدم النجاسة. و بذلك يظهر ان الحكم بالاحتياط في المتن يكون‌

______________________________
(1) و في تعليقته- دام ظله- على قول المصنف «قده»: «لا يخلو عن وجه»: هذا الوجه هو الأظهر.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 334‌

[مسألة 2: الذباب الواقع على النجس الرطب]

«مسألة 2»: الذباب الواقع على النجس الرطب إذا وقع على ثوب أو بدن شخص، و ان كان فيهما رطوبة مسرية لا يحكم بنجاسته (1) إذا لم يعلم مصاحبته لعين النجس. و مجرد وقوعه لا يستلزم نجاسة رجله، لاحتمال كونها مما لا تقبلها، و على فرضه فزوال العين يكفي في طهارة الحيوانات.

______________________________
استحبابيا.

(1) عدم النجاسة بملاقاة الذباب الواقع على النجس لقاعدة الطهارة لعدم العلم بمصاحبة الذباب لعين النجس. و أما رجله و ان وقع على النجس الرطب- كالعذرة و نحوها- الا انها محكومة بالطهارة، إما لاحتمال عدم انفعالها بملاقاة النجس، لاحتمال كونها مما لا يقبلها- كما قيل بذلك في الزيبق و نحوه- و إما من جهة ان زوال العين يكفي في طهارة بدن الحيوان و ان تأثر بالملاقاة. هذا لو علم بزوال العين، و أما لو شك في زوالها مع سبق العلم بالتلوث بالنجاسة فلم يتعرض له المصنف «قده».

و تفصيل الحال في المقام أن يقال: ان الشك في تنجس ملاقي رجل الذباب الواقع على النجس قد يكون من جهة الشك في بقاء الرطوبة المسرية في رجله، و فيه لا يحكم بنجاسة الملاقي، لما عرفت في المسألة السابقة من ان استصحاب الرطوبة لا يثبت السراية الفعلية و هذا من دون فرق بين القول بتنجس بدن الحيوان و طهارته بزوال عين النجاسة، أو القول بعدم تنجسه رأسا، و بين العلم ببقاء عين النجس على رجله، أو العلم بعدمه، أو عدم العلم بهما، لأن السراية تكون شرطا للتنجس على جميع التقادير، و مع الشك فيها لا يحكم بالنجاسة، لقصور الاستصحاب عن إثباتها.

و قد يكون من جهة الشك في بقاء عين النجس على رجل مثل الذباب، مع العلم بوجود الرطوبة المسرية في أحد المتلاقيين، كما إذا وقع‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 335‌

..........

______________________________
الذباب على الماء، أو الثوب المرطوب برطوبة مسرية، و الكلام في هذه الصورة يكون- تارة- بلحاظ القاعدة الأولية- و أخرى- بلحاظ الروايات الواردة فيها.

أما القاعدة الأولية فمقتضاها التفصيل بين القول بعدم تنجس بدن الحيوان رأسا، و بين القول بتنجسه و طهارته بزوال العين، إذ على الأول لا بد من الحكم بالطهارة لقاعدتها، و استصحاب عين النجس لا يثبت ملاقاتها مع الثوب إلا على القول بالأصل المثبت، فان التنجس من آثار الملاقاة مع النجس دون أصل وجوده، و الملاقاة مع رجل الذباب و إن كانت محرزة بالوجدان إلا انه لا أثر لها، لان المفروض عدم تنجسها بملاقاة النجس، و ماله الأثر- و هي الملاقاة مع عين النجس- غير ثابتة. و أما على الثاني، و هو القول بنجاسة بدن الحيوان و طهارته بزوال العين- كما هو الأقوى لعموم أدلة الانفعال. و قيام السيرة على الاكتفاء بزوال العين في الحكم بطهارته، إذ من المقطوع به ملاقاة بدن الحيوان مع النجس و لو مرة واحدة، و لا أقل من دم الولادة، و مع ذلك لم يعهد الالتزام بغسله بالماء من أحد من المتشرعة، بل يكتفون بزوال عين النجاسة عن بدنه، و على ذلك جرت السيرة، و قد أمضاها الشارع. و سيأتي الكلام في ذلك في المطهّرات ان شاء اللّه تعالى- فالصحيح هو الحكم بنجاسة الملاقي مع العلم بوجود الرطوبة المسرية- كما هو المفروض- لاستصحاب نجاسة الرجل و لو كان لأجل الشك في زوال العين عنها. و بعبارة واضحة: ان موضوع السراية هي الملاقاة مع النجس، و الجزء الأول محرز بالوجدان، و الثاني بالأصل، و بذلك يتم الموضوع، هذا هو المعروف بين الأصحاب.

و لكن ربما يقال: بعدم جريان استصحاب النجاسة على هذا القول‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 336‌

..........

______________________________
أيضا، و ذلك لعدم ترتب أثر على المستصحب، و معه لا يجري الأصل العملي.

بيان ذلك: ان نجاسة رجل الذباب- مثلا- لا أثر لها في الفرض كي تستصحب، ضرورة عدم الحكم بنجاسة بدن الحيوان الا مع بقاء عين النجس عليه، فإذا لا يعقل ملاقاة شي‌ء لبدن الحيوان إلا و قد لاقى عين النجس قبله و لو آنا ما، فيستند نجاسته إلى ملاقاة عين النجس دون بدن الحيوان، إذ مع تعدد العلل. و اختلافها في الزمان يكون الأثر للسابق مستقلا، و المتنجس لا يتنجس ثانيا، فلا أثر لنجاسة العضو نفسه كي يجري الاستصحاب لإثباتها.

و الجواب عن ذلك: انه إن أريد بعدم ترتب أثر على نجاسة عضو الحيوان انه لا أثر لها في تنجس الملاقي في صورة العلم بوجود العين على العضو. ففيه: ان النجاسة بنفسها من الأحكام الشرعيّة القابلة للجعل من دون توقف صحة جعلها على تأثيرها في الملاقي، نعم لا بد و ان لا يكون لغوا، و يكفي في رفع اللغوية ترتب أحكام أخر عليها كحرمة الأكل، و البيع- بناء على حرمة بيع النجس- و غير ذلك من أحكام النجاسات، فإذا صح الجعل بذلك حدوثا صح استصحابها ليترتب عليه الحكم بنجاسة الملاقي بقاء، لما هو الحق من كفاية ترتب الأثر بقاء في جريان الاستصحاب، تبعا لصاحب الكفاية «قده».

و الحاصل: ان نجاسة الملاقي و ان لم تكن من آثار حدوث نجاسة عضو الحيوان الا انها تكون من آثار التعبد ببقائها في صورة الشك في زوال العين.

و إن أريد بذلك ان نجاسة الملاقي لا تكون من آثار نجاسة العضو حتى بقاء، فلا يمكن إثباتها باستصحاب نجاسة العضو، لان العين إذا كانت باقية‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 337‌

..........

______________________________
فنجاسة الملاقي تستند الى ملاقاتها، و ان لم تكن باقية فالعضو يكون طاهرا، و لا أثر لملاقاته. و بالجملة: انا نعلم وجدانا بعدم تأثير الملاقاة مع العضو في نجاسة الملاقي، فكيف يمكن الحكم به تعبدا؟

و الجواب عن ذلك: ان النجاسة الواقعية في الملاقي و ان كانت كذلك، اى انه لا تأثير لملاقاة العضو فيها- كما ذكر- الا ان النجاسة الظاهرية تكون من آثار نجاسته بقاء، و ثابتة بثبوتها له تعبدا، لتمامية موضوعها بضم الوجدان الى الأصل.

بيان ذلك: ان ترتب الحكم الشرعي على موضوعه ليس من باب ترتب المعلول على علته كي يجري فيه قانون العلية، و يلحظ فيه سبق التأثير، فإنها اعتبارات خاصة لا تنشأ إلا من ارادة من بيده الاعتبار، و لا تأثير للتكوينيّات فيها بوجه و عليه فلا مانع من الحكم بالنجاسة الظاهرية للملاقي من أجل استصحاب نجاسة عضو الحيوان، لتماميّة موضوعه- و هي الملاقاة مع النجس- بضم الوجدان الى الأصل، و العلم بسبق النجاسة الواقعية على تقدير بقاء العين لا يمنع من الحكم بالنجاسة الفعلية الظاهرية، كما لا يخفى.

و نظير المقام ما إذا علمنا بنجاسة شي‌ء بخصوصه، و بطهارة آخر كذلك، ثم علمنا إجمالا بطهارة النجس أو نجاسة الطاهر، و عدم بقائهما- معا- على ما كانا عليه، فإنه لا إشكال في جريان استصحاب الحالة السابقة في كل منهما، و نتيجة ذلك هو الحكم بنجاسة مستصحب الطهارة إذا لاقى مستصحب النجاسة، مع انا نعلم وجدانا بعدم تأثير هذه الملاقاة واقعا، للعلم الإجمالي إما بنجاسة الملاقي أو طهارة الملاقي الا ان ذلك لا يمنع من الحكم بتأثيرها ظاهرا في تنجس مستصحب الطهارة، فلاحظ.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 338‌

..........

______________________________
فتحصل من جميع ما ذكرنا: انه لو شك في زوال عين النجس عن مثل الذباب لزم التفصيل بين القول بعدم انفعال بدن الحيوان بملاقاة النجس، و بين القول بانفعاله به، فعلى الأول لا يجرى استصحاب النجاسة، بخلاف الثاني، و حيث ان الثاني هو الحق عندنا فلا بد من الحكم بنجاسة الملاقي في هذه الصورة. هذا كله ما تقتضيه القاعدة الأولية.

و أما بالنظر الى الروايات الواردة في هذا المقام فلا بد من الحكم بطهارة الملاقي مطلقا و لو كان الشك من جهة زوال العين، و قلنا بنجاسة بدن الحيوان، ك‍:

موثقة عمار عن أبى عبد اللّه عليه السّلام- في حديث- قال: «كل شي‌ء من الطير يتوضأ مما يشرب منه، إلا أن ترى في منقاره دما فلا تتوضأ منه و لا تشرب» «1».

و صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام قال: «سألته عن الدّود يقع من الكنيف على الثّوب، أ يصلّى فيه؟ قال: لا بأس، إلا ان ترى فيه أثرا فتغسله» «2».

فإنهما تدلان على طهارة ملاقي منقار الطير، و دود الكنيف، الا مع رؤية النجاسة عليهما، فمع عدمها لا يحكم بالنجاسة مطلقا، كان مع سبق العلم بالتلوث أو عدمه. بل الغالب في موردهما سبق العلم به، لا سيما في الثاني. و ظاهر الرؤية- بعد إلغاء خصوصية الرؤية بالبصر جزما- هو العلم الوجداني، فلا يقوم مقامه الاستصحاب لقيامه مقام العلم الطريقي دون ما إذا أخذ على نحو الصفتية، كما هو ظاهر الروايتين. بل قرينة المورد فيهما تمنع عن‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 527 الباب: 82 من أبواب النجاسات، الحديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج 3 ص 526 الباب: 80 من أبواب النجاسات، الحديث: 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 339‌

..........

______________________________
التعميم، و الا لزم حملهما على الفرد النادر، لقلة مورد لم يعلم بسبق ملاقاة منقار جوارح الطيور لدم الميتة، أو لم يعلم سبق تلوث دود الكنيف بالنجاسة
«1».

نعم لو قلنا بان المراد من الرؤية هو العلم الكاشف، اى الملحوظ على نحو الطريقية المحضة، كما في قاعدتي الحل، و الطهارة، فإن المراد من العلم في قوله عليه السّلام: «كل ما كان فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه» «2»، و قوله عليه السّلام: «كل شي‌ء نظيف حتى تعلم انه قذر.» «3» هو العلم الطريقي، مؤيدا ذلك بما ورد في بعض روايات المقام، من قوله عليه السّلام: و ان لم يعلم أن في منقارها قذرا توضأ منه و اشرب» «4»، فيقوم مقامه الاستصحاب لزم الحكم بالنجاسة على كلا القولين، أى من دون فرق بين القول بتنجس بدن الحيوان أو عدمه، لان المستفاد من الروايتين هو ان موضوع النجاسة مجرد ملاقاة الشي‌ء لبدن الحيوان، بشرط العلم بوجود النجاسة عليه، فإذا علم بسبق وجود النجس على بدنه يستصحب، و به يتم موضوع النجاسة بضم الوجدان الى الأصل و لا يكون الأصل مثبتا حينئذ، إذ ليس الموضوع- على هذا- ملاقاة النجس كي يقال بان استصحابه لا يثبتها لان المستفاد من قوله عليه السّلام: «فإن رأيت في منقاره دما فلا تتوضأ منه و لا تشرب» ان مجرد العلم بوجود الدم على‌

______________________________
(1) و من هنا ذكر- دام ظله- في تعليقته على قول المصنف «قده»:- فزوال العين يكفي»- «لا تبعد كفاية احتمال الزوال أيضا، لا طلاق النص» فان المراد من النص هو ما ذكرناه من الروايتين، فإن إطلاقهما يعم مستصحب النجاسة، كما ذكرنا في الشرح.

(2) وسائل الشيعة: الباب: 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث: 1، 7.

(3) وسائل الشيعة: ج 3 ص 467 الباب: 37 من أبواب النجاسات، الحديث: 4.

(4) وسائل الشيعة ج 1 ص 231 الباب: 4 من أبواب الأسئار، الحديث: 3.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 340‌

[مسألة 3: إذا وقع بعر الفأرة في الدهن أو الدبس الجامدين]

«مسألة 3»: إذا وقع بعر الفأرة في الدهن أو الدبس الجامدين يكفي القاءه و إلقاء ما حوله، و لا يجب الاجتناب عن البقية (1). و كذا إذا مشى الكلب على الطين، فإنه لا يحكم بنجاسة غير موضع رجله، إلا إذا كان وحلا.

______________________________
منقار الطير كاف في الحكم بنجاسة ما شرب منه، و الملاقاة محرزة بالوجدان، و وجود النجس على بدنه بالأصل.

هذا، و لكن الأظهر- كما ذكرنا- أن الرؤية ملحوظة على نحو الصفتيّة، بمعنى العلم الوجداني، فلا يجرى الاستصحاب مطلقا، حتى على القول بتنجس بدن الحيوان. فالأقوى طهارة الملاقي مطلقا، كما في المتن.

(1) بعد ان ذكر «قده»- في أول الفصل- حكم الجامد و المائع في التنجس بالملاقاة على الوجه الكلى تعرض لخصوص بعض الموارد، لورود النص فيها بالخصوص كما في السمن، و الزيت، و العسل، فقد ورد فيها روايات كثيرة «1» بتعابير مختلفة، ففي بعضها: التفصيل بين الشتاء و الصيف، و هو إشارة إلى الجمود و الميعان و في بعضها: التفصيل بين الذائب و الجامد، و في بعضها: التفصيل بين السمن و العسل و بين الزيت، فإنه يكون ذائبا دائما، بخلاف السمن و العسل.

أما الأول: فكصحيح الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفأرة، و الدابّة تقع في الطعام، و الشراب، فتموت فيه. فقال: إن كان سمنا، أو عسلا، أو زيتا فإنّه ربما يكون بعض هذا، فان كان الشتاء فانزع ما حوله، و كله. و ان كان الصيف فارفعه حتى تسرج به، و ان كان بردا فاطرح الذي‌

______________________________
(1) و هي تبلغ ثلاثة عشر رواية- كما نبه على ذلك دام ظله- ستة منها مروية في الوسائل: ج 17 ص 97، الباب: 6 من أبواب ما يكتسب به. و سبعة في ج 17 ص 461، الباب: 43 من أبواب الأطعمة المحرمة.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 341‌

..........

______________________________
كان عليه، و لا تترك طعامك من أجل دابّة ماتت عليه»
«1».

و لا إشكال في أن التعبير بالشتاء كناية عن الجمود. مضافا الى قرينية قوله عليه السّلام «فانزع ما حوله» على ذلك فان النزع عبارة عن القلع، و لا يكون ذلك إلا في الجامد. ثم ان في بعض النسخ المصححة: «ثردا» بالثاء المثلثة بدل: «بردا» و الظاهر انه هو الأصح، لأنه على تقدير كونه بالباء يكون تكرارا للسابق من دون وجه حسن. و الثرد هو الثريد من الخبز في ماء اللحم و نحوه، و هو في حكم الجامد من جهة عدم سراية النجاسة من الملاقي الى جميع الطعام، لعدم الميعان الموجب لها.

و أما الثاني فكحسنة زرارة عن أبى جعفر عليه السّلام قال: «إذا وقعت الفأرة في السّمن فماتت فيه، فان كان جامدا فألقها و ما يليها و كل ما بقي، و ان كان ذائبا فلا تأكله و استصبح به. و الزيت مثل ذلك» «2».

و أما الثالث فكصحيح معاوية بن وهب عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت: جرذ مات في زيت، أو سمن، أو عسل. فقال: أما السّمن و العسل فيؤخذ الجرذ و ما حوله، و الزيت يستصبح به» «3».

وجه التفصيل بين السّمن و العسل و بين الزّيت انما هو حصول الذوبان في الزّيت دائما دون السّمن و العسل، فإنهما قد ينجمدان و لا يتنجس إلا موضع الملاقاة منهما إذا الظاهر أنّ المراد من الزّيت عند الإطلاق انما هو‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة: الباب 43 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث: 3. و قد أسندها شيخنا الأنصاري «قده» في المكاسب الى سعيد الأعرج، و هو سهو، كما نبه عليه دام ظله هناك و في المقام. و لعل منشأ السهو هو وقوع نظره «قده» على الرواية التي ذكرت بعد هذه الرواية في نفس الباب.

فلاحظ.

(2) الوسائل في الباب المتقدم، الحديث: 2.

(3) الوسائل: ج 17 ص 97، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 342‌

و المناط في الجمود و الميعان (1) أنه لو أخذ منه شي‌ء، فان بقي

______________________________
الزيت المتخذ من الزيتون، و ان أريد به غيره يضاف الى المتخذ منه و يقيده به، كزيت اللوز و الجوز و غيرهما، كما هو الحال في لفظ الماء، فإنه عند الإطلاق ينصرف إلى الماء المطلق، و عند التقييد يراد به غيره، كماء الرمان، و ماء الورد و نحوهما، من دون استلزامه التجوز، كما تقدم تفصيله في محله. فلا تكون الصحيحة تفصيلا بين الزيت و غيره الا من جهة أن المتخذ من الزيتون مائع دائما حتى في الشتاء و ان كان هو في الصيف أرقّ. و أصرح من ذلك في الدلالة على المطلوب:

رواية إسماعيل بن عبد الخالق عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «سأله سعيد الأعرج السّمان- و أنا حاضر- عن الزّيت و السّمن و العسل، تقع فيه الفارة، فتموت، كيف يصنع به؟ قال: أما الزّيت فلا تبعه الا لمن تبيّن له فيبتاع للسّراج، و أما الأكل فلا. و أما السّمن فان كان ذائبا فهو كذلك، و إن كان جامدا و الفأرة في أعلاه فيؤخذ ما تحتها و ما حولها ثم لا بأس به. و العسل كذلك إن كان جامدا» «1».

و على الجملة: هذه الروايات- على اختلافها- تشير إلى معنى واحد، و هو تنجس الجميع بملاقاة البعض في المائع دون الجامد. و من مصاديق ذلك هو ما أشار إليه في المتن أيضا، من مشى الكلب على الطين، فإنه لا يحكم بنجاسة غير موضع رجله إلا إذا كان وحلا، فإنه إما ماء مضاف أو في حكم المضاف فيتنجس الجميع على اى تقدير، كما تقدم.

(1) انما لو حظ الذوبان و الجمود موضوعين للسراية و عدمها في‌

______________________________
(1) الوسائل في الباب المتقدم، الحديث: 5.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 343‌

مكانه خاليا حين الأخذ- و ان امتلاء بعد ذلك- فهو جامد، و ان لم يبق خاليا أصلا فهو مائع.

[مسألة 4: إذا لاقت النجاسة جزأ من البدن المتعرق لا يسرى الى سائر إجزائه]

«مسألة 4»: إذا لاقت النجاسة جزأ من البدن المتعرق لا يسرى (1) الى سائر إجزائه، إلا مع جريان العرق.

[مسألة 5: إذا وضع إبريق مملوء من ماء على الأرض النجسة]

«مسألة 5»: إذا وضع إبريق مملوء من ماء على الأرض النجسة و كان في أسفله ثقب يخرج منه الماء، فان كان لا يقف تحته بل ينفذ في الأرض أو يجري عليها فلا يتنجس ما في الإبريق (2) من الماء،

______________________________
بعض الروايات كحسنة زرارة المتقدمة
«1». و هما من المفاهيم العرفيّة التي لا بد من الرجوع فيها الى العرف، كبقية المفاهيم، و من الظاهر ان المائع عندهم ما يجري بسرعة على وجه الأرض و الجامد ما ليس كذلك و ان انتشر ببطئ، فليس المراد بالجامد ما يبلغ في الصلابة صلابة الحجر، فما ذكره في المتن في بيان المناط فيها هو الصحيح.

و تشهد لذلك: الروايات المفصّلة بين الشتاء و الصيف، فان السّمن و العسل لا يبلغان في الشتاء- غالبا- صلابة لا تقبل الانتشار و لو بعد حين.

(1) قد علم حكم هذه المسألة مما سبق في الاتصال مع الرطوبة قبل الملاقاة و بعدها و قد عرفت أن الاتصال قبل الملاقاة لا يوجب السّراية. نعم مع فرض جريان العرق المتنجس يتنجس ما جرى عليه العرق، و هذا ظاهر.

(2) إذا كان في أسفل الإبريق الذي فيه الماء ثقب و وضع على الأرض النجسة، فإن كان يخرج الماء من الثقب بدفع و قوة- إما لجريان الماء على الأرض، أو لنفوذه فيها، كما في الأراضي الرمليّة- فلا يتنجس ما في الإبريق لما ذكرناه من عدم السّراية حينئذ، لأن الدفع مانع عن صدق‌

______________________________
(1) في الصفحة: 341.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 344‌

و ان وقف الماء بحيث يصدق اتحاده مع ما في الإبريق بسبب الثقب تنجس. و هكذا الكوز، و الكأس، و الحب، و نحوها.

[مسألة 6: إذا خرج من أنفه نخاعة غليظة]

«مسألة 6»: إذا خرج من أنفه نخاعة غليظة و كان عليها نقطة من الدم لم يحكم بنجاسة ما عدا محله (1) من سائر أجزائها، فإذا شك في ملاقاة تلك النقطة لظاهر الأنف لا يجب غسله. و كذا الحال في البلغم الخارج من الحلق.

[مسألة 7: الثوب أو الفراش الملطخ بالتراب النجس]

«مسألة 7»: الثوب أو الفراش الملطخ بالتراب النجس يكفيه نفضه (2) و لا يجب غسله و لا يضر احتمال بقاء شي‌ء منه بعد العلم بزوال القدر المتيقن.

______________________________
الوحدة. و ان لم يخرج كذلك، بان وقف الماء تحت الإبريق تحقق الاتصال بين الماء الداخل و الخارج بلا دفع، لأن اجتماع الماء تحت الإبريق مما يمنع عنه، و الاتصال بالنجس يوجب نجاسة الجميع في المائعات. و هذا هو مراد المصنف «قده» من فرض وقوف الماء على نحو يصدق اتحاده مع ما في الإبريق بسبب الثقب، لا الوقوف في مكان آخر بعيد عنه بحيث لا يمنع الخروج بدفع، فلا مجال للإشكال عليه بما إذا كان الخروج بقوة بواسطة الضغط الدافع، فإنه مانع من سراية النجاسة إلى ما في الإبريق. وجه الاندفاع: ان مفروض كلامه «قدمه» هو عدم الدفع لمنع الماء الواقف تحت الإبريق عنه، لا الأعم منه و مما فيه الدفع، كما هو ظاهر.

(1) لعدم السراية، فيبقى الباقي على طهارته‌

(2) إذا تلطخ الثوب أو الفرش بالتراب النجس، أو بنفس النجس كالعذرة اليابسة و دخل غبارها فيهما فيكفي مجرد النفض، و لا يحتاج الى غسلهما لعدم تنجسهما به لفرض اليبوسة في المتلاقيين. و هذا الحكم على طبق القاعدة، مضافا الى ورود نص صحيح بذلك، و هو:

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 345‌

..........

______________________________
صحيح علي بن جعفر في كتابه عن أخيه عليه السّلام: «عن الرجل يمر بالمكان فيه العذرة، فتهبّ الريح، فتسفي عليه من العذرة، فيصيب ثوبه و رأسه، يصلّى فيه قبل أن يغسله؟ قال: نعم، ينفضه و يصلّى فلا بأس»
«1».

ثم انه ينبغي التنبيه على أمرين: الأول: أنه لو قلنا بجواز حمل النجس في الصلاة لجاز الصلاة في مثل هذا الثوب قبل النفض، لانه من حمل النجس لا الصلاة في الثوب النجس. لكن الصحيحة المذكورة قد دلت على المنع حتى بناء على هذا القول و كأنه لجعله من الصلاة في النجس تعبدا، لإطلاق عدم جواز الصلاة قبل النفض، من حيث تنجس الثوب بالعذرة لوصول رطوبة اليه و عدمه، فالصلاة في مثل هذا الثوب الذي دخل التراب النجس في جوفه تكون من الصلاة في النجس- كالصلاة في الثوب المتنجس- لا من الصلاة في المحمول النجس، كحمل قارورة فيها العذرة في حال الصلاة. فنلتزم بعدم جواز الصلاة في المحمول النجس، الا انه لا بد من تخصيصه بمورد النص.

الأمر الثاني: انه إذا شك بعد النفض في بقاء مقدار من التراب النجس في الثوب كان ذلك على نحوين «أحدهما»: ان يكون منشأ الشك الشك في أصل المقدار الداخل في الثوب. «الثاني»: أن يكون منشأ الشك في المقدار الخارج بعد العلم بالمقدار الداخل فيه، كما إذا علم بتلطخ الثوب بمثقالين من التراب النجس- مثلا- و شك في خروج تمام هذا المقدار.

أما الأوّل فلا يجرى فيه الاستصحاب إلّا من القسم الثالث من أقسام الكلي، لأنه يعلم بخروج مثقال من التراب- مثلا- و يشك في مقارنة مقدار آخر لذاك المقدار من الأول، فالمعلوم حدوثه قد زال قطعا، و‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 443 الباب 26 من أبواب النجاسات، الحديث: 12.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 346‌

[مسألة 8: لا يكفي مجرد الميعان في التنجس]

«مسألة 8»: لا يكفي مجرد الميعان في التنجس (1) بل يعتبر أن يكون مما يقبل التأثر. و بعبارة أخرى: يعتبر وجود الرطوبة في أحد المتلاقيين، فالزيبق إذا وضع في ظرف نجس لا رطوبة له لا ينجس و ان كان مائعا. و كذا إذا أذيب الذهب أو غيره من الفلزات في بوتقة نجسة، أو صب بعد الذوب في ظرف نجس، لا ينجس، الا مع رطوبة الظرف، أو وصول رطوبة نجسة إليه من الخارج.

______________________________
المشكوك فيه مما يشك في أصل حدوثه من الأول، و قد ذكرنا في محله عدم حجية هذا القسم من الاستصحاب.

و أما الثاني فيجري فيه الاستصحاب في نفسه، بمعنى تماميّة أركانه، لأنه من الشك في بقاء شخص المقدار الداخل في الثوب. الا انه لا أثر له بالنسبة إلى نجاسة الثوب عند ملاقاته مع الرطوبة، لأن استصحاب وجود التراب النجس في الثوب لا يثبت ملاقاته مع الرطوبة، إلا على القول بالأصل المثبت، لأن الملاقاة مع الثوب و ان كانت محرزة، إلا أن ملاقاتها مع التراب النجس مشكوكة و استصحابه لا يثبت الملاقاة معه. نظير ما إذا شك في بقاء البول على الأرض التي أصابها الثوب- مثلا- فان استصحاب وجود البول على الأرض و عدم يبوسته لا يثبت ملاقاة الثوب معه إلا بالملازمة العقليّة، لأن المعلوم ملاقاة الثوب مع الأرض لا مع البول، فلا يجرى الاستصحاب من هذه الجهة. نعم لا بأس بجريانه بلحاظ المنع عن الصلاة في الثوب، لما عرفت من دلالة النص على عدم جواز الصلاة فيه إذا كان فيه التراب النجس، فإذا ثبت بالاستصحاب بقاءه لا تجوز الصلاة فيه، و ان قلنا بجواز الصلاة في المحمول النجس في غير هذا المورد المنصوص عليه، كما عرفت.

(1) الميعان أعم من الرطوبة التي توجب السّراية و تلوث الملاقي بالنجس، بالنظر الى الارتكاز العرفي، الذي هو المعيار في هذا الباب. فالمائع‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 347‌

[مسألة 9: المتنجس لا يتنجس ثانيا]

«مسألة 9»: المتنجس لا يتنجس ثانيا (1) و لو بنجاسة أخرى، لكن إذا اختلف حكمهما يرتب كلاهما. فلو كان لملاقي البول حكم و لملاقي العذرة حكم آخر يجب ترتيبهما معا، و لذا لو لاقى الثوب دم ثم لاقاه البول يجب غسله مرتين، و ان لم يتنجس بالبول بعد تنجسه بالدم، و قلنا بكفاية المرة في الدم. و كذا إذا كان في إناء ماء نجس ثم ولغ فيه الكلب يجب تعفيره و ان لم يتنجس بالولوغ.

______________________________
الجاف- كالزّيبق- لا يتنجس بملاقاة النجس و إن كان ميعانه أكثر من الماء، بلحاظ عدم استقراره في محل إلا بصعوبة الا انه مع ذلك لا يتلوث بالنجس، و هكذا الحال في الفلزّات المذابة، كالذهب، و الفضّة. نعم إذا لاقاها النجس برطوبة تنجست، و لا يمكن تطهيرها أبدا، لتداخل اجزائها بالغليان، و لا يطهر الا سطحها الظاهر، و أما جوفها فتبقى على النجاسة و ان كسرت و صارت اجزاء صغارا- كما إذا حكّت بالمبرد- فان جوف تلك الأجزاء الصغار مما لا يدخله الماء فيبقى على نجاسته. و عليه يشكل الأمر في مصوغات اليهود و النصارى إذا علم بتنجس الذهب أو الفضّة عندهم حال ذوبانهما في البوتقة النجسة إذا لاقت مع الرطوبة. إلا أن لا يعلم إلا بنجاسة سطحها الظاهر. ثم ان الرطوبة لا تختص برطوبة الماء بل تعم مطلق ما ينتقل من أحد المتلاقيين إلى الأخر و يتأثر أحدهما بالاخر، كما في مثل رطوبة السّمن، و الزّيت، و العسل و نحوها من المائعات. و العبرة في هذا الباب بالارتكاز العرفي، كما أشرنا.

(1) تنجس المتنجس حاصل ما أفاده «قده»: ان الشي‌ء إذا تنجس لا يتنجس ثانيا، سواء أ كانت الثانية من نوع الأولى أم غيرها، فلا فرق بين ملاقاته الدم‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 348‌

..........

______________________________
مرات عديدة، و بين ما إذا لاقاه الدم أولا ثم لاقاه البول في عدم تنجسه ثانيا. نعم لو كان للنجاسة الثانية حكم آخر غير ما للأولى يترتب ذلك الحكم لا محالة، كالغسل مرتين في ملاقاة البول، و التعفير في ولوغ الكلب. و الظاهر ان ما ذكره مما لا خلاف فيه بين الأصحاب.

و لا يخفى عليك: ان هذا الحكم- اعنى عدم تنجس المتنجس- غير مبنىّ على التداخل في الأسباب. كما أن الحكم بعدم وجوب تعدد الغسل فيما إذا لم يختلف حكمهما لا يبتنى على التداخل في المسببات كي يقال بأنهما على خلاف الأصل كما زعم. و ذلك لان محل الكلام في تلك المسألة انما هو الأوامر المولويّة دون الإرشادية التي هي المبحوث عنه في المقام، و ذلك لما يستظهر هناك من ان أمر المولى بطبيعة مشروطا بشرطين مختلفين- كما إذا قال: «ان ظاهرت فأعتق» و «ان أفطرت فأعتق». أو قال: «إذا أجنبت فاغتسل» «و إذا مسست الميت فاغتسل»- ظاهر في إرادة فردين من الطبيعة، لظهور اشتراط الوجوب بشي‌ء في سببية ذاك الشي‌ء له مستقلا، فهناك سببان للحكم، فلا بد من تقييد متعلق كل منهما بغير ما تعلق به الأخر، و الالتزام بوجوب فردين من العتق و وجوب غسلين في المثالين، لاستحالة تعلق البعث بشي‌ء واحد مرتين. فمقتضى الأصل هو عدم التداخل في الأسباب و كذلك المسببات، فلا يكفى امتثال واحد، الا ان يدل دليل على خلافه. هذا في الأوامر المولويّة.

و أما الأوامر الإرشادية، التي منها الأوامر الواردة في باب النجاسات- كالأمر بغسل الثوب الملاقي للبول مثلا- فليست كذلك بل مقتضى الأصل فيها هو التداخل. و السّر في ذلك هو انه ليس في الأوامر الإرشادية طلب و بعث نحو شي‌ء، كي يقال باستحالة تعلق بعثين بشي‌ء‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 349‌

..........

______________________________
واحد، و إنما هي بمنزلة الإخبار عن الشي‌ء، و لا محذور في اجتماع إخبارات عديدة عن شي‌ء واحد.

توضيح ذلك: أن الأمر بغسل الثوب الملاقي للبول مثلا- كقوله عليه السّلام «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» «1»- يكون إرشادا إلى أمرين «أحدهما»: تنجس الثوب بملاقاة البول. «الثاني» زوال نجاسته بالغسل بالماء. فإذا قال أيضا: اغسل ثوبك من الدّم، كان إرشادا إلى تنجسه بالدّم و زوال نجاسته بالغسل، و هكذا بقيّة النجاسات. و النسبة بين هذه الأدلة العموم من وجه، لأنه قد يجتمع موردها في محل واحد، كما إذا لاقى الثوب الدم و البول معا، و قد يفترقان، كما في انفراد كل منهما بملاقاة الثوب.

الا انه لا ظهور عرفا لكل من الدليلين إلا في الإرشاد إلى زوال النجاسة بالغسل، و لا محذور في اجتماع إرشادين إلى نجاسة واحدة تزول بغسل واحد عند توارد ملاقاة نجسين على محل واحد، لأنهما بمنزلة إخبارين عن شي‌ء واحد. و التعبير بسببيّة البول أو الدم للنجاسة انما هو اصطلاح من العلماء، و ليس عنها عين و لا أثر في لسان الشارع. و على الجملة: الظهور العرفي الثابت في الأوامر المولويّة- عند تعددها- في مغايرة المتعلق غير ثابت هنا، فان حال المقام ليس إلا كالإخبار عن التقذر بالقذارة الخارجيّة، كما إذا قال المولى: نظّف ثوبك من كثافة التراب، و قال أيضا: نظّف ثوبك من كثافة الرّماد، حيث لا يتوهم أحد ان الثوب المتلوث بكلتا الكثافتين لا بد من تنظيفه مرتين و انه لا تكفي المرة في ذلك.

فظهر مما ذكرنا: أن الإشكال- المشار إليه في المتن- في الحكم بعدم‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 404 الباب: 8 من أبواب النجاسات، الحديث: 2 و نحوه الحديث: 3.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 350‌

..........

______________________________
تنجس المتنجس ليس هو مخالفته لأصالة عدم التداخل- كما قيل- لأن الأصل في التنجيس هو التداخل لا عدمه، بل الإشكال المتوهم هو: انه لو قلنا بعدم التداخل في المقام و ان المتنجس لا يتنجس ثانيا فكيف يثبت له حكم الأشد؟ لأنه حينئذ يكون من ثبوت الحكم بلا موضوع. فإذا ولغ الكلب في الإناء المتنجس بالدم- مثلا- كان الحكم بلزوم التعفير حينئذ بلا موجب، لعدم تنجس الإناء بولوغه على الفرض.

و الجواب عنه هو: أن مقتضى إطلاق ما دل على لزوم التعفير بولوغ الكلب، أو تعدد الغسل بملاقاة البول، هو ثبوتهما و ان كان الشي‌ء مسبوقا بملاقاة غيرهما من النجاسات، إذ لم يعتبر في دليلهما تنجس الملاقي بهما. و بعبارة واضحة: ليس موضوع الحكم بوجوب التعفير أو بوجوب تعدد الغسل التنجس بالولوغ أو بالبول بل هو نفس الولوغ و إصابة البول، و هما ثابتان حتى مع سبق ملاقاة نجس آخر. و سببيّتهما للنجاسة مما لم يرد فيه نص، كي يقال بعدمها مع سبق التنجس بنجس آخر. هذا فيما إذا كان للنجس الثاني أثر زائد، و أما إذا لم يكن كذلك فلا إشكال في كفاية الغسل مرة واحدة، سواء كان النجس الثاني متحدا مع الأول في النوع- كما إذا لاقى الدم مرات عديدة- أو مختلفا معه نوعا، كما إذا لاقى الدم أولا ثم لاقى العذرة. و هذا مما لا اشكال و لا خلاف فيه بين الأصحاب.

هذا كله فيما إذا لم تكن للنجاسة مراتب بحسب الشدّة و الضعف، و أما إذا قلنا بها فيندفع الإشكال رأسا- كما أشار إليه في المتن- إذ عليه يكون حكم الأشد ثابتا لثبوت موضوعه، فلا يبقى مجال للإشكال بعد ذلك.

فتحصل من جميع ما ذكرناه: أنه إن قلنا بعدم تنجس المتنجس فيمكن الإشكال عليه: بان مقتضاه عدم ثبوت حكم الأشدّ، لأنه حينئذ من ثبوت‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 351‌

و يحتمل أن يكون للنجاسة مراتب في الشدة و الضعف، و عليه فيكون كل منهما مؤثرا، و لا إشكال (1)

[مسألة 10: إذا تنجس الثوب- مثلا- بالدم مما يكفي فيه غسله مرة]

«مسألة 10»: إذا تنجس الثوب- مثلا- بالدم مما يكفي فيه غسله مرة، و شك في ملاقاته للبول أيضا مما يحتاج الى التعدد، يكتفي فيه بالمرة، و يبنى على عدم ملاقاته للبول (2).

______________________________
الحكم بلا موضوع. و ان كان يدفعه: إطلاق الأدلة و ان موضوعه مجرد الملاقاة و الإصابة لا التنجس ثانيا. و أما إذا قلنا بان المتنجس يتنجس ثانيا، لا بمعنى اجتماع نجاستين بحدّهما في محل واحد لانه غير معقول بل بمعنى الاشتداد في النجاسة، فيرتفع الإشكال المذكور من أصله.

(1) قد عرفت أن الإشكال المتوهم في المقام انما هو فيما لو قلنا بعدم تنجس المتنجس ثانيا حيث كان ترتيب حكم كليهما- فيما لو اختلفا فيه- من ثبوت الحكم بلا موضوع. و هذا الإشكال انما يرد فيما إذا لم نقل باختلاف مراتب النجاسة في الشدّة و الضعف، و أما على القول به فيندفع الإشكال من أصله. لثبوت الحكم بثبوت موضوعه حينئذ، و إن تداخلا في حكم الضعيف.

(2) الشك في ملاقاة الثوب- مثلا- لنجاسة زائدة يكون على قسمين، لانه إما ان يعلم- أولا- بملاقاته لنجس معين- كالدم- ثم يشك في ملاقاته لنجاسة أشدّ، كالبول، و الولوغ، فيكون الشك في ملاقاة نجاسة زائدة بعد العلم التفصيلي بملاقاة أصل النجاسة. و إما أن يشك من الأول في ملاقاة أحد النجسين المرددين بين الضعيف و الشديد، بمعنى حصول العلم الإجمالي بملاقاة أحدهما من دون علم تفصيلي بملاقاة الضعيف، كما إذا علم بتنجسه إما بالبول أو الدم، أو إما بالولوغ أو بغيره من النجاسات.

أما القسم الأول: فيكفي فيه الغسل مرة واحدة من دون حاجة إلى التعدد أو التعفير، لاستصحاب عدم ملاقاته للنجس الزائد، و هو حاكم على‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 352‌

..........

______________________________
استصحاب كلي النجاسة بعد الغسل مرة، فإنه لا مانع من استصحابها في نفسه لانه من استصحاب الكلى القسم الثاني، لأن منشأ الشك في بقائها هو تردد الفرد المعلوم تحققه بين ما هو مقطوع الارتفاع و ما هو مقطوع البقاء، لأن النجاسة الثانية على تقدير طروها لا تغاير وجودا مع الاولى، لما ذكرناه في المسألة السابقة من ان التداخل في أسباب النجاسات انما هو بمقتضى القاعدة، لأن أدلتها تكون بمنزلة الإخبار عنها. و لو منع عن ذلك فغايته الالتزام بوجود مراتب للنجاسة في الشدّة و الضعف.

فعليه لا توجب النجاسة الثانية إلا تبدل الاولى من مرتبة ضعيفة إلى مرتبة شديدة، فيتردد حال الفرد الواحد بين مقطوع الارتفاع بعد الغسل مرة واحدة، على تقدير كونه نجاسة الدم مثلا، و مقطوع البقاء على تقدير تبدله بنجاسة أشدّ، كنجاسة البول أو الولوغ، فليس الشك في مقارنة نجاسة أخرى للنجاسة الأولى المعلوم ثبوتها كي يكون استصحابها من الكلى القسم الثالث.

و على الجملة: لا مانع من استصحاب كلي النجاسة في المقام، لانه من الكلى القسم الثاني المحقق في محلّه جريانه فيه. الا انه في مفروض الكلام محكوم باستصحاب عدم تبدل الفرد المعلوم حدوثه الى فرد آخر مقطوع البقاء على تقدير حدوثه. و بعبارة واضحة: انما يتم استصحاب ذاك القسم فيما إذا كان حال الفرد مرددا من أول حدوثه بين الفرد القصير و الطويل، و أما إذا علمنا بحدوث فرد معين ثم شككنا في تبدله الى فرد آخر يبقى الكلى ببقائه، فمقتضى الأصل هو عدم التبدل، و معه لا مجال لاستصحاب النجاسة، لحكومته عليه.

و هذا نظير ما إذا كان محدثا بالأصغر يقينا، ثم شك في عروض حدث الجنابة لخروج بلل مشتبهة بين البول و المنى، فإنه لا مانع حينئذ من‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 353‌

و كذا إذا علم نجاسة إناء و شك في انه ولغ فيه الكلب أيضا أم لا، لا يجب فيه التعفير و يبنى على عدم تحقق الولوغ. نعم لو علم تنجسه اما بالبول أو الدم أو اما بالولوغ أو بغيره، يجب اجراء حكم الأشد (1)، من

______________________________
استصحاب كلى الحدث بعد الوضوء من حيث هو لتماميّة أركانه. إلا أنه محكوم باستصحاب عدم طرو الجنابة فيكتفي بالوضوء من دون حاجة الى الغسل، كما سيأتي التعرض لذلك في محله
«1» إنشاء اللّه تعالى.

و أما القسم الثاني: فلا يكفي فيه الغسل مرة واحدة، بل يجب التعدد فيما إذا كان طرف العلم الإجمالي البول، كما انه يجب التعفير فيما لو كان طرفه الولوغ فيجب إجراء حكم الأشد على كل تقدير، و ذلك لاستصحاب كلى النجاسة، و هو من القسم الثاني من استصحاب الكلى. هذا إذا لم نقل بجريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة، و إلا فعلى القول بجريانه فيها- كما هو المختار عندنا- فيجري استصحاب عدم الأشد- كالبول و الولوغ- فيكتفي بالغسل مرة واحدة كالقسم الأول و لا يعارضه استصحاب عدم الطرف الأخر- كالدم- لعدم ترتب أثر عليه، لأن موضوع الحكم- اعنى وجوب الغسل- هو طبيعي النجاسة، و هي معلومة ثابتة، و الأثر الزائد- كالتعدد و التعفير- موضوعه الأشد، و هو منفي بالأصل، فيكتفي بالغسل مرة واحدة، لكفايته في مطلق النجاسات إلا ما خرج بالدليل، لأن كل نجس لم يكن بولا أو ولوغا يكفي فيه الغسل مرة واحدة، و قد أحرز في المقام بضم الوجدان الى الأصل «2».

(1) لاستصحاب كلى النجاسة، و هو من القسم الثاني من‌

______________________________
(1) في فصل الاستبراء، المسألة 8.

(2) و من هنا جاء في تعليقته دام ظله على قول المصنف «قده»:- «يجب اجراء حكم الأشد»- «لا تبعد كفاية اجراء حكم الأخف».

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 354‌

التعدد في البول، و التعفير في الولوغ.

[مسألة 11: الأقوى ان المتنجس منجس]

«مسألة 11»: الأقوى ان المتنجس منجس (1) «1» كالنجس

______________________________
استصحاب الكلي إلا انه- على المختار- محكوم باستصحاب عدم الأشدّ عدما أزليّا كما أوضحناه آنفا، فيكفي إجراء حكم الأخف من الغسل مرة واحدة، كالفرض الأول.

(1) تنجيس المتنجس المشهور هو سراية نجاسة المتنجس إلى ملاقيه و لو بوسائط كثيرة- بلغ ما بلغ- ما دون فرق بين المائعات و الجوامد المتنجسة إذا كانت الملاقاة مع الرطوبة المسرية، و لم ينسب الخلاف صريحا إلا إلى المحدث الكاشاني في مفاتيحه «2»، و استظهر ذلك من الحلي في محكي السرائر، و كذا عن السيد المرتضى «قده».

بل نسب إلى المحدث الكاشاني تبعا للسيد «قدس سرهما»: القول بعدم السراية حتى في الأعيان النجسة، فيدور الحكم مدار عينها إلا في الموارد التي ثبت تعبدا وجوب غسل ملاقيها، كالثوب و البدن، دون سائر الأجسام. فلو فرضنا زوال عين النجس بغير الغسل بالماء كفى ذلك في طهارة الملاقي لها، فعدم تنجيسه لملاقيه إنما هو من باب السالبة بانتفاء الموضوع، و جعل ذلك وجها للحكم بطهارة بدن الحيوان و بواطن الإنسان بزوال العين لا لخصوصية فيها.

______________________________
(1) و في تعليقته- دام ظله- على قول المصنف «قده»:- «الأقوى ان المتنجس منجس»:

«في قوته على إطلاقه اشكال نعم هو أحوط».

(2) لاحظ الحدائق ج 2 ص 16- 17 طبعة النجف الأشرف في نص عبارة المحدث الكاشاني و كذا الوافي ج 1 م 4 ص 24 في أواخر باب التطهير من البول إذا أصاب الجسد أو الثوب.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 355‌

..........

______________________________
الا انه يدفع هذا القول ما تقدم من الأدلة على اعتبار الغسل بالماء في زوال النجاسة، التي من جملتها قوله عليه السّلام في موثقة عمار
«1» الواردة في الماء الذي وقعت فيه فأرة متسلخة: «يغسل ثيابه، و يغسل كل ما اصابه ذلك الماء» فإن الأمر بغسل الثوب و غيره مما اصابه ذلك الماء يدل على ان مجرد زوال عين النجس لا يكفي في الطهارة، لأن الثوب- و كذا غيره مما أصابه الماء المتنجس و لو كان غير الثوب و البدن- لم يكن فيه عين النجس، و مع ذلك أمر بغسله و هذا ظاهر لا ينبغي التأمل فيه.

فالعمدة هو البحث عن تنجيس المتنجس الخالي عن عين النجس، و قد ذكرنا ان المشهور هو التنجيس و لو كانت الوسائط كثيرة، من دون فرق بين المائعات و غيرها. و استدل على ذلك بوجوه:

الأول: دعوى الضرورة على سراية المتنجس لملاقيه مطلقا.

و فيه: أنه ان كان المراد بها ما هو معلوم من الشارع، بحيث يكون الملتفت إلى النبوة يلتفت إليه أيضا، و يكون إنكاره موجبا لإنكار النبوة، كوجوب الصلاة و الصوم و الحج و نحو ذلك مما تداول في لسان الشارع، فواضح المنع جدا، لأن المسألة من المسائل النظرية المحتاجة إلى الاستنباط، و ليس في لسان الشارع تصريح بذلك، و الضرورة بهذا المعنى تنحصر في الأحكام الكثيرة الدوران في الكتاب و السنة القطعيّة: و ان أريد بها معلوميّة الحكم لدى المتشرعة و كونه من المسلّمات عندهم، فيدفعه: ان مجرد ذلك لا يوجب صيرورة الحكم من الضروريات الواضحات، بحيث يعلم صدوره من الشارع و ثبوته في الشريعة المقدّسة، إذا العوام يرجعون في تلقى الأحكام‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 1 ص 142 الباب 4 من أبواب الماء المطلق، الحديث: 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 356‌

..........

______________________________
إلى مراجع تقليدهم، فإذا اتفقوا على فتوى و لو في العصور المتأخرة صار الحكم من المسلّمات عند الناس. الا ان هذا لا يقتضي صيرورة مثله حجة يعتمد عليها.

الوجه الثاني: الإجماع، لثبوت الاتفاق على الحكم بالتنجيس.

و فيه: انه ان كان مبنيّا على قاعدة اللطف، كما هو مبنى السلف كالشيخ «قده» في العدة و غيره، فحجيّته و ان كان ثابتا حتى بالنسبة إلى عصر من العصور لما قيل في تقريبه: من ان اتفاقهم يكشف عن رأى المعصوم، لأن إبقاء الأمة على الخطاء و لو في عصر واحد و برهة من الزمن مناف للطف، فيدعى الملازمة العقلية بين اتفاقهم و رأى المعصوم عليه السّلام فيدفعه أولا: ما ذكرناه في بحث الأصول، من عدم تمامية قاعدة اللطف في نفسها، لأن هداية العباد بإرسال الرسل و نصب الإمام تفضل منه تعالى لا واجب عليه و لو سلم كان الواجب نصب الامام و بيان الأحكام على النحو المتعارف الذي جرت عليه سيرة الأئمة عليهم السّلام. هذا مضافا الى ان تأثير إلقاء الخلاف من جانب الامام عليه السّلام انما يتوقف على ان يعرفه الناس، و هو خلاف ما استقر عليه المذهب من غيبته عليه السّلام الى زمان معلوم، و مع عدم معرفة الناس له عليه السّلام لا يعبأ بقوله. و تمام الكلام في محله. و ثانيا: لو سلم حجية الإجماع المبنى على قاعدة اللطف لم يتم في المقام، لاحتمال استناد المجمعين الى الروايات التي توهم دلالتها على ذلك، بل كثير منهم استدل بها في صريح كلامه.

و ان كان مبنيا على الحدس و ان اتفاق العلماء على شي‌ء يلازم عادة موافقة المعصوم عليه السّلام، كما هو مبنى المتأخرين.

ففيه: أن حجيته على هذا القول مبنىّ على حصول القطع الشخصي‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 357‌

..........

______________________________
لكل من يرى الملازمة العادية بين اتفاق العلماء و رأى المعصوم عليه السّلام، لعدم حجية الإجماع في نفسه عقلا أو تعبدا، بل انما هو طريق و سبب للقطع بقول المعصوم عليه السّلام. و من هنا اعتبروا فيه اتفاق العلماء أولا في جميع الأعصار و لم يكتفوا فيه باتفاق علماء عصر واحد. و لا شك ان الناظر في هذه المسألة لا يحصل له القطع بذلك.

أما أولا: فلعدم حصول الاتفاق على هذا النحو، لمخالفة بعضهم، كالسيّد و الحلي و الكاشاني و غيرهم، بل لم نجد من صرح من القدماء بذلك مع كثرة الابتلاء به، و لهذا كتب المرحوم الحاج آقا رضا الأصفهاني «قده» إلى العلّامة البلاغي «قده» في رسالة وجهها إليه ما مضمونه: ان لم أجد من القدماء من صرح بتنجيس المتنجس، فكيف ادعى الإجماع على ذلك في منظومة العلامة الطباطبائي «قده» بقوله:

و الحكم بالتنجيس إجماع السلف

و شذّ من خالفهم من الخلف

و طلب منه ان يفتش الأقوال و يوقفه على ما عثر عليه منها و إلّا فإني- على حد تعبير العلامة الأصفهاني- أغير هذا البيت، و أقول:

و الحكم بالتنجيس إحداث الخلف

و لم نجد قائله من السلف

فإذا كان هذا حال الإجماع المدّعى في المقام، فكيف يحصل القطع برأي المعصوم عليه السّلام من نقله، لعدم ثبوت اتفاق القدماء عليه.

و أما ثانيا: فلاحتمال استناد المجمعين الى الروايات التي يأتي ذكرها.

الوجه الثالث: الروايات، فمنها الروايات «1» الإمرة بغسل الإناء الذي شرب منه الكلب و الخنزير، لدلالتها على منجسيّة الماء المتنجس‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 1 ص 225 الباب 1 من أبواب الأسئار و ج 3 ص 414 و الباب:

12 من أبواب النجاسات.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 358‌

..........

______________________________
بالولوغ لملاقيه و هو الإناء، لقضاء العادة بشربهما في الإناء من دون ملاقاتهما له، و لا وجه للأمر بالغسل أو التعفير إلا إزالة النجاسة.

و منها: رواية العيص بن قاسم: قال: «سألته عن رجل أصابته قطرة من طشت فيه وضوء. فقال: ان كان من بول أو قذر فيغسل ما أصابه» «1».

لدلالتها على ان الغسالة المتنجسة بالبول أو القذر تكون منجسة لملاقيها، و الا لم يكن وجه للأمر بغسله.

و منها: رواية معلى بن خنيس قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الخنزير يخرج من الماء فيمر على الطريق، فيسيل منه الماء، أمرّ عليه حافيا؟

فقال: أ ليس ورائه شي‌ء جافّ؟ قلت: بلى. قال: فلا بأس، إن الأرض يطّهر بعضها بعضا» «2».

فإنها تدل على نجاسة الرجل بالماء الملاقي لبدن الخنزير، و أنها تطهر بالمشي على الأرض الجافّة.

و منها: موثقة عمار: «انه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل يجد في إناءه فارة، و قد توضأ من ذلك الإناء مرارا، أو اغتسل منه، أو غسل ثيابه، و قد كانت الفأرة متسلخة. فقال: ان كان رآها في الإناء قبل ان يغتسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه، ثم يفعل ذلك بعد ما رآها في الإناء، فعليه أن يغسل ثيابه و يغسل كل ما أصابه ذلك الماء، و يعيد الوضوء و الصّلاة. و ان كان انما رآها بعد ما فرغ من ذلك و فعله فلا يمس من ذلك الماء شيئا و ليس عليه شي‌ء، لأنه لا يعلم متى سقطت فيه. ثم قال: لعله أن يكون إنما سقطت فيه تلك الساعة التي رآها» «3».

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 1 ص 211 الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحديث: 14.

(2) وسائل الشيعة ج 3 ص 457 الباب: 32 من أبواب النجاسات، الحديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج 1 ص 142 الباب 4 من أبواب الماء المطلق، الحديث: 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 359‌

..........

______________________________
فإنها تدل على تنجس كل ما اصابه ذاك الماء المتنجس بميتة الفارة.

و الجواب عن جميع هذه الروايات- و نحوها مما وردت في تنجيس المائع المتنجس- هو خروجها عن محل الكلام، لاختصاصها بالمائع المتنجس، و الظاهر ان المحدث الكاشاني «قده» أيضا لا يقول بعدم السّراية فيه، إذ محل الكلام انما هو الجامد المتنجس إذا لاقى شيئا مع الرطوبة المسرية، كاليد المتنجسة بالبول- بعد جفافها و زوال العين- إذا لاقت الثوب المرطوب- مثلا- فالاستدلال بهذه الروايات على تنجيس المتنجس غفلة عما هو محل الكلام. نعم يجدى ذلك في قبال من أنكر السّراية مطلقا حتى في المائعات المتنجسة. و لم يعلم إنكارها- بهذا العموم- من أحد.

و منها: موثقة عمار: «قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن البارية يبلّ قصبها بماء قذر، هل تجوز الصلاة عليها؟ فقال: إذا جفت فلا بأس بالصلاة عليها» «1».

بدعوى: ان مفهومها ثبوت البأس بالصلاة على البارية إذا لم تجف، و ليس ذلك الا من جهة تنجس لباس المصلى أو بدنه بها.

و يدفعها: انه ان كان المراد بالجفاف فيها خصوص الجفاف بالشمس كما حملها جماعة على ذلك، و استدلوا بها على مطهّرية الشمس للحصر و البواري، و حملوا الصلاة عليها على السجود على البارية، لأنها من النبات غير المأكول و الملبوس، فيصح السجود عليها لو لا نجاستها كانت الرواية أجنبيّة عما هو محل الكلام- من تنجيس المتنجس- رأسا، لورودها حينئذ في اعتبار طهارة المسجد، و حصولها بتجفيف الشمس فيها إذا كان المسجد من‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 453 الباب: 30 من أبواب النجاسات، الحديث: 5.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 360‌

..........

______________________________
الحصر و البواري، دون ما إذا لم تجف، أو جفت بغير الشمس.

و ان كان المراد بالجفاف فيها مطلق الجفاف و لو بغير الشمس، كما هو الصحيح لعدم التقييد فيها بالشمس، و من هنا لا يسعنا الالتزام بدلالتها على مطهريّة الشمس للحصر و البواري- كما يأتي في محلّه- كانت الرواية دالة على منجسيّة المتنجس. الا انها مختصة بخصوص المائع المتنجس، لأن عدم الجفاف انما يكون ببقاء نفس الماء القذر على البارية، فيكون هو المنجس لملاقيه، و قد ذكرنا آنفا: ان المائع المتنجس يكون في حكم نفس النجس، بلا خلاف ظاهر، فيكون سبيلها سبيل الروايات المتقدمة من جهة عدم تعرضها للجامد المتنجس بعد زوال العين. كما ان المراد بالصلاة عليها هو الصلاة فوقها، سواء سجد عليها أم لم يسجد، فليس المانع الا تنجس بدن المصلى أو ثيابه إذا صلى فوقها قبل الجفاف.

و منها: و هي العمدة في المقام، الروايات الكثيرة المتضمّنة لكيفيّة تطهير الفراش «1» و الأواني المتنجسة بالخمر «2» أو بموت الجرذ فيها «3» أو بإصابة الخنزير «4» أو ولوغ الكلب «5» أو سائر النجاسات «6» بالغسل بالماء، مع التعدد ثلاثا أو سبعا، و مع التعفير بالتراب أو بدونه، على اختلاف‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 400 الباب: 5 من أبواب النجاسات، الحديث: 1، 3.

(2) وسائل الشيعة ج 3 ص 494 الباب: 51 من أبواب النجاسات، الحديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج 3 ص 496 الباب 53 من أبواب النجاسات، الحديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج 3 ص 417 الباب 13 من أبواب النجاسات، الحديث: 1، و ج 1 ص 225 الباب 1 من الأسئار، كالحديث: 2.

(5) وسائل الشيعة ج 3 ص 516 الباب: 70 من أبواب النجاسات، الحديث: 1 و ج 1 ص 226 الباب: 1 من الأسئار، كالحديث: 3، 4.

(6) وسائل الشيعة ج 3 ص 496 الباب: 53 من أبواب النجاسات، الحديث: 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 361‌

..........

______________________________
النجاسات، كما يظهر من الروايات بتقريب: ان الغرض من تطهيرها ليس الا الفرار من تنجس ملاقيها و سراية نجاستها إليه، لعدم استعمالها بنفسها فيما يشترط فيه الطهارة، من الأكل و الشرب، و اللبس في الصلاة، أو السجود عليها. كما انه لا يحتمل ان يكون تطهيرها واجبا نفسيا. فعليه يتعين حمل الأمر بالتطهير في هذه الروايات على الإرشاد إلى الفرار عن سراية النجاسة إلى ملاقيها، من الطعام و غيره.

و قد أورد المحقق الهمداني «قده» «1» على الاستدلال المذكور بأن غاية ما يمكن ان يستفاد من الأمر بغسل الأواني و نحوها بعد البناء على ظهورها في الوجوب الغيري كما هو المتعين انما هو حرمة استعمالها- حال كونها متنجسة- في المأكول و المشروب، المطلوب فيها النظافة و الطهارة، في الجملة، و لو بالنسبة إلى المائعات الّتي يتنفر الطبع من شربها في إناء قذر، و أما تنجس ما فيها بها فلا يستفاد منها.

و هذا الجواب منه «قده»: «ينبغي ان يعدّ من الغرائب، لقيام الضرورة على عدم حرمة الأكل و الشرب من آنية متنجسة لو لا سراية نجاستها إلى ما فيها من الطعام و الشراب إذ لا حرمة في أكل خبز جاف من آنية متنجسة- مثلا- كما لا إشكال في عدم حرمة أكل ما في الإناء المتنجس إذا اتصل بالماء العاصم مع بقاء الإناء على النجاسة كما لو احتاج إلى التعفير أو التعدد في الغسل و نحو ذلك، و ليس الأكل في الأواني المتنجسة كالأكل في أواني الذهب و الفضة أو المغصوبة من حيث حرمة استعمالها في الأكل و الشرب. فالمتعين هو حمل الأمر بالغسل في هذه الروايات على الإرشاد إلى تنجس الملاقي بها‌

______________________________
(1) كتاب الطهارة من مصباح الفقيه ص 578.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 362‌

..........

______________________________
مع الرطوبة. كيف و عمومها يشمل الأواني الّتي لم تعد للأكل و الشرب منها، كالأواني الكبار المجعولة للخمر- كالدّن و نحوه- فإنها تشملها الأخبار الواردة في كيفية تطهير الإناء، مع عدم احتمال ان يكون الأمر بالغسل فيها لرفع حرمة الأكل و الشرب منها. فما ورد في بعض الروايات
«1»، من تعليق عدم البأس بجعل الخل و نحوه في الدّن الّذي كان فيه الخمر على الغسل ليس الّا من جهة عدم تنجس الملاقي به حينئذ، إذ لا يتوهم ان يكون ثبوت البأس بدون الغسل لأجل حرمة الأكل أو الشرب منه قبل الغسل، لان ما في الدّن لا يؤكل أو يشرب إلّا بعد إخراجه منه و جعله في إناء آخر.

و ربما يجاب عن هذه الروايات: بان الغرض من الأمر بغسل الأواني فيها انما هو زوال عين النجاسة و أثرها عنها لا التحرز عن تنجس الملاقي بها، فان الشارع قد اهتم بإزالة أعيان النجاسات و التجنب عنها في الاستعمالات، و لا كلام في سراية نجاستها إلى ملاقيها، و كذا الحال في الفراش المتنجس.

و فيه: انه لو تم لاختص ببعض النجاسات، كما في الأواني المتنجسة بالخمر لبقاء أثرها في الإناء، و أما المتنجسة بما لا يبقى أثره في الإناء- كالمتنجس بولوغ الكلب- فلا يتم فيه ذلك، إذ لا أثر للماء المتنجس بالولوغ بعد إراقته و جفاف الإناء. هذا مع انه يكفي في إزالة العين الغسل مرة واحدة و لا حاجة إلى التعدد ثلاث مرات- كما في المتنجس بالخمر- أو سبع مرات- كما في الإناء الّذي شرب منه الخنزير- و لا التعفير- كما في المتنجس بولوغ‌

______________________________
(1) كموثق عمار عن أبى عبد اللّه عليه السّلام: «قال: سألته عن الدن يكون فيه الخمر، هل يصلح أن يكون فيه خل، أو ماء كامخ، أو زيتون؟ قال: إذا غسل فلا بأس.». وسائل الشيعة ج 3 ص 494 الباب 51 من أبواب النجاسات، الحديث: 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 363‌

..........

______________________________
الكلب- لزوال أثر النجاسة بالغسل مرة واحدة، بل يمكن إزالته بغير الماء.

فالأمر بغسلها على وجه مخصوص ليس إلا لتطهيرها شرعا، كي لا يتنجس ملاقيها من الطعام و الشراب. بل الأمر كذلك في الأمر بغسل الفراش الّذي اصابه البول، فان الفرش لا يستعمل فيما يشترط فيه الطهارة، من الأكل و الشرب و اللبس، فليس الغرض من غسله إلّا التحرز عن تنجس ملاقيه- من بدن الإنسان و نحوه- إذا مسّه برطوبة مسرية و لو بعد زوال عين النجاسة بالجفاف و نحوه، كما هو مقتضى إطلاق روايته «1».

فالإنصاف ان دلالة هذه الطائفة من الأخبار على تنجيس المتنجس مما لا ينبغي المناقشة فيها. إلّا أنها لا تدل على أكثر من تنجيس الواسطة الأولى- أي المتنجس بعين النجس- في الجوامد- كالفرش المتنجس بالبول- أو تنجيس الواسطة الثانية إذا كانت متنجسة بالمائع، كالإناء المتنجس بالماء المتنجس بولوغ الكلب، فإن المائع المتنجس في حكم نفس النجس، و إنما الإشكال في تنجيس الواسطة الثانية و ما فوقوها في الجوامد.

و مثل هذه الروايات- بل أوضح منها- الروايات الناهية عن إدخال اليد القذرة بإصابة المني أو البول أو غيرهما من النجاسات في الإناء إلّا بعد الغسل، و في بعضها: الأمر بإراقة الإناء إذا أصابته اليد القذرة، و ليس ذلك إلّا لأجل عدم الانتفاع بالماء القليل المتنجس في الشرب و الوضوء، إذ الانتفاع به في غير ما يشترط فيه الطهارة- كسقي البستان و الدّواب و نحو ذلك- في حكم المعدوم، لفرض قلة الماء و مقتضى إطلاقها عدم الفرق بين بقاء العين و زوالها. و هي كثيرة.

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 400 الباب: 5 من أبواب النجاسات، الحديث: 1، 3.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 364‌

..........

______________________________
منها: صحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر: قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الرجل يدخل يده في الإناء و هي قذرة. قال: يكفي الإناء
«1».

و اليد القذرة هي المتنجسة، و إطلاقها يشمل صورة زوال العين.

و منها: صحيح عليّ بن جعفر عليه السّلام عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام: قال: سألته عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع، أ يغتسل منه للجنابة، أو يتوضأ منه للصلاة، إذا كان لا يجد غيره، و الماء لا يبلغ صاعا للجنابة و لا مدا للوضوء، و هو متفرق، فكيف يصنع، و هو يتخوف أن يكون السباع قد شربت منه؟ فقال: ان كانت يده نظيفة فليأخذ كفّا من الماء بيد واحدة.» «2». و إطلاقها كسابقتها.

و منها: رواية أخرى له عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام- في قرب الاسناد- قال: «سألته عن الرجل يتوضأ في الكنيف بالماء، يدخل يده فيه، أ يتوضأ من فضله للصلاة؟ قال: إذا أدخل يده و هي نظيفة فلا بأس، و لست أحب ان يتعود ذلك إلّا أن يغسل يده قبل ذلك» «3».

و منها: موثقة سماعة عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا أصاب الرجل جنابة فأدخل يده في الإناء فلا بأس، إذا لم يكن أصاب يده شي‌ء من المني» «4».

فإن مفهومها ثبوت البأس إذا أصاب المنى يده. بل صرح بنفس هذا المفهوم في موثقته الأخرى قال: «سألته عن رجل يمس الطست أو الركوة، ثم‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 406 الباب: 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث: 7.

(2) وسائل الشيعة ج 1 ص 216 الباب: 10 من أبواب الماء المضاف، الحديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج 1 ص 223 الباب: 14 من أبواب الماء المضاف، الحديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج 1 ص 153 الباب: 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث: 9.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 365‌

..........

______________________________
يدخل يده في الإناء قبل ان يفرغ على كفيه. قال: يهريق من الماء ثلث جفنات، و ان لم يفعل فلا بأس. و ان كانت أصابته جنابة فأدخل يده في الماء فلا بأس به، ان لم يكن أصاب يده شي‌ء من المنى، و إن كان أصاب يده فأدخل يده في الماء قبل أن يفرغ على كفيه فليهرق الماء كله»
«1».

فان مفهوم قوله عليه السّلام: «و ان لم يكن أصاب يده شي‌ء من المنى» و ان كان هو ثبوت البأس إذا كان قد أصابها المنى، الا انه مع ذلك صرح عليه السّلام بالمفهوم، بقوله «و ان أصاب يده.». و تعليق اراقة الماء- التي هي كناية عن تنجسها- على اصابة المنى لليد و عدم إفراغ الماء عليها دليل على ان مجرد زوال العين لا يكفي في رفع النجاسة بل يتوقف على الغسل بالماء.

فيستفاد من الرواية: ان اليد المتنجسة بالمني تنجس الماء و ان زال العين، فتوهم اعتبار بقاء العين في التنجيس مما لا مجال له.

فالإنصاف ان دلالة هذه الاخبار و نحوها على تنجيس المتنجس و لو بعد زوال العين مما لا يقبل النقاش، فما عن بعض المتأخرين- كالحاج آقا رضا الأصفهاني- من إنكار وجود رواية تدل على ذلك، مبنى على عدم الدّقة و عدم ملاحظة الروايات المتقدمة و نحوها. و من الغريب ما عن صاحب الكفاية «قده» من إنكار دلالة هذه الاخبار على أزيد من تنجيس المتنجس بعين النجاسة، و أما المتنجس بالمتنجس فخارجة عن مدلولها. فلا تدل الا على تنجيس الواسطة الاولى، و اما الثانية و الثالثة فما فوق و لو إلى ألف واسطة، فلا تدل هذه على تنجيسها، لاختصاصها بالفرش و الأواني و اليد و نحوها المتنجسة بعين النجاسات، فلا بد في التعميم من التماس دليل‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 1 ص 154 الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث: 10.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 366‌

..........

______________________________
آخر، فان تم فهو، و الا فالمرجع قاعدة الطهارة:

و ربما يقال بالتعميم، و يستدل عليه: ب‍:

صحيحة البقباق: قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن فضل الهرة، و الشاة، و البقرة و الإبل، و الحمار، و الخيل، و البغال، و الوحش، و السباع، فلم اترك شيئا إلا سألته عنه. فقال: لا بأس به، حتى انتهيت الى الكلب.

فقال: رجس نجس، لا تتوضأ بفضله، و اصبب ذلك الماء و اغسله بالتراب أول مرة ثم بالماء» «1».

و نحوها: رواية معاوية بن شريح: «قال: سأل عذافر أبا عبد اللّه عليه السّلام- و أنا عنده- عن سؤر السنور، و الشاة، و البقرة، و البعير، و الحمار، و الفرس، و البغل، و السباع يشرب منه، أو يتوضأ منه؟ فقال: نعم، اشرب منه، و توضأ منه، قال: قلت له الكلب؟ قال: لا. قلت: أ ليس هو سبع؟ قال:

لا و اللّه، إنه نجس» «2».

و تقريب الاستدلال بهما هو: ان المستفاد من قوله عليه السّلام في الأولى: «رجس نجس لا يتوضأ بفضله»، و في الثانية: «لا و اللّه انه نجس» هو ان العلة في عدم جواز التوضؤ بسؤر الكلب و الشرب منه انما هي ملاقاته النجس، فيستفاد من ذلك كبرى كلية في التنجيس، و هي ان كل نجس ينجس ملاقيه، و النجس أعم من المتنجس لغة و عرفا. بل المستفاد من بعض الروايات «3» إطلاقه على الأعم أيضا، فيتشكل القياس، و ينتج: ان‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 1 ص 236 الباب 1 من أبواب الأسئار، الحديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج 1 ص 226 الباب المتقدم، الحديث: 6.

(3) منها. قوله عليه السّلام: «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء». الوسائل ج 1 ص

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 367‌

..........

______________________________
كل متنجس منجس. فيقال: ان المتنجس نجس، و كل نجس منجس لملاقيه، فالمتنجس منجس لملاقيه.

و في الاستدلال بهما نظر، أما الاولى فلان إطلاق النجس على المتنجس و ان كان صحيحا الا انه لا يطلق عليه الرجس جزما، لأن المراد به هو النجس بالذّات، المعبّر عنه بالفارسية ب‍ «پليد» و هو ما بلغ غاية الخباثة و القذارة. و قد أنيط الحكم بتنجس فضل الكلب و عدم جواز الوضوء به- في هذه الرواية- بالمجموع، اعنى كونه رجسا و نجسا، فالكبرى- على تقدير استفادها- مختصة بالنجاسات العينيّة.

هذا مضافا الى إمكان المنع عن دلالتها على التعليل- كما ادعى- و إلا لزم الحكم بوجوب التعفير في مطلق النجاسات، مع انه مختص بولوغ الكلب. فقوله عليه السّلام: «و اغسله بالتراب أوّل مرة» قرينة على عدم إرادة عليّة النجاسة المطلقة لتنجس الملاقي، فالرواية لا تكون إلا في مقام بيان نجاسة الكلب بخصوصه و ما يترتب على نجاسته من الآثار.

و أما الرواية الثانية فلضعف سندها بمعاوية ابن شريح أوّلا، و لعدم كونها في مقام التعليل كالأولى ثانيا، بل هي في مقام بيان نجاسة خصوص الكلب أيضا، لأن الحصر في قوله عليه السّلام: «لا و اللّه انه نجس» إضافي في مقابل تخيل السائل انه من السباع، و قد حكم الامام عليه السّلام بجواز الشرب من سؤرها. فنبّه عليه السّلام بقوله ذلك على انه ليس كسائر السباع بل هو نجس، فلا يستفاد منها حكم مطلق ما يصدق عليه النجس.

و أحسن ما يستدل به على تنجيس المتنجس- و لو مع الواسطة- ما‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 368‌

..........

______________________________
دل من الروايات على عدم جواز إدخال اليد القذرة في الماء القليل إذا أراد الغسل أو الوضوء به، و مقتضى إطلاقها عدم الفرق بين المتقذر بعين النجس أو المتنجس به، لما عرفت من ثبوت السّراية من الواسطة الاولى- اعنى المتنجس بعين النجس- إلى ملاقيه، فتدل هذه الروايات على سراية النجاسة من الواسطة الثانية إلى ملاقيه. فلو كانت اليد متنجسة بالمتنجس بعين النجس سرت النجاسة منها الى الماء القليل فلا يجوز الوضوء أو الغسل به، فيستفاد منها تنجيس المتنجس مطلقا، لصدق القذر و غير الطاهر على المتنجس بواسطتين، و هكذا.

و من تلك الروايات: صحيحة زرارة أو حسنته الواردة في الوضوآت البيانية المشتملة على حكاية الإمام عليه السّلام لوضوء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: ألا أحكي لكم وضوء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ فقلنا: بلى، فدعا بقعب فيه شي‌ء من ماء، فوضعه بين يديه، ثم حسر عن ذراعيه، ثم غمس كفّه اليمنى، ثم قال: هكذا إذا كانت الكفّ طاهرة.» «1».

فإن مفهوم قوله عليه السّلام: «هكذا إذا كانت الكفّ طاهرة» هو عدم جواز غمس الكف في الماء القليل إذا لم تكن طاهرة، و ليس ذلك إلا لأجل تنجس الماء بها، فلا يصح الوضوء به حينئذ. و عدم الطاهر كما يصدق على اليد المتنجسة بعين النجاسة يصدق على المتنجس بالمتنجس بها، لما عرفت من ثبوت السّراية من الواسطة الاولى الى ملاقيها، فمقتضى إطلاقها عدم‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 1 ص 387 الباب: 15 من أبواب الوضوء، الحديث: 2. و منها:

صحيح على بن جعفر عليه السّلام المتقدمة ص: 364 لقوله عليه السّلام فيها: «ان كانت يده نظيفة فليأخذ كفا من الماء بيد واحدة».

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 369‌

..........

______________________________
الفرق بين ان تكون الكف متنجسة بلا واسطة أو مع الواسطة الاولى. فيستفاد من ذلك ان المتنجس يكون منجسا مطلقا و لو غير الواسطة الاولى بلغ ما بلغ، إذ يصدق على الماء الذي أصابه ذلك الماء- المنفعل بملاقاة اليد المتنجسة بواسطتين- أنه أصابه ما ليس بطاهر، فلا يجوز التوضؤ به لتنجسه بها، فيكون متنجسا بالواسطة الثالثة، و يصدق عليه انه غير طاهر، فيسري نجاسته الى ماء ثالث، و هكذا. لعين الملاك، و هو اصابة ما ليس بطاهر الماء القليل الذي يراد استعماله في الوضوء أو الغسل.

و ربما يناقش في دلالتها: باحتمال «1» إرادة صيرورة الماء القليل بوضع اليد المتنجسة فيه غسالة مستعملة في رفع الخبث، فلا يجوز استعماله في رفع الحدث و ان كان طاهرا، فيكون نظير ما تسالموا عليه من عدم جواز استعمال ماء الاستنجاء في رفع الحدث، مع البناء على طهارته، فتكون الرواية و ما أشبهها من أدلة عدم جواز استعمال الماء المستعمل في رفع الخبث في رفع الحدث، و ان كانت الغسالة طاهرة. فتكون هذه الرواية ك‍:

رواية عبد اللّه بن سنان عن أبى عبد اللّه عليه السّلام: «قال لا بأس بأن يتوضأ بالماء المستعمل. فقال: الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به الرجل من الجنابة لا يجوز أن يتوضأ منه و أشباهه.» «2».

و مع هذا الاحتمال تصبح هذه الروايات مجملة لا يمكن الاستدلال بها‌

______________________________
(1) لا يخفى ابتناء هذا الاحتمال على عدم اعتبار ورود الماء على المتنجس في إزالة نجاسته بالماء القليل. و على طهارة الغسالة. و قد تقدم إيراد هذه المناقشة في بحث انفعال الماء القليل في القسم الثاني من الجزء الأول ص 151 الطبعة الثانية.

(2) وسائل الشيعة ج 1 ص 215 الباب: 9 من أبواب الماء المستعمل و المضاف، الحديث: 13.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 370‌

..........

______________________________
على تنجيس المتنجس.

و يدفعها أولا: ان هذا الاحتمال خلاف ظهور الروايات، لان مقتضى الفهم العرفي من قوله عليه السّلام: «هكذا إذا كانت الكف طاهرة» هو تقذر الماء إذا لم تكن طاهرة و سراية قذراتها إليه، فإن مقابل الطاهر هو القذر. و يتضح ذلك بملاحظة القذارات العرفية، فإذا قيل: لا تضع يدك الوسخة في الماء، يستفاد منه ان علة المنع هو توسخ الماء بها و سراية الوساخة منها الى الماء، و هذا ظاهر.

و ثانيا: ان الموضوع في المفهوم هو اليد غير الطاهرة، و لها أفراد ثلاثة، اليد المتنجسة مع بقاء العين عليها، و اليد المتنجسة بالعين مع زوالها عنها، و اليد المتنجسة بالمتنجس بالعين، كما إذا أصابها ماء اصابه البول- مثلا- و لا إشكال في تنجس الماء بالفرد الأول لإصابته عين النجس، بل و بالثاني لأن الواسطة الاولى منجسّة لملاقيه- كما تقدم- فيكون جهة المنع عن التوضؤ بالماء الملاقي لليد غير الطاهرة في هذين الفرضين هي نجاسة الماء، فيختص المنع- من جهة صيرورة الماء مستعملا في رفع الخبث مع البقاء على الطهارة- بالثالث. و اختصاص المفهوم به مع عدم القرينة لا موجب له، و ارادة جميع الأقسام- بإرادة كون المنع في الأولين من جهة تنجس الماء، و في الثالث من جهة الاستعمال في رفع الخبث- غير صحيح «1».

و ثالثا: ان الأمر بإراقة الماء الذي أصابه القذر في بعض هذه‌

______________________________
(1) لعله من جهة استعمال اللفظ في أكثر من معنى. و قد ذكر- دام ظله- في الأصول: أنه معقول، الا انه يحتاج إلى القرينة. على انه لا حاجة الى ذلك، لا مكان تعلق النهى بالجميع و ان اختلف ملاك المنع في كل واحد منها، فيكون من قبيل استعمال اللفظ في المشترك المعنوي لا اللفظي. فالأولى في دفع المناقشة هو الوجه الأول.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 371‌

..........

______________________________
الروايات
«1» ظاهر في سقوطه عن الانتفاع رأسا المساوق لنجاسته، إذ الغسالة الطاهرة لا تسقط عن الانتفاع بالمرة، لجواز استعمالها في الشّرب و في رفع الخبث و ان لم يجز استعماله في رفع الحدث. فالإنصاف أن دلالة هذه الروايات على تنجيس المتنجس و لو مع الواسطة مما لا ينبغي التأمل فيه، فما أوردناه على الاستدلال بها في بحث انفعال الماء القليل «2» غير صحيح.

نعم يرد على الاستدلال بها: ان موردها الماء فلا يعم الجوامد، و لو أردنا التعميم لكان غايته التعدي إلى مطلق المائعات، و أما الجوامد فلا موجب للتعدي إليها، إذ لا استبعاد في الالتزام بسراية النجاسة في خصوص المائعات و لو بوسائط عديدة لمكان لطافتها فتسرى إليها النجاسة و لو بغير الواسطة الأولى، بخلاف الجوامد، فاهتم الشارع بحفظها من القذارات. هذا مضافا الى ان السراية أمر ارتكازي، و ينقطع الارتكاز بكثرة الوسائط، كما في القذرات العرفية، فلو لا دعوى الإجماع على عدم الفرق بين المائعات و الجوامد لالتزمنا بعدم السراية في الثاني. فعموم الحكم بالسراية مبنى على الاحتياط، كما أشرنا إليه في التعليقة «3».

هذا كله في أدلة القائلين بتنجيس المتنجس مطلقا.

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 1 ص 151، 153 الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث: 7، 2.

لصدق القذر على ما أصابه المتنجس بالواسطة الاولى، و هكذا.

(2) راجع القسم الثاني من الجزء الأول ص 151 و قد ذكرنا هناك ما ناقش به- دام ظله- في الاستدلال بصحيحة زرارة أو حسنته المتقدمة في ص 368. من الإجمال في الدلالة و لا يدفعه سوى الوجه الأول و الثالث من الوجوه الثلاثة المذكورة في المتن في دفعه، لما عرفت في الوجه الثاني من انه لا مانع من اختلاف ملاك النهي في الافراد المنهي عنها.

(3) في تعليقته- دام ظله- على قول المصنف «قده»:- «الأقوى أن المتنجس منجس»- «في قوته على إطلاقه اشكال، نعم هو أحوط».

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 372‌

..........

______________________________
و أما القائلون بعدمه فاستدلوا له بوجوه:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق الهمداني «قده» «1»، من انه لو كان المتنجس منجسا مطلقا- كما هو معقد إجماعاتهم المحكية- للزم نجاسة جميع ما في أيدي المسلمين و أسواقهم، و لتعذر الخروج عن عهدة التكليف بالتجنب عن النجس، و التالي باطل- بشهادة العقل و النقل- فكذا المقدم. و قال «قده» في بيان وجه الملازمة ما حاصله- بتوضيح منا- انا نعلم ان كثيرا من الناس لا يتحرزون عن النجاسات، خصوصا الصبيان، و لا إشكال في أن هؤلاء يخالطون غيرهم في المآكل و المشارب و الحمامات الى غير ذلك، فيحصل العلم- بعد مضى برهة من الزمن- بتنجس جميع ما في الأسواق بل جميع ما في البيت من الأثاث و الفرش و اللباس و غير ذلك و كذا المحلات العامة كالسقايات التي يوضع فيها الماء ليشرب منه عامة الناس، و لا ينبغي التشكيك في حصول العلم بملاقاة الماء ليد متنجسة من الأطفال أو غيرهم في طول مدة قليلة فيتنجس كل من شرب منه فيخالط غيره في المقاهى و سائر المحلات العامة كما يخالط أهل بيته في المأكل و المشرب، فشخص واحد ينجس عددا كثيرا من أهل البلد و كل واحد من هؤلاء أيضا يخالط غيره فيتنجس جميع ما في البلد و هكذا بقية البلدان خاصة في بلدان يعيش فيها غير المسلمين كبغداد مثلا. و من جملة ذلك آلات البنائين فان غالب هؤلاء بل جميعهم لا يتحرزون عن تنجيسها فيستعملونها في الإمكان النجسة كالكنائف و البالوعات، ثم يستعملونها في الأماكن الأخر فيتنجس جميع البيت بذلك و هكذا.

______________________________
(1) في كتاب الطهارة من مصباح الفقيه ص 579.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 373‌

..........

______________________________
ثم قال «قده»: و من زعم ان هذه الأسباب لا تؤثر في حصول القطع لكل أحد بابتلائه في طول عمره بنجاسة موجبة لتنجيس ما في بيته من الأثاث، مع إذعانه بان إجماع العلماء على حكم يوجب القطع بمقالة المعصوم لكونه سببا عاديا لذلك، فلا أراه إلا مقلدا محضا لا يقوى على استنتاج المطالب من المبادي المحسوسة، فضلا عن ان يكون من أهل الاستدلال.

انتهى بتوضيح و تلخيص.

أقول: الإنصاف ان ما افاده «قده» و ان كان لا يقبل الإنكار و من يقول بانا نحتمل عدم اصابة النجس أو المتنجس لما في أيدينا بالخصوص، و ان حصل لنا العلم الإجمالي بالنسبة اليه و الى غيره مما هو خارج عن ابتلائنا، مكابر مخالف للوجدان فاحتمال الطهارة انما هو من باب عدم تنجسه بإصابة المتنجس لا من جهة عدم العلم بإصابته له، الا انه مع ذلك لا يدل هذا الوجه على عدم السراية مطلقا حتى بالواسطة الاولى، بل غايته عدم السّراية المطلقة و انها تنقطع في البين كما هو مقتضى الارتكاز العرفي في سراية القذارات العرفية، فإنهم يرون السّراية إلى واسطة أو واسطتين أو أكثر مثلا و لو الى ألف واسطة فلا يلتزمون بها، فالالتزام بتنجس الواسطة الأولى أو التفصيل بين الجوامد و المائعات بما ذكرناه من عدم السّراية في الجوامد الا من الواسطة الاولى و السّراية مطلقا في المائعات كما قام عليه الدليل لا يستلزم تعذر الامتثال و لغوية الحكم بالسّراية كما لا يخفى.

الوجه الثاني: استقرار سيرة المتشرعة خلفا عن سلف على عدم الاجتناب عن شي‌ء مما في أيدي المسلمين الا مع العلم بنجاسته خاصة بحيث من يجتنب عن ذلك يطعن عليه جميع المشترعة بالوسواس و يرونه منحرفا عن الطريقة المعروفة عندهم في اجتناب النجاسات.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 374‌

..........

______________________________
و قد ظهر جواب هذا الوجه مما ذكرناه في الوجه السابق، من ان تعذر الامتثال انما يتحقق فيما لو التزمنا بالسّراية المطلقة، لا ما إذا خصصناها بالواسطة الأولى أو بالمائعات دون الجوامد، و كذا الحال في مخالفة السيرة.

و ربما يقال: بان عدم الاجتناب- مع الالتزام بالنجاسة- انما هو لأجل أدلة نفي الحرج، لأن في الاجتناب عن جميع ما في البلد أو جميع ما في أيدي المسلمين حرجا عظيما فيرتفع التكليف بالاجتناب و ان كان نجسا، إذ لا مانع من الالتزام بكون ما في أيدينا نجسا معفوا عنه.

و يندفع: بأنه ان كان المراد الحرج الشخصي فلا بد من الالتزام بوجوب الاجتناب لمن لا يصيبه الحرج، كما إذا كان مثريا متمكنا من تحصيل جميع لوازمه أو بعضها من الطاهر، و فيما إذا كان في بيته من الدّواب ما يتمكن معه من تحصيل الدهن و اللبن و الحليب و غير ذلك و كان متمكنا أيضا من طبخ الخبز في بيته- مثلا- الى غير ذلك من لوازمه في الإعاشة، فلا بد من القول بوجوب الاجتناب على مثل هذا الشخص، و لا يجوز له شراء ما في أسواق المسلمين و استعمالها فيما يشترط فيه الطهارة من الأكل و الشرب، و غيرهما بل لا بد من وجوب تطهير ما يشترى من السوق بمقدار لا يكون فيه حرج، و لا أظن أن يلتزم به أحد. و ان كان المراد الحرج النوعي و انه يكفي في ارتفاع التكليف عن الجميع حتى عمن لا يكون في حقه حرج كون الاجتناب حرجيا على الأغلب، فيدفعه: ان الحكم بالنجاسة حينئذ يكون لغوا لعدم ترتب أى أثر عليه في هذا الحال لجواز الشرب و الوضوء و الغسل و غير ذلك مما يشترط فيه الطهارة من الماء النجس، و النجاسة التي لا يترتب عليها أثر لا فائدة في جعلها فهذا دليل على عدم الحكم بالتنجيس لا على عدم ترتب الأثر عليه.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 375‌

..........

______________________________
بل الصحيح في الجواب هو ما ذكرناه: من عدم اقتضاء هذا الوجه و سابقه إلا عدم السراية المطلقة لا عدم السراية مطلقا إذ لم يثبت قيام السيرة و لا تعذر الامتثال في ملاقي المتنجس بلا واسطة.

الوجه الثالث: الأخبار و فيها المعتبرات و عن المحدث الكاشاني الإشارة إليها في محكي كلامه، زاعما دلالتها على عدم السراية مطلقا «1» و نذكر أهمها.

منها: موثقة حنان بن سدير قال: سمعت رجلا سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام فقال: إني ربما بلت فلا أقدر على الماء و يشتد ذلك علي؟ فقال: إذا بلت و تمسحت فامسح ذكرك بريقك، فان وجدت شيئا فقل هذا من ذاك» «2».

بدعوى دلالتها على عدم تنجس الريق الممسوح به المخرج المتنجس بالبول و الا لم يكن مسحه بالريق مخلصا للسائل عما اشتد عليه و موجبا للشك في طهارة البلل المردد بين كونه بولا أو ريقا، للزوم الحكم بنجاسته حينئذ على كل تقدير لتنجس الريق بملاقاة المخرج أيضا.

و تندفع: بأنه لا بد من ملاحظة وجه الاشتداد على السائل و انه من أيّ جهة كان يشتد عليه الأمر، كي يتم الاستدلال بكيفية التخلص على عدم تنجيس المتنجس فان كان مراد السائل الاشتداد من جهة خروج البلل المشتبهة بالبول قبل الاستبراء لانه محكوم بالبولية حينئذ، فيتنجس ثوبه و بدنه و ينتقض وضوءه فيشتد عليه الأمر لذلك فعلّمه الامام عليه السّلام عملا يوجب الشك في ان ما خرج هل هو من البلل الخارج قبل الاستبراء كي‌

______________________________
(1) كتاب الطهارة من مصباح الفقيه ص 581.

(2) وسائل الشيعة: ج 1 ص 284 الباب: 13 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 7:

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 376‌

..........

______________________________
يحكم ببوليّته أو من الريق الطاهر و ان كان ملاقيا لمخرج البول الا انه لم يتنجس به، لان المتنجس لا ينجس فيبقى طاهرا غير ناقض، و مع التردد يحكم بالطهارة و عدم الانتقاض. ففيه أولا: انه لو كان التخلص من الشدّة بمسح الذكر بالريق مبنيا على عدم تنجيس المتنجس، كان الاولى تعليمه الاستبراء الموجب للقطع بطهارة البلل الخارج بعده، لأن المفروض عدم تنجسه بالمخرج المتنجس بالبول و لا حاجة الى تبعيد المسافة و تعليم طريقة تورث الشك و توجب الرجوع الى قاعدة الطهارة. و ثانيا: ان تقريب الاستدلال بهذا الوجه مبنى على ارادة مسح خصوص مخرج البول بالريق، مع انه لا دليل في الرواية على هذا التقييد و من المتحمل ارادة غيره من بقية الذكر، و دعوى الخصم مبنية على ارادة خصوص المخرج
«1» و ثالثا: ان الشدّة من جهة خروج البلل المشتبهة قبل الاستبراء لا ترتبط بوجود الماء و عدمه للحكم بنجاسته سواء تمكن من الماء أو لم يتمكن، فارادة الشدّة من هذه الجهة بعيدة. و ان كان المراد الاشتداد من أجل تنجس البلل الخارج بالمخرج و لو كان بعد الاستبراء- كما هو ظاهر الرواية- كانت الرواية أدل على تنجيس المتنجس، فلا بد حينئذ من حمل المسح على غير المخرج ليحصل الاشتباه و يتخلص السائل بذلك عن الشدّة، لحصول الشك له حينئذ في ان البلل هل هو من الريق الطاهر أو الخارج المتنجس بالمخرج، فيرجع الى قاعدة الطهارة. و احتمال خروج البلل على نحو لا يلاقي أطراف المخرج كي يكون الشدّة من أجل نجاسة نفس البلل لكونه قبل الاستبراء- كما هو مقتضى الاحتمال الأول- لا من جهة تنجسه بالمخرج، في غاية البعد بل من‌

______________________________
(1) يكفي في الاستدلال ترك الاستفصال و التمسك بالإطلاق الا ان يقال بلزوم تقييده حينئذ بما دل على تنجيس المتنجس.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 377‌

..........

______________________________
المحال العادي، لخروج البلل عادة بتثاقل و بطء فلا محالة يلاقي أطراف المخرج، و لا يخفى ظهور الرواية في هذا المعنى- كما أشرنا- لكون الشدّة حينئذ مستندة الى عدم القدرة على الماء، إذ لو كان عنده الماء و غسل المخرج لم يحكم بنجاسة البلل الخارج بملاقاته للمخرج و لو، منع من ذلك فلا أقل من الإجمال.

و منها: صحيحة حكم بن حكيم أنه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام فقال له: أبول فلا أصيب الماء، و قد أصاب يدي شي‌ء من البول فأمسحه بالحائط و بالتراب، ثم تعرق يدي فأمسح (فأمسّ) به وجهي أو بعض جسدي أو يصيب ثوبي؟ قال: لا بأس به» «1».

بدعوى: دلالتها على عدم تنجس الوجه أو بعض الجسد أو الثوب باليد المتنجسة بالبول مع الرطوبة المسرية.

و يدفعها: احتمال أن يكون الحكم بعدم النجاسة، إما من أجل عدم العلم بموضع النجاسة من اليد فيكون الوجه أو بعض الجسد من ملاقي أطراف الشبهة المحصورة المحكوم بالطهارة لعدم تعارف المسح بتمام الكف و عدم تعارف تعرقه كذلك، و إما من أجل عدم العلم بملاقاة الوجه للموضع من اليد المعلوم النجاسة تفصيلا فيكون الشك في ملاقاة النجس فيحكم بطهارة الملاقي أيضا، إذ لا يخلو الحال من أحد الوجهين: العلم الإجمالي أو التفصيلي بموضوع النجاسة من اليد، فإذا جاء هذا الاحتمال لم يتعين كون الحكم بطهارة الوجه أو بعض الجسد و الثوب من أجل عدم تنجيس المتنجس.

و منها: رواية سماعة قال: قلت لأبي الحسن موسى عليه السّلام: إني‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة: ج 3 ص 401 الباب: 6 من أبواب النجاسات، الحديث: 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 378‌

..........

______________________________
أبول ثم أتمسح بالأحجار، فيجي‌ء مني البلل ما يفسد سراويلي؟

(بعد استبرائي) قال: ليس به بأس» «1».

بدعوى دلالتها على عدم تنجس البلل بالمخرج المتنجس بالبول فتدل على عدم تنجيس المتنجس، إذ لا بد من تقييدها بما بعد الاستبراء لأن الخارج قبله محكوم بالنجاسة جزما على أن في نسخة التهذيب «2» زيادة قول السائل: «بعد استبرائي» فيتمحض جهة السؤال في ملاقاته مع المخرج المتنجس بالبول فتدل الرواية على المطلوب.

و تندفع أولا: بضعف السند لان فيه «حكم بن مسكين» إذ لم ينص أحد بتوثيقه أو مدحه و مجرد عدم الطعن في حقه لا يكفي في العمل برواياته، فما عن الشهيد الأول «قده» «3» من انه قال: «لما كان كثير الرواية و لم يرد فيه طعن فأنا أعمل بروايته» غير مسموع كما اعترض عليه الشهيد الثاني «قده» بأنه لا يكفي عدم الجرح بل لا بد من التوثيق و في السند أيضا «هيثم بن أبى مسروق النهدي» الراوي عن حكم و هو أيضا كسابقه الا انه ورد في حقه انه فاضل و قريب الأمر «4» فلا يمكن الاعتماد على هذه الرواية لضعف سندها بما ذكر «5».

و ثانيا: بضعف الدلالة لظهورها في كفاية الأحجار في الاستنجاء من‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 1 ص 283 الباب: 13 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث: 4.

(2) ج 1 ص 51 من طبع النجف الأشرف.

(3) تنقيح المقال للمامقانى ج 2 ص 360.

(4) تنقيح المقال للمامقانى ج 3 ص 305.

(5) هكذا أفاد- دام ظله- في البحث إلا انهما من رجال كامل الزيارات. أما الأول ففي ب 28 ح 2 ص 89 و اما الثاني ففي ب 70 ح 3 ص 170. و قد اعتمد- دام ظله- أخيرا على من وقع في اسناد الكتاب المذكور كما ذكرنا في تعليقة ص 33 فالرواية معتبرة من حيث السند.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 379‌

..........

______________________________
البول- كما هو مذهب العامة-
«1» فتحمل على التقية جمعا بينها و بين ما دل من الروايات «2» على عدم كفاية غير الماء في الاستنجاء منه، بخلاف الغائط فإنه يتخير فيه بين الغسل بالماء و الاستنجاء بالأحجار، و لو منع عن ظهورها في ذلك فلا أقل من تساوى الاحتمالين فتكون مجملة غير قابلة للاستدلال. و أما احتمال ان يكون نفي البأس من جهة احتمال عدم ملاقاة البلل لحافة الذكر المتنجسة بالبول فضعيف غايته- كما ذكرنا في ذيل موثقة حنان- و منها: صحيحة العيص بن قاسم قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء فمسح ذكره بحجر و قد عرق ذكره و فخذاه؟

قال: يغسل ذكره و فخذيه. و سألته عمن مسح ذكره بيده ثم عرقت يده فأصابه ثوبه يغسل ثوبه؟ قال: لا» «3».

بدعوى دلالة ذيلها على عدم تنجس الثوب باليد المتنجسة بالبول مع وجود العرق الموجب للسراية. و تندفع: بأنه لم يفرض تنجس اليد بالبول في السؤال الثاني، لأن مسح الذكر بها أعم من مسح المخرج، فمن المحتمل ارادة مسح غير المخرج و ان تكون جهة السؤال هي احتمال ان يكون مجرد مسحه موجبا لغسل اليد و ان لم يصبها البول، و لعل منشأ السؤال هو قول جملة‌

______________________________
(1) كما في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 38- 39 الطبعة الخامسة.

(2) الوسائل ج 1 ص 315 في الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة، الحديث 1 و 6 و في الباب 30، الحديث 2 ص 348 و في الباب 31، الحديث 2، ص 350.

(3) ذكر في الوسائل صدر الحديث في ج 1 ص 350 في الباب 31 من أبواب أحكام الخلوة، الحديث 2 و ذيله في ج 3 ص 401 في الباب 6 من أبواب النجاسات، الحديث 2 و صدره أيضا في الباب 26 منها ص 441.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 380‌

..........

______________________________
من العامة أو كثير منهم
«1» بان مس الذكر ينقض الوضوء فاحتمل السائل انه يوجب غسل اليد عندنا و ان لم يوجب الحدث كما زعمه العامة.

و لو نوقش في هذا الاحتمال و سلمنا الإطلاق بلحاظ ترك الاستفصال، أو إرادة مسح خصوص المخرج و تنجس اليد به، بقرينة الصدر- اعنى السؤال الأول- المفروض فيه مسح الذكر بالحجر، لان الممسوح فيه خصوص المخرج جزما تخلصا من عين البول الذي على المخرج، لكان هناك احتمال آخر و هو ان عدم تنجس الثوب باليد المتنجسة و لو مع وجود العرق الموجب للسّراية يحتمل ان يكون لوجهين: إما من جهة كونه ملاقيا لأطراف الشبهة المحصورة لعدم العلم بموضع نجاسة اليد بالتفصيل. و إما من جهة عدم العلم بإصابته للموضع النجس من اليد المعلوم بالتفصيل- لو فرض العلم به- لا من جهة عدم تنجيس المتنجس، و قرينة ذلك صدر الرواية حيث أمره الإمام عليه السّلام بغسل الفخذ إذا عرق، لحصول العلم عادة بإصابة المخرج المتنجس بالبول لها في حال المشي و الجلوس و نحو ذلك، و هذا بخلاف الثوب الملاقي لليد المتنجسة بالبول- كما أشرنا- و بذلك يجمع بين الصدر و الذيل و يرتفع التنافي بينهما.

و أما حمل «2» الصدر على صورة وجود العرق على الذكر حال البول بجعل الواو في قول السائل: «و قد عرق ذكره و فخذاه» حالية فيتنجس‌

______________________________
(1) كما عن المالكية و الشافعية و الحنابلة المختلفين في شروط المس خلافا للحنفية فإنهم لم يلتزموا بذلك و قد حملوا ما رواه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله «من مس ذكره فليتوضأ» على الوضوء اللغوي و هو غسل اليدين. راجع (كتاب الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 67- 68- 69 الطبعة الخامسة).

(2) كما في مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 581.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 381‌

..........

______________________________
العرق الذي على المخرج بنفس البول لا بالمخرج المتنجس به، فتخرج الصدر عما هو محل الكلام من سراية النجاسة في الجوامد، لاختصاصه حينئذ بالمائع الذي لا كلام في سرايته و بذلك يرتفع التنافي بين الصدر و الذيل، ففي غاية البعد لعدم معهوديّة عرق المخرج، على ان فرض عرق الفخذ حينئذ يكون لغوا. مضافا الى أنه حمل على الفرد النادر لندرة الفرض على تقدير تحققه.

فتحصل ان هذه الرواية من جهة إجمالها لا تجدي للخصم نفعا.

و منها: رواية حفص الأعور قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام الدّنّ يكون فيه الخمر ثم يجفّف يجعل فيه الخلّ؟ قال: نعم.» «1».

بدعوى دلالتها على كفاية الجفاف في عدم تنجس الخل بالدّن المتنجس بالخمر، فتكون دليلا على عدم تنجيس المتنجس.

و تندفع أولا: بأن دلالتها على ذلك انما هي بالإطلاق و ترك الاستفصال، فلا بد من تقييدها بما دل من الروايات على لزوم غسل الإناء الذي جعل فيه الخمر- كما عن الشيخ «قده»- و يؤيد ذلك ان الاكتفاء بالجفاف انما ورد في السؤال دون جواب الامام عليه السّلام بقوله: «نعم»، فلا مانع من تقييده بما بعد الغسل بقرينة سائر الروايات التي منها:

موثق عمار عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن الدّن يكون فيه الخمر هل يصلح ان يكون فيه خلّ أو ماء كامخ أو زيتون؟ قال: إذا غسل فلا بأس.» «2»

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 495 الباب 51 من أبواب النجاسات، الحديث: 2.

(2) في الباب المذكور، الحديث 1 و نحوه الحديث 4 و 5 و 6 المروي في الباب 30 من أبواب الأشربة المحرمة و قد سماه في الوسائل ب‍ (باب جواز استعمال أواني الخمر بعد غسلها) ج 17 ص 295.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 382‌

..........

______________________________
و ثانيا: لو سلم دلالتها على كفاية الجفاف في جعل الخل في دنّ الخمر من دون حاجة الى الغسل لكانت هذه من جملة الروايات
«1» الدالة على طهارة الخمر، لظهورها في بقاء إجزاء خمريّة في الدّن و لو بعد الجفاف، لانه لا يذهب بالاجزاء المتخلفة فتكون ك‍:

رواية حفص الأخرى قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام، إني آخذ الرّكوة فيقال انه إذا جعل فيها الخمر و غسلت «2» ثم جعل فيها البختج كان أطيب له فنأخذ الرّكوة فنجعل فيها الخمر فنخضخضه ثم نصبّه فنجعل فيها البختج؟ قال: لا بأس به» «3».

فإنها ظاهرة بل صريحة في بقاء اجزاء خمرية في الرّكوة بعد الخضّ و الصّب، و مع ذلك فقد جوّز الامام عليه السّلام جعل البختج فيها، فلا بد من حملها على التقية كسائر الروايات الدالة على طهارة الخمر جمعا بينها و بين ما دل على نجاستها «4».

و لو سلم عدم ظهورها في بقاء الأجزاء الخمرية لكانت مجملة، لاحتمال ان يكون الوجه في نفي البأس طهارة الخمر فلم يتنجس الدّن، كما يحتمل ان يكون الوجه فيه عدم تنجيس المتنجس، و مع الإجمال لا تصلح للاستدلال للخصم.

و منها: صحيحة علي بن مهزيار قال: كتب إليه سليمان بن رشيد‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة: ج 3 ص 471 من أبواب النجاسات، كالحديث: 10 و 11 و 12 و 13 و 14.

(2) اى بالخمر بقرينة الذيل.

(3) وسائل الشيعة الباب 30 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 3.

(4) وسائل الشيعة ج 3 ص 468 الباب 38 من أبواب النجاسات، كالحديث: 1 و 2 و 3 و 4 و 5 و غيرها.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 383‌

..........

______________________________
يخبره أنه بال في ظلمة اللّيل و انه أصاب كفّه برد نقطة من البول لم يشكّ أنّه أصابه و لم يره، و أنه مسحه بخرقة ثم نسي أن يغسله، و تمسح بدهن فمسح به كفيه و وجهه و رأسه ثم توضأ وضوء الصّلاة فصلّى؟ فأجابه بجواب قرأته بخطه، أما ما توهمت مما أصاب يدك فليس بشي‌ء إلا ما تحقق، فان حققت ذلك كنت حقيقا أن تعيد الصلاة اللّواتي كنت صليتهن بذلك الوضوء بعينه ما كان منهنّ في وقتها، و ما فات وقتها فلا إعادة عليك لها، من قبل أنّ الرجل إذا كان ثوبه نجسا لم يعد الصلاة إلا ما كان في وقت، و إذا كان جنبا أو صلى على غير وضوء فعليه إعادة الصلوات المكتوبات اللواتي فاتته، لان الثوب خلاف الجسد فاعمل على ذلك إن شاء اللّه»
«1».

و تقريب الاستدلال بها هو أنها أفادت كبرى كليّة قد فصّلت فيها بين الحدث و الخبث، فمع نسيان الأول يجب الإعادة و القضاء، و مع نسيان الثاني لا تجب إلا الإعادة في الوقت دون القضاء، فتكون كغيرها من الروايات الدالة على هذه الكبرى الكليّة.

ثم انها طبّقت هذه الكبرى على مفروض السؤال، و هو وضوء السائل مع نسيان البول الذي أصاب كفّه، بوجوب الإعادة دون القضاء، و لا يكون ذلك الا مع صحة وضوئه و ارتفاع الحدث به، و لا يتم ذلك الا بناء على عدم تنجيس المتنجس و الا لبطل الوضوء بتنجس مائه بإصابة يده المتنجسة بالبول، و لازمه وجوب الإعادة و القضاء.

و أما ما يتوهم من لزوم بطلان الوضوء على كل تقدير، اى و لو لم نقل بتنجيس المتنجس لاعتبار طهارة أعضاء الوضوء كما يعتبر طهارة مائه،

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 479 الباب 42 من أبواب النجاسات، الحديث: 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 384‌

..........

______________________________
فلو لم يبطل من الجهة الثانية لبطل من الجهة الأولى، لأن المفروض نجاسة كفّه بالبول.

فيندفع: بأنه لا دليل على اعتبار طهارة الأعضاء بما هي إذ لم يرد و لا رواية واحدة تدل على ذلك، و انما اعتبر الأصحاب طهارتها تحفظا على طهارة ماء الوضوء بناء على تنجسه بملاقاة الأعضاء المتنجسة، و قد دلت الرواية على عدم تنجسه بها و الا لوجب القضاء أيضا لبطلان الوضوء.

و قد يتوهم أيضا: أنّ مقتضى تقييد وجوب الإعادة بذلك الوضوء بعينه هو بطلانه، حيث قال عليه السّلام: «فان حققت ذلك كنت حقيقا ان تعيد الصلاة اللّواتي كنت صلّيتهن بذلك الوضوء بعينه» و الا فلا موجب للتقييد به لوجوب الإعادة- مع نجاسة البدن- و لو توضأ ثانيا و ثالثا و هكذا، فتعليق الأمر بالإعادة في الوقت على ذاك الوضوء بعينه يدل على بطلانه فيجب القضاء أيضا، فكيف اقتصر فيها على الإعادة؟

و يندفع: بأنّ وجه التقييد به ليس بطلانه، بل هو اعتبار تعدد الغسل في المتنجس بالبول، إذ بالوضوء الأول لا يحصل الغسل الإمرة واحدة لكفاية الغسل الوضوئى في غسل النجاسة. لتحقق الجريان به، فبالوضوء الأول لا ترتفع النجاسة و ان صح- بناء على عدم تنجيس المتنجس- فيجب الإعادة دون القضاء، فلو توضأ ثانيا ترتفع النجاسة لحصول التعدد فلا يجب حتى الإعادة، فالتقييد بذاك الوضوء بعينه يؤكد دلالتها على عدم تنجيس المتنجس.

فالإنصاف أن دلالتها على المطلوب مما لا يحتمل النقاش، الا انه مع ذلك لا يمكن العمل بها لأنها مضمرة، و ليس المضمر ممن يطمأن بعدم إضماره عن غير الامام عليه السّلام كزرارة و محمّد بن مسلم و أضرابهما و ليس المضمر‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 385‌

..........

______________________________
في هذه الرواية علي بن مهزيار الذي هو من الأجلاء كي يستبعد سؤاله غير الامام عليه السّلام، و انما المضمر سليمان بن رشيد و هو مجهول الحال، و يحتمل كونه عاميّا سئل بعض علماء العامّة، الا ان علي بن مهزيار قد اطمأن أو ظن بطريق معتبر عنده أنه سئل الإمام عليه السّلام، و هو لا يجدى لغيره.

و منها: الروايات الكثيرة الواردة في القطرات الناضحة من بدن الجنب أو من الأرض أو المغتسل الذي يبال فيه، في الإناء الذي يغتسل منه و كذا الواردة فيما ينتضح من الكنيف على الثوب، لما فيها من نفي البأس- الدال على الطهارة- عن تلك القطرات و مقتضى ترك الاستفصال فيها عدم الفرق بين الناضحة عن الأرض المتنجسة أو الطاهرة، فتدل على طهارة تلك القطرات مطلقا و ان أصابت الأرض أو البدن المتنجسين.

أقول: هذه الروايات على طوائف ثلاث.

الاولى: الروايات «1» الواردة في ان الجنب يغتسل فينضح من الأرض أو بدن الجنب في الإناء، فقال عليه السّلام: لا بأس. و لا دلالة لهذه الروايات على عدم تنجيس المتنجس، إذ لم يفرض فيها نجاسة الأرض أو بدن الجنب الملاقي للماء، فمن المحتمل ان تكون جهة السؤال توهم نجاسة بدن الجنب بما هو جنب كما عن بعض العامة «2» أو توهم نجاسة الماء المستعمل في‌

______________________________
(1) عن فضيل قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الجنب يغتسل فينتضح من الأرض في الإناء؟ فقال: لا بأس، هذا مما قال اللّه تعالى مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ».

و عن شهاب بن عبد ربه، عن أبى عبد اللّه عليه السّلام: «انه قال في الجنب يغتسل فيقطر الماء عن جسده في الإناء فينتضح الماء من الأرض فيصير في الإناء: انه لا بأس بهذا كله» وسائل الشيعة ج 1 ص 211 الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحديث: 1 و 6.

(2) قال العلامة في التذكرة- ج 1 ص 26- «و قال أبو يوسف: ان ادخل يده- يعنى الجنب- لم يفسد الماء و ان ادخل رجله فسد، لان الجنب نجس و عفي عن يده للحاجة.»

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 386‌

..........

______________________________
الغسل أو الوضوء كما نسب الى أبى حنيفة
«1» أو معرضيّة تنجس الماء بالمني كمعرضيّة الأرض- كأرض الحمام- للنجاسة، فيكون نفي البأس في هذه الأخبار من جهة عدم العلم بنجاسة الملاقي لا عدم تنجيسه للملاقي على فرض نجاسته، بل يمكن ان يقال: ان نفي البأس فيها انما هو لدفع توهم ان حكم القطرات الناضحة حكم الغسالة في مانعيتها عن الاغتسال بها، فتكون هذه الروايات في مقام بيان عدم مانعية تلك القطرات عن الاغتسال بالماء الذي وقعت فيه و ان حكم القطرات ليس كحكم نفس الغسالة، فتصبح هذه الأخبار أجنبية عما هو محل الكلام بالمرة.

الثانية الروايات: الدالة على نفي البأس عن القطرات الناضحة من الكنيف أو من مغتسل يبال فيه في الإناء الذي يغتسل منه أو تقع على الثوب، و ظاهرها فرض نجاسة الأرض، و لا أقل من شمولها للأرض النجسة بمقتضى ترك الاستفصال- الّذي هو دليل على العموم- في الجواب، فتدل هذه الروايات على طهارة تلك القطرات سواء نزت عن أرض معلومة النجاسة أو معلومة الطهارة أو مشكوكتها، من دون فرق بين جفافها و رطوبتها. و ذلك ك‍:

رواية عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أغتسل في مغتسل يبال فيه و يغتسل من الجنابة، فتقع في الإناء ما ينزو من الأرض؟

فقال: لا بأس به» «2».

الثالثة: و هي بمضمون الطائفة الثانية مع التقييد بالجفاف.

______________________________
(1) قد تعرضنا لنسبة القول المذكور إليه- في ج 2 ص 89- 91 من كتابنا- في بحث الماء المستعمل في الوضوء فراجع.

(2) وسائل الشيعة ج 3 ص 213 الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحديث: 7.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 387‌

..........

______________________________
كما عن علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام قال: سألته عن الكنيف يصبّ فيه الماء فينضح على الثياب، ما حاله؟ قال عليه السّلام: إذا كان جافا فلا بأس»
«1».

و لا بد من تقييد سابقتها بهذه، لأن مفهومها ثبوت البأس إذا لم يكن الكنيف جافا، و الظاهر ان المراد بالجفاف ما يقابل اليبوسة، و إطلاقها يشمل صورة العلم بنجاسة المحل- كما ذكرنا- فتدل على طهارة القطرات الناضحة من الأرض النجسة بشرط الجفاف.

و ما قيل «2» من احتمال أن يكون المراد من الكنيف الجاف ما لا يجتمع ما يقع فيه من قذر، في مقابل ما يجتمع فيه، فيلازم الشك في النجاسة لتوارد الحالتين من الطهارة و النجاسة، لأنه كما ينجس بملاقاة القذر كذلك يطهر بالماء المستعمل في الاستنجاء و نحوه من المياه الطاهرة، فيرجع فيه الى أصالة الطهارة و يحكم بطهارة ملاقيه لذلك.

غير سديد، لان الجفاف لا يلازم الشك في النجاسة إذ قد يكون مع العلم بها، و قد يكون مع العلم بالطهارة، و قد يجتمع مع الشك فيها، و مقتضى ترك الاستفصال عدم الفرق بين هذه الصور- كما أشرنا- و بالجملة نتيجة الجمع بين هاتين الطائفتين هو الحكم بعدم انفعال القطرات الناضحة من الكنيف المتنجس و لكن بشرط اليبوسة و لا نرى مانعا من الالتزام بعدم انفعال الماء القليل الوارد على المتنجس إذا لم يستقر معه، بمقتضى هذه الروايات فتكون مخصّصة لأدلة انفعال القليل، بل يمكن الالتزام بعدم التخصيص فيها، لأن الأخبار الدالة على انفعاله على طائفتين: «الأولى»‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 501 الباب: 60 من أبواب النجاسات، الحديث: 2.

(2) كما في المستمسك ج 1 ص 483، الطبعة الرابعة.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 388‌

..........

______________________________
مفهوم أخبار الكرو «الثانية» الروايات الواردة في الموارد المختلفة الدالة على تنجس الماء أو غيره بملاقاة النجس من الميتة و الدم و غيرهما، و لا إطلاق في شي‌ء منهما يدل على انفعال القليل الوارد على النجس و ان لم يستقر معه.

«أما الاولى» فلأن مفهوم قوله عليه السّلام: «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء» «1»، و هو انه إذا لم يكن قدر الكر ينجسه شي‌ء ما، و لا إطلاق في هذا المفهوم كما حققناه في محلّه، لان نقيض السالبة الكلية انما هو الموجبة الجزئية، و يكفي في صدقها تنجس الماء القليل بعين النجس أو بالمتنجس مع الاستقرار معه، فيلتزم بانفعاله مطلقا و لو كان الماء واردا على النجس إلا أنه بشرط الاستقرار معه، خلافا للسيد المرتضى «قده» حيث انه فصّل بين الوارد و المورد و لم يلتزم بالنجاسة في الأول مطلقا حتى مع الاستقرار، و الحاصل انه لا إطلاق لهذا المفهوم لا من حيث الأفراد و لا من حيث كيفية التنجس.

«و أما الثانية» أعني الروايات الواردة في الموارد المختلفة، فلان مورد جميعها استقرار النجس كالميتة و الدم و نحوهما مع الماء، فلا تعم غير المستقر معه، فالالتزام بعدم انفعال القليل الوارد على النجس غير المستقر معه يكون من باب التخصص لا التخصيص في أدلة الانفعال، فيكون العمل بهذه الروايات أسهل.

فتحصل من جميع ما ذكرنا: ان شيئا من هذه الأخبار لا يدل على عدم تنجيس المتنجس مطلقا، فالصحيح هو ما ذكرناه من ان المتنجس بلا واسطة- اى المتنجس بعين النجس- يكون منجسا لملاقيه من دون فرق‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 1 ص 158 الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث: 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 389‌

لكن لا يجرى عليه جميع أحكام النجس (1)

______________________________
بين الجوامد و المائعات بلا اشكال و أما المتنجس مع الواسطة- أي المتنجس بالمتنجس الأول- فإن كان في المائعات فلا إشكال في تنجيسه لملاقيه أيضا، سواء أ كان الميعان في طرف الملاقي أو الملاقي فكما ان الثوب المتنجس باليد المتنجسة بالبول- مثلا- ينجس ما أصابه من الماء أو غيره من المائعات، كذلك الماء المتنجس باليد ينجس ملاقيه و ان كان جامدا، بل قد عرفت
«1» ان حكم الماء المتنجس حكم نفس النجس فالمتنجس بالمائع المتنجس ينجس ملاقيه و ان كان جامدا كالإناء المتنجس بالولوغ- مثلا- ينجس الطعام المنصب فيه، و ان كان المتلاقيان جامدين و كان الملاقي- و هو الإناء المتنجس بالماء المتنجس بولوغ الكلب- من الواسطة الثانية و أما إذا كان في الجوامد فلا دليل لنا على السّراية في غير الواسطة الاولى فاليد المتنجسة بالبول تسرى نجاستها الى الثوب الملاقي لها و أما إذا لاقى الثوب جامدا آخر فيشكل القول بالسّراية لجمود المتلاقيين و عدم وجود إطلاق في أدلة السراية تشمل الفرض الا ان المشهور قالوا بالسراية أيضا و يكون مخالفتهم أشكل من الإفتاء بالعدم و لا ينبغي ترك الاحتياط «2».

(1) بعد البناء على تنجيس المتنجس مطلقا أو في خصوص الواسطة الاولى، يقع الكلام في أنه هل يجرى على المتنجس بالمتنجس أحكام نفس النجس أي الأحكام المترتبة على المتنجس بعين النجس أم لا؟ الظاهر هو الثاني، لأن ثبوت الحكم تابع لثبوت موضوعه، فالأحكام المترتبة على اصابة البول كتعدد الغسل و على و لوغ الكلب كالتعفير لا تترتب على اصابة‌

______________________________
(1) في ص 364 في ذيل الروايات الدالة على كيفية تطهير الأواني و غيرها.

(2) كما جاء في تعليقته- دام ظله- على المتن على ما أشرنا في ذيل ص: 304.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 390‌

..........

______________________________
المتنجس بالبول أو المتنجس بالولوغ و هكذا، لعدم تحقق موضوعها فإذا تنجس الإناء بالولوغ يجب تعفيره، لكن إذا تنجس إناء آخر بملاقاة هذا الإناء أو صب ماء الولوغ فيه لا يجب تعفيره، و يكفي في الطهارة الغسل مرة واحدة، لإطلاقات أدلة الغسل الا ان يمنع الإطلاق، فلا بد من الرجوع الى استصحاب النجاسة لو قلنا بجريانه في الأحكام الكلية، فيجب الغسل مرتين بل التعفير لو احتملنا لزومه في المتنجس بماء الولوغ مطلقا، تحصيلا لليقين بالطهارة، الا ان الإطلاق ثابت و الاستصحاب المذكور ممنوع- كما مر غير مرة- و الحاصل: ان الخصوصية الزائدة على طبيعي الغسل، من التعدد مرتين أو أكثر أو التعفير، تحتاج الى دليل خاص و لا يكون إلا في موارد خاصة نعم الاحتياط حسن غير لازم- كما في المتن- و قد يتوهم: لزوم تعفير الإناء الذي صب فيه ماء الولوغ من إناء آخر، بدعوى ظهور دليله في أن موضوعه الإناء الذي هو ظرف لماء الولوغ و ان لم يكن ظرفا لنفس الولوغ فيه، و يتحقق الموضوع في الإناء المنصب فيه ماء الولوغ.

و يندفع: بان الظاهر من صحيحة البقباق التي هي مستند الحكم بلزوم التعفير هو اختصاص الحكم بالإناء الذي ولغ فيه الكلب.

قال- في حديث- انه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الكلب؟ فقال:

رجس نجس لا تتوضأ بفضله، و اصبب ذلك الماء و اغسله بالتراب أوّل مرة ثم بالماء» «1».

فان مرجع الضمير في قوله عليه السّلام: «و اغسله بالتراب» و ان لم‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 415 الباب: 12 من أبواب النجاسات، الحديث: 2.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 391‌

..........

______________________________
يذكر، الا ان مساق الكلام يدل على ان المرجع هو الإناء الذي يشرب منه الكلب و بقي فضله فيه، و الا فلا معنى للصب، و شمول الحكم لغيره يحتاج الى الدليل.

و لو نوقش في ذلك فلا أقل الإجمال، إذ المفروض انه لم يذكر مرجع الضمير لقوله عليه السّلام: «اغسله» كي يتمسك بإطلاق الإناء الذي فيه فضله، بأنه أعم مما شرب منه أو صبّ فيه من إناء آخر، فيتردد الأمر بين كون المرجع هو خصوص الإناء الذي ولغ فيه الكلب أو الإناء الذي فيه فضله و لو لم يشرب منه، و القدر المتقين هو الأول، فالمرجع في غيره إطلاقات أدلة الغسل، فلا حظ و تأمل و يؤيد ما ذكرنا.

رواية حريز عمن أخبره، عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا ولغ الكلب في الإناء فصبّه» «1».

و ما عن محمّد بن مسلم، عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الكلب يشرب من الإناء؟ قال: اغسل الإناء.» «2».

فان لفظ «في و من» ظاهر في ترتب الحكم على الإناء الذي شرب فيه أو منه الكلب، و بعد تقييدهما بالرواية الأولى يجب فيه التعفير أيضا.

و دعوى القطع بالمناط و انه انتقال (الميكروبات) التي يحملها فم الكلب إلى الماء، و لا فرق في ذلك بين ما ولغ فيه الكلب أو صبّ فيه ماء الولوغ، عهدتها على مدّعيها، لا نجزم بها، و من هنا لا يجب التعفير في غير الأواني كالثوب و اليد و غيرهما مما لاقاه ماء الولوغ مع انتقال (الميكروبات) إليها أيضا.

______________________________
(1) في الباب المتقدم، الحديث: 5.

(2) في الباب المتقدم، الحديث: 3.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 392‌

فإذا تنجس الإناء بالولوغ يجب تعفيره، لكن إذا تنجس إناء آخر بملاقاة هذا الإناء أو صب ماء الولوغ في إناء آخر لا يجب فيه التعفير (1) و ان كان الأحوط خصوصا في الفرض الثاني (2) و كذا إذا تنجس الثوب بالبول وجب تعدد الغسل (3)، لكن إذا تنجس ثوب آخر بملاقاة هذا الثوب لا يجب فيه التعدد، و كذا إذا تنجس شي‌ء بغسالة البول- بناء على نجاسة الغسالة- لا يجب فيه التعدد.

[مسألة 12: قد مر أنه يشترط في تنجس الشي‌ء بالملاقاة تأثره]

(مسألة 12): قد مر أنه يشترط في تنجس الشي‌ء بالملاقاة تأثره (4)، فعلى هذا لو فرض جسم لا يتأثر بالرطوبة أصلا، كما إذا دهن على نحو إذا غمس في الإناء لا يتبلل أصلا، يمكن ان يقال: انه لا يتنجس بالملاقاة و لو مع الرطوبة المسرية، و يحتمل ان تكون رجل الزنبور و الذباب و البق من هذا القبيل.

______________________________
(1) لاختصاص الأدلة بإناء الولوغ و لا تعم غيره و ان صب فيه ماء الولوغ.

(2) و عن بعضهم تقوية هذا الاحتمال، بدعوى ان المناط في وجوب التعفير هو تنجس الإناء بماء الولوغ سواء ولغ فيه الكلب أيضا أم لا، و قد عرفت آنفا ان النجاسة و آثارها أحكام تعبديّة لا بد فيها من الاقتصار على دلالة الدليل، و لا عموم في دليل التعفير يشمل غير إناء الولوغ و لا أقل من الإجمال- كما ذكرنا- فلا حظ صحيح الفضل و غيرها من الروايات المتقدمة.

(3) كما سيأتي ان شاء اللّه. في فصل المطهرات في التطهير بالماء.

(4) قد مر في أول هذا الفصل اشتراط السراية بالرطوبة، فلا بد من وجود رطوبة توجب انتقال النجاسة إلى الملاقي للنجس بمقتضى الارتكاز العرفي- كما مر- و هذه الكبرى مسلمة لا كلام فيها، الا ان الصغريات التي ذكرها في المتن ممنوعة لا يمكننا المساعدة عليها فان الدهن الذي على الجسم‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 393‌

[مسألة 13: الملاقاة في الباطن لا توجب التنجيس]

(مسألة 13): الملاقاة في الباطن لا توجب التنجيس (1) فالنخامة الخارجة من الأنف طاهرة و ان لاقت الدم في باطن الأنف. نعم لو ادخل فيه شي‌ء من الخارج و لاقى الدم في الباطن فالأحوط فيه الاجتناب.

______________________________
لا يمنع عن تنجسه لتأثر نفس الدهن بملاقاة الماء النجس فيتنجس الجسم بالدهن المتنجس لا محالة، فكيف يمكن دعوى عدم تأثر الجسم بالرطوبة المتنجسة. و هكذا رجل الذباب و نظيريه- الزنبور و البق- تتأثر بملاقاة الرطوبة المسرية كما هو المشاهد بالوجدان فيما إذا طار الذباب من جسم رطب و وقع على اليد و الوجه و غيرهما من أعضاء بدن الإنسان، و من هنا ذكرنا في التعليقة ان ما أورده في المتن مجرد فرض لا واقع له.

(1) قد تقدم الكلام في ذلك في المسألة الأولى من مسائل نجاسة البول و الغائط فراجع «1».

و قد وقع الفراغ بحمد اللّه و المنّة من إعداد (الجزء الثالث) من هذا الكتاب دروس في فقه الشيعة في عاصمة العلم و الدين النجف الأشرف في جوار باب مدينة علم الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السّلام على يد مؤلفه أقل خدام العلم في شهر ربيع الأول لسنة 1379. الهجرية و تليها الأجزاء الأخرى بعون اللّه تبارك و تعالى، و منه أستمد التأييد و التسديد و ما توفيقي إلّا باللّه عليه توكلت و إليه أنيب.

______________________________
(1) راجع كتابنا ج 2 ص 275- 282. و في تعليقته- دام ظله- على قول المصنف «قده» «فالأحوط فيه الاجتناب» «تقدم ان الأقوى فيه الحكم بالطهارة» وجه الأقوائية هو ما ذكرناه هناك من عدم وجود دليل على نجاسة الدم في الباطن. نعم لو خرج الشي‌ء و كان عليه دم يحكم بنجاسته لانه من الملاقاة في الخارج بقاء و ان لم يكن كذلك حدوثا.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net